بدري نوئيل يوسف ـ السويد
(اجزاء تحكي حال الشارع العمراني والاجتماعي والاقتصادي في محافظات العراق وقد اخذتُ مدينة السليمانية التي تعتبر مستقرة نموذجا . فما حال بقية المحافظات ..! كان الله في عون ساكنيها) .
الجزء السابع
كنت ابحث عن كتاب قديم لدى المكتبات في مدينة السليمانية فلن اجده ، نصحني صاحب احدى المكتبات ان اتوجه الى ساحة السراي حيث هناك تجد باعة كتب ، كنت اعرف ان في الساحة مكتبات فرشت الرصيف المقابل لساحة السراي لبيع الكتب ، ولكن لم اعلم انني سأجد الكتاب المطلوب ،
حيث تحول الرصيف الى مكتبات مفتوحة بعضها تحوي الملازم المدرسية وأخرى الكتب الحديثة ، وكذلك تجد الكتب القديمة والنادرة المستعملة ، فرشت على الرصيف في الهواء الطلق ، أو تحت مظلة تقي البائع حر الصيف أو برد ومطر الشتاء ، وفي المساء تترك الكتب محلها وتغطى بقماش أو نايلون لحمايتها ، يقف امام مكتبات الرصيف القراء بمختلف شرائحهم ، يشترون من الكتب ما يناسبهم وبأسعار معقولة ، هذه المكتبات الشعبية فضاء شعبي لتداول المعرفة والعناوين النادرة وتؤمن حاجة أعداد كبيرة من القراء وخاصة الطلاب من المراجع العلمية والأكاديمية ، وتعد سوقا موازيا لسوق المكتبات التي تعرض كتبها بأسعار باهظة .
بدأت البحث والسؤال عن الكتاب الذي اطلبه لدى الباعة بين مكتبات الرصيف ، فمن الباعة هز رأسه نافيا وأخر طقطق بفمه يعني لا يوجد لدية ، والأخر اشار بيده الى بائع بقربه ، وأخيرا وصلت الى البائع المطلوب اراه يحمل تلفونه الجوال بيده و سيجارته في فمه معلقة على شفته السفلى يتكلم وينفث دخانها بوجه الزبون ، سألته عن طلبي .
فقال لي : هذا العنوان نادر وطبعته في بيروت ولم تجدها لأنها نفذت ولكن استطيع ان اجد لك الكتاب .
قلت له : وكيف تجد الكتاب وقد نفذت طبعته .
قال مبتسما : هذا سر المهنة .. عليك ان تدفع خمسة عشرة الف دينار والكتاب يكون عندك غدا .
قلت له : لا مانع لدي المبلغ المهم احصل على الكتاب .
اتفقنا ان استلم منه الكتاب في اليوم التالي ، ثم اتجهت الى المقهى الصغير القابع في شارع صابون كران حيث شيخنا الجليل يجلس هناك ينتظرني . بعد الترحيب وشرب الشاي .
قلت له : كنت ابحث عن كتاب لدى مكتبات الرصيف القابعة حول الساحة وأمام بناية السراي .
قال بهدوء وبنبرة جدية : قبل الحديث عن الكتب اقول لك بناية السراي التي تقع مقابل الساحة من أقدم الأبنية في مدينة السليمانية ، فهي بناية تراثية مهمة كونها كانت دار الامارة البابانية منذ تأسيس مدينة السليمانية ، ويؤكد بعض المؤرخين ان عمر البناية يتجاوز المائة وخمسين عاما ، وهي من طابقين بنيت من الطين والحجر ، وتقوم السلطات المحلية بتعمير وتحويل بناية السراي وفقاً لطرازه القديم الى متحف وطني يضم تاريخ مدينة السليمانية منذ تأسيسها . ويعتبر خطوة على طريق تعريف أهل المدينة والسياح بحضارة وتاريخ المدينة ، حيث سيكون قسما من بناية السراي يحوي على محال تراثية سيتم فيها عرض المنتجات المحلية التراثية والفلكلورية .
أما الساحة المقابلة للسراي التي اخذت شكلا دائريا نتيجة الأبنية المحيطة حولها ، وتحوي الساحة بعض التماثيل والصور الكبيرة للشخصيات السياسية والأدبية المعروفة في التاريخ الكردي ،
منهم ابراهيم باشا بابان مؤسس مدينة السليمانية ، والملك محمود الحفيد ، فيما يتوزع بائعي مكتبات الرصيف من الكتب والصحف والملازم المدرسية
على ارصفة الساحة الجانبية ، تكسر الدرج المؤدي لهذه الساحة وتشققت وخلع مرمر ارضياتها ، في وسطها نافورة ماء لا تعمل وكأنها منسية من قبل البلدية ، والتي لا تنسجم مع بناية السراي الحالية
سألته باستغراب : ماذا تقترح ان تكون هذه الساحة التي اطلق عليها المتظاهرون ميدان التحرير .
قال بجدية:هذه المظاهرات أحيت روح السراي وأعادت إلى الذاكرة رمزية هذا المكان ، فقد شهدت مدينة السليمانية احداث دامية والمعروفة بأحداث 6 أيلول عام 1930 عندما تصدت الشرطة للمتظاهرين ، وقتل عدد منهم .
اقترح ان تقوم الجهات المحلية المسئولة ببناء اكشاك خشبية صغيرة جميلة لأصحاب مكتبات الرصيف بدلا من فرش الكتب على الارض لا تزيد مساحة كل كشك عن ستة امتار مربعة ، تكون مكتبة جميلة حضرية تحيط بالساحة ، وهذه الاكشاك تعطى بإيجار الى باعة مكتبات الرصيف . ثم اجراء تغير لهذه الساحة وعمل نصب تذكاري يمثل حركة الشيخ محمود الحفيد عام 1918 التي كان لها دور مهم في تاريخ المدينة ، وأنا اتمنى ان يكون هناك صرحا كبير .
بدلا من هذه الصور التي علقت على الجدران ، ويكون الصرح من عدد من التماثيل لشخصيات كانت معه عند تأسيس وزارته تحيط بتمثال في الوسط للشيخ محمود ، وعلى جانبي التماثيل نجد اشكال فنية تحكي الفترة الزمنية التي مرت على السليمانية ومنها قصف الطائرات الانكليزية المدينة والمجاعة التي حلت اثناء الحرب العالمية الاولى ، وتحت النصب تشيد قاعة لتحوي على صور وأحداث 6 ايلول 1930 وصور من زمن الشيخ محمود .
قلت له : افكار جيدة مطروحة امام المسئولين .
قال : نعم هذه الفكرة اتمنى تصبح واقعا ، وأنت وأصدقائك من المهندسين وهناك الكثير من الفنانين والنحاتين والمهندسين تستطيعوا ان تقدموا تصميما لصرحا فنيا جميلا ، ثق يا صديقي الكثير من الجيل الجديد لا يعلم ما حدث أيام زمان ، لأنه مشغول بالأجهزة الحديثة .
قلت له بفرح : لا مانع ان اساهم في التصميم اذا طلبت الجهات المسئولة ، اشكرك على هذه الافكار .. ونعود الى موضوع مكتبات الرصيف ، في زمن غزته التكنولوجيا الرقمية فهذه المقولة فقدت قيمتها أن الكتاب خير جليس للإنسان .
قال بنبرة حزينة : نعم الانترنت والأقراص المضغوطة وغيرها من الوسائل السهلة التي أصبح العديد من الأشخاص يفضلونها على اقتناء الكتب ، وتستطيع تصفح المجلات والصحف اليومية التي تصدر في كل انحار العالم ، وهذه التكنولوجيا اصبحت خير جليس بدل الكتاب ، كما افرزت الوضع الصعب في السنوات الأخيرة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية لبائعي الكتب المطبوعة حديثا بصفة عامة والمستعملة منها .
قلت له مستفسرا : الملاحظ ان عدد كبير من مكتبات الرصيف تبيع الملزمات المدرسية .
تنهد بحسرة واخذ نفسا عميقا من سيجارته وقال : لم تكن ظاهرة انتشار الملازم المدرسية أيام زمان عندما كنا في المدرسة مع العلم ان المناهج المدرسية كانت اصعب ، ويعود انتشار تداول الملازم الى بداية الثمانينيات ، فكانت ملازم اللغة الانكليزية أولى الملازم المخصصة للصف السادس العلمي والأدبي ثم انتشرت هذه الظاهرة ، ويعتقد الكثير أن الفكرة من الملازم المدرسية تسهيل وتبسيط المادة الدراسية حيث يقوم عدد من اساتذة المواد الدراسية الى تلخيص ما موجود في المنهج الدراسي وجعلها أكثر يسرا وسهولة بالنسبة للطالب .
قلت معقبا : ولكن الملازم منتشرة في جميع المكتبات ويعتمد عليها عدد كبير من الطلاب .
قال بنبرة حزينة : ان جزء من الملازم المدرسية المنتشرة في الاسواق معدة من قبل مدرسين عاديين وليس اساتذة مختصين ، هذه الملازم تهمل الكثير من الحقائق والفقرات الموجودة في الكتب المنهجية وتؤدي الى عجز الطلبة للإجابة عن اسئلة الامتحان ، وبعض هذه الملازم تجارية وتقوم مكتبات بطباعتها وتوزيعها على باعة مكتبات الرصيف وغيرهم ، ولا تعتبر جزء من العملية التعليمة . هذه الملازم تختلف من مدرس لآخر ، برأي لم تحل محل المنهاج المدرسي ، وتجد تذمر أولياء أمور الطلبة من هذه الظاهرة ويعتبروها عبء جديد يقع على عاتق العائلة بالإضافة إلى تكاليف الدفاتر المدرسية .
قلت : لكن الكثير من الطلاب يعتمدون على الملازم المدرسية والتدريس الخصوصي.
قال : يعتبر ويعتقد بعض اولياء الطلبة أن التدريس الخصوصي وكذلك الاعتماد على الملازم المدرسية ظاهرة جيدة لزيادة معلومات الطالب الدراسية والعلمية ، وأصبحت هذه الظاهرة آفة خطيرة تنخر في جسد التعليم لا تقل خطورة عن بقية الآفات كالفساد الاداري والرشوة ، وبات الطالب يعتمد على التدريس الخصوصي والملازم المدرسية في دراسة المناهج بديلا للمناهج التعليمية وأصبحت هاتان الظاهرتان ركناً أساسياً في المسيرة العملية التعليمية ، و أثرت سلباً على سير العملية التربوية وخاصة إذا كان توجيه بعض المعلمين والمدرسين بضرورة الاعتماد على الملازم المدرسية التي هم كتبوها وحث الطالب على التدريس الخصوصي . ولو كان الطالب مجتهد خلال فترة التعليم لما اعطى فرصة لهولاء المدرسين والمدرسات استغلال الطلبة وأسرهم بهدف الربح بحجة تقويـة الطالب وتهيئته للامتحانات النهائية .
قلت له : هناك اختلاف في مواضيع الملازم وكانت السبب في رسوب العديد من الطلاب لان الاستاذ الاول يشرح الموضوع المعين بإسهاب وينشره في ملزمته ، اما الاستاذ الثاني لا يعطي قيمة للموضوع عينه ويقدمه في ملزمته بصورة بسيطة فهذا يربك الطلاب وبالتالي فان الضحية في هذا كله هو الطالب .
قال بنبرة هادئة : نعم هذا صحيح بالإضافة لتقاعس بعض المدرسين في الالتزام بواجبهم المهني ، أو يتعمد عدم شرحه للمادة بصورة وافية ، وهذه اسباب تؤدي الطالب للّجوء لشراء الملازم كي تساعده على دراسة المنهج في اسرع وقت ممكن ، أو يجبر الطالب على أن يتجه الى اتخاذ طريق الدروس الخصوصية .
هذه الظواهر ستبقى تلاحق الطلاب على مر السنين ، وستبقى الملازم المدرسية هي الحل لا فرار منها ، في ظل غياب الرادع وغياب الرقيب الحكومي ، وعبء جديد مضاف لأعباء العائلة هو التدريس الخصوصي الذي اعتبره من ظواهر الجهل الثقافي الذي يفتك بالعملية التربوية وعلى الجهات المسئولة محاربة هذه الظاهرة .
قلت له : شكرا لك شيخنا الجليل على ما قدمته من افكار أملي ان تصل الى اعين المسئولين ودعته على امل اللقاء غدا .
في مساء اليوم حكيت لحفيدتي ما قاله الشيخ عن الملازم المدرسية ، اقتنعت بكلامه ووعدتني بانتا ستلتزم بالمنهج الدراسي المقرر ولست بحاجة الى الملزمة التي اصبحت مرض منتشر بين الطلاب .
في الصباح اليوم التالي ذهبت الى مكتبة الرصيف وأملي ان يكون بائع الكتب المستعلمة جهز الكتاب المطلوب لاستلمه منه ، سلمت عليه وقلت له لقد اتفقنا البارحة ان تجلب لي الكتاب الذي طلبته .
قال بنوع من الارتباك : اخي الكريم صاحب الكتاب طلب ثمنه عشرين الف دينار .
قلت له : ولكن اتفقنا على مبلغ وعيب على الرجل أن يغير كلامه .
قال : انا لم اغير كلامي لكن صاحب الكتاب هو الذي طلب المبلغ . وأنت تعرف ان الكتاب مستعمل .
قلت له : وأنا لن ادفع اكثر .. وبعكسه لست بحاجة الى الكتاب .
قال : تفضل اخي هذا الكتاب ...
دفعت له المبلغ واتجهت الى المقهى حيث لقائي اليومي مع الشيخ الجليل .
نلتقي في الجزء الثامن شوارع المدينة .. خليها على الله .
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق
http://www.algardenia.com/maqalat/17557-2015-07-02-07-43-25.html
1031 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع