المهندس بدري نوئيل ـ السويد
(اجزاء تحكي حال الشارع العمراني والاجتماعي والاقتصادي في محافظات العراق وقد اخذتُ مدينة السليمانية التي تعتبر مستقرة نموذجا . فما حال بقية المحافظات ..؟ كان الله في عون ساكنيها).
الجزء الاول :
في هذا اليوم كل شيء كان مختلفاً ، يوما ممطرا مصحوبا بهواء بارد ، وأنا على موعد مع شيخنا الجليل في المقهى الشعبي الصغير فقد طلبتُ منه ان يتحدث حول شوارع المدينة وأرصفتها ،
كُنت في المنزل واقفا خلف النافذة انظر من خلالها نحو السماء الممطرة واسمع صوت حبّات المطر التي تضرب الزجاج بإيقاع متناغم ترسل لي نغمة موسيقية .
قبل لحظات من خروجي من المنزل كان شيخنا يكلمني عبر الهاتف وطلب مني تغير مكان لقائنا الى شقته ، ارتديت معطفي الأسود وضعت وشاحي الخمري حول عنقي ، حملت دفتر ملاحظاتي ومظلتي وخرجت مسرعا نحو الزقاق(اقصد الشارع امام المنزل) ، وقفت عند الباب الخارجي للمنزل لحظات مندهشا ومستغربا فقد ارتفع منسوب الماء في الزقاق والشوارع المتصلة معه نتيجة الامطار وإغلاق فتحات مجاري تصريف المياه نتيجة تراكم الاوساخ وأكياس النايلون وانجراف كميات من الحجارة والأتربة نحو الفتحات ، والبعض الاخر من الفتحات ممتلئة بالمياه نتيجة انسداد انابيب التصريف ، توكلت على الله واتجهت نحو الشارع العام والمشكلة امامي انني لا استطيع السير في الزقاق لأنه ممتلئ بالماء ،
ولماذا لا تقوم الجهات المسئولة بتنظيف فتحات المجاري قبل موسم الامطار لا اعلم .
اما الارصفة فمشغولة من قبل اصحاب المحلات أو المنازل بوقوف سياراتهم فوقها ، وعليه ان اقفز بين الرصيف والشارع تجنبا لغوص قدمي في الماء او العثرة على الرصيف ، لان أكثر الارصفة ليست على مستوى واحد ، فكل مسافة بارتفاع معين وكل منزل شيد مأرب منزله او مدخل المنزل على هواه والارتفاع المناسب له ، وقد بلط امام منزله إما بالبلاط والأخر بالمرمر أو الاسمنت،وبعض الدور استغل الرصيف ببناء درج للصعود للطابق الثاني
قلت مع نفسي :
اين الفنيين في البلدية ، لماذا لم ينبهوا عند تشيد الارصفة امام الدور وجعلها مثل الدرج ، ولماذا لا تبلط بنوع واحد ولماذا يبنى فوق الرصيف درج لدخول المنزل ، وهذا يعتبر تعدي على الارصفة والحق العام ، ولماذا يستخدم الرصيف كموقف للسيارات ومأرب المنزل فارغ ، بالإضافة الى حفريات لمختلف الاعمال التي تحفر في مسار المشاة بدون وضع علامات للتنبيه ، والمضحك المبكي ان الاشجار زرعت في منتصف الرصيف وأخذت حفرة الشجرة مساحة الرصيف ، اما براميل الزبالة المختلفة الانواع الموضوعة امام المنازل فقد اصبحت ظاهرة غير حضارية تشوه المنظر العام للشارع وأمام المنازل ( منها علب كبيرة للحليب او للدهن النباتي وما شابهه ذلك أكل الصدأ جزءا منها ، واعتقد تحوي كل واحدة منها على ملاين البكتريا تكفي لإبادة كل الفاسدين ) ، بالإضافة الى اكياس النايلون السوداء الممتلئة بالنفايات المطروحة على الارصفة وقد مزقتها القطط والكلاب السائبة لتأكل من بقايا الاطعمة ، والغريب ان هناك بعض اكياس النايلون توضع فوق سياج بعض المنازل تحوي على الخبز القديم الذي يجمع من قبل اصحاب تربية المواشي والدواجن وما زالت تربى المواشي داخل المنازل في الاحياء السكنية .
على كل حال وصلت الشارع الرئيسي بأقل خسائر لأجد سيارة اجرة تقلني الى المجمع السكني الذي يقيم شيخنا في شقته ، بعد بحث وترقب فوق الرصيف وتحت المظلة قدوم إحدى سيارات الأجرة ، لاحت من بعيد واحدة ، اقتربت مني ، إنها سيارة أجرة متهالكة قديمة ، لم يكن أمامي غير إيقافها ، فكثرة الانتظار تحت المظلة وهطول المطر الغزير لم يترك لي مجالا للاختيار ، عزمت أمري ولوحت للسائق التوقف وصعدت للسيارة ، وجلست فوق المقعد الامامي ، أحسست ببعض الارتياح لاني لم اتبلل كثيرا من شدة هطول المطر ، ورذاذ الماء المتطاير من سرعة السيارات الاخرى المنطلقة في الشارع كأنها في سباق الجائزة الكبرى ، ولا يوجد من يحدد سرعة السيارات داخل المدينة ، وخاصة السواق المراهقين الحاصلين على رخصة سياقه حديثة وابن من يملك الدولار او ظهره مسنود بوسادة قوية .
تحركت سيارة الاجرة وكانت المفاجئة عندما أجد السائق رجل كهل غطى الشيب رأسه ، نحيل الجسم ، أصفر الوجه ، يهز رأسه وكتفه مع رجفة مقود سيارته القديمة ، حاولت أن أفهم لماذا هذا الكهل خلف المقود ، قلت في نفسي : اما آن لهذا الكهل أن يستريح ، ولماذا هذه السيارة القديمة سمح لها بالعمل كسيارة اجرة ، لكن لا أعرف كيف خرجت تلك الكلمات من فمي مستفسرا منه قائلا : عمي .. ! لماذا انت تقود سيارة اجرة ؟
نظر الي باستغراب وقال بلكنة عربية مكسورة : هل تريدني ان اموت من الجوع ،عجيب أمر هذه الدنيا ! هل تعلم ما يدور في بلدي ؟ لا يوجد من يراقب ما يحصل لا من فوق و لا من تحت ، ولكي نعيش أحرارا في وطننا قدمناها التضحيات الجسام وأحلامنا ذهبت ادراج الريح ، والعتب على زمن فقدنا فيه الكثير ، وإذا لم استلم راتبي التقاعدي ماذا تريد أن اقول ... توكل على الله .
خجلت من نفسي ان اساله مرة ثانية لكني تشجعت وقلت له : أليس لك اولاد يعنونك او يقدمون لك المساعدة ؟
ابتسم ولكن امتلأت عيناه بالدموع وقال بنبرة حزينة : ثلاثة اولاد الكبير سافر للخارج فهو مقيم في بلد الغربة ، والثاني مقاتل في احدى جبهات القتال ، والصغير طالب يدرس في الجامعة ، والمرحومة والدتهم تقيم بصورة دائمة في المقبرة ،
ثم قال لي : اخي اترك هذه الاسئلة التي لا جواب لها ، قل لي الى اين تقصد الذهاب بهذه العاصفة المطرية القوية. قلت له : مدخل مصيف سرچنار حيث يقيم صديقي الشيخ في احدى الشقق الحديثة .
هز رأسه بالإيجاب واستمر بقيادة سيارته ينظر من خلال الزجاج الامامي بحذر حيث ماسحة المطر لا تعمل جيدا ،وبقطعة قماش وسخة يسمح بخار الماء المتجمع على الزجاج من الداخل .
توقفت سيارة الاجرة امام مدخل احدى العمارات في المجمع السكني الحديث ، شكرت الله انني وصلت سالما ، والغريب واللافت للنظر ان المدخل يوحي لك بان ليس هناك حياة داخل العمارات السكنية مع العلم كلها مسكونة ، حيث يفتقر المدخل الى النظافة وبعض سنادين الزهور ، ترجلت من السيارة بعد ان دفعت له الاجرة ، مودعا السائق والدعاء له بالعمر الطويل ، اتجهت نحو المدخل امشي بين السيارات الواقفة بصورة عشوائية التي اغلقت مدخل العمارة السكنية ، والله يكون بعون المقعد على كرسي متحرك كيف سيدخل بسلام من بين السيارات لداخل العمارة ، اخذت المصعد نحو الطابق الخامس ثم اتجهت نحو شقة الشيخ حيث تقيم ابنته الكبرى معه .
استقبلني الشيخ عند باب الشقة بالترحيب وتفيض من عينيه دموع الفرح ، دخلت لمدخل شقته الذي هو عبارة عن فسحة صغيرة سمحت لي بتعليق معطفي ووشاحي ، ونزعت حذائي المبلل وأسندت مظلتي في زاوية عند الباب ، واتجهنا نحو غرفة الضيوف .
نلتقي في الجزء الثاني من شوارع المدينة وتوكل على الله ، ونتعرف ماذا يريد ان يقول الشيخ .
1008 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع