تأليف / الدكتور عبدالرزاق محمد جعفر/ أستاذ جامعات
بغداد والفاتح (ليبيا) وصفاقس(تونس) / ســابقاً
الحلقة / الثانية
فاق "جابر" من غفوته, وتلاشى عنه صوت المطربة نهاوند, وتذكركل أحلامه, وتعوذ من الشيطان وعاد لوضـعه,.. وما أن رفع رأسه,.. حتى لـَمحَ رجلاً طويلاً, أسمراللون, وبجنبه غلام بَهي الطلعة, وبيده حقيبة فيها جهاز" كمبيوترمحمول ",!
أرتبك "جابر" من ذلك المشهد, وهَبَ واقفاً, ألا أن الرجل أمره بالأشارة وبلغة غريبة, أن يستقرفي مقعده, فأستجاب "جابر" لأمره وهو يرتجف كسعفة في مهب الريح ,... ثم أخذ ذلك الرجل الجهازمن يَد الصبي,وسـلمه الى "جابر",وراح يشرح له طريقة أستعماله ,.. فأستوعب "جابر" الدرس,... لأنه سبق وأن أستخدم مثل ذلك الجهاز منذ عدة سنوات,ففهم الرجل جواب "جابر", وغادرالمكان, برفقة الصبي,.. فتبعه "جابر" بنظره,..وبعد خطوات أختفى الرجل والصبي,..فذهل "جابر" وكتم أنفاسه ,.. وراح يردد :
أجاك الموت يا تارك الصلاة,.. آني أعرف حظي مثل حظ أمحيسن!
***
وبعد مرور بضعة دقائق,.. بدأ القطار بالتحرك , مُطلقاً صفارته المميزة لتوديع المحطة والجماهيرالمودعة لأحبابها بسـفرة اللاعودة " أي الروحه بلا رجعه " في هذا القطار المجهول!
***
أخترق القطار المحطة بين زغاريد بعض النساء,.. وبكاء بعضهن,..والتلويح للركاب بأشارات مفعمة بالأسى والعياط , ولكن ما من أحد في داخل القطار تأثر لأنفعالات الناس في المحطة, ثم صـدحت أغنية الموسيقارمحمد عبد الوهاب :
" يا وابور قلي رايحين على فين؟",
يا وابور قول لي رايح على فين؟
يا وابور قول لي وسافرت منين؟
عَمال تجري قبلي وبحري
تنزل وادي و تطلع كوبري
ما تقول يا وابور رايح على فين؟
صوتك يدوي وانت بتهوي
والبعد أليم,... ناره تكوي
والارض بساط وانت بتطوي
ما تقول يا وابور رايح على فين؟؟
يا وابور قول لي وسافرت منين؟
قربت غريب وبعدت قريب!
وجمعت حبيب على شمل حبيب!
والقرب نصيب والبعد نصيب
إن طال الوقت على الركاب
يجري كلامهم في سؤال وجواب
بعد شوية يبقوا احباب!
العين عرفت رايحين علي فين,, يا وابور ,..
***
وبعد أكثر من ربع ساعة هدأ الركاب وعاد كل منهم لمكان جلوسه,.. يتطلع
كل واحد بوجه الآخر,مترنحين كالسـكارى وما هُم بسـكارى,وأنما حَيارى, ووقف "جابر" يردد بيتاً من الشعر ليقوي عزيمته,.. وأنشـد بصمت:
دع الأيام تفعل ما تشاءُ = وطب نفسـاً أذا حضـرَ القضاءُ
فتح "جابر" جهاز الكمبيوتر,.. وأراد أستذكار مرحلة الأبتدائية التي عاشها في مسقط رأسه,.." الشطرة" ,وكيف كان يلاحظ وهو في طريقه الى المدرسة مع رفاقه "القائمقام" واقفاً أمام بوابة داره وهو يراقب بأمعان صبايا المدينة في "الشريعة" في في الجهة الثانية لنهر الشطرة, وهن يغسلن الصحون ويسبحن بعض الأحيان,حيث تعتبر المدينة عائلة واحدة, ولم تخطر ببالهن سـوء نية ذلك القائمقام حامي المدينة!
***
وهكذا خطر ببال "جابر" قراءة قصة القائمقام, وكتب في موقع (غوغل) :
(القائمقام أبو عزام وزوجته راغبه خاتون وزواجه العرفي من عشيقته صبرية )!,..
فظهرت على الشاشة كما يلي:
***
وقعت احداث هذه الرواية في الخمسـيـنات من القرن الماضي في الشـــطرة الواقعة جنوب العراق في محافظة ذي قار, ويشــطر هذه المدينة نهر صـغير الى شــطرين, احدهما يسمى"الصوب الكبير", ا لذي يضم معظم بيوت الأهالي وأســواق المدينة المتعددة الأختصاص مثل: سوق الصفارين والعطارين و غيرها, و اكبر هذه الأسواق هو سوق "الخواجة", الذي يضم معظم حوانيت الكماليات ومكاتب التجار.
اما الآخر" الصوب الصغير", فأنه يضُم دوائر الحكومة "السراي" والمستشفى الملكي والمدرسة الأبتدائية ونادي الموظفين ودار القائمقام ومقهى خاص لشباب المدينة المثقف.
يرتبط الصوبان في وســط المدينة بجســر لعبور السابلة والدواب, وبالقرب منه يقع "الســـيف",وهو المكان الذي تخزن فيه المنتوجات الزراعية الواردة من القرى المحيطة بالمدينة مثل: الشلب, وهو "الرزقبل ازالة قشـرته ", والحنطة والشــعير لبيعها الى تجار المدينة او التجار القادمين من مدن اخرى.
***
تحيط بمدينة الشــطرة قبائل امتهنت زراعة الحبوب فقط, واخرى امتهنت زراعة الأنواع المختلفة من الخضروات يطلق عليها اســــم "الحســاوية" كما تسكن بالقرب من اطراف المدينة جماعات تمتهن تربية الجاموس والأبقار,..وتُصـَـنع مـن حليبها الكيمر "القشــطه" والزبد والروبه "الزبادي" ويُطلق عليها اســم " المعدان",... وقد وجد الباحثون الكثير من عاداتهم مشابهة لعادات ســكان العراق القدماء الآشوريين!,
فالنســاء عندهم يمتهن بيع المنتجات الحليبية في اســواق المدينة ويشــترين بأثما نها جميع اللوازم البيتية, والرجال يمتهنون رعاية الدواب في المزارع والأهوار وحماية القبيلة من اي غزو خارجي.
تتوجه القرويات صباح كل يوم نحو المدينة لبيع انواع المنتجات اللبنيه و لشــراء كل ما يحتجن له لمعيشتهن اليومية مثل السكر والشاي والسكائروالتبغ وغيرها. ***
كان في ذلك العهد نظام خاص لجباية الضريبة على المنتجات التي تدخل المدينة لبيعها في اسواقها تسمى "الكاعيه",.. يقوم بجمعها عمال متخصصون يرصدون كل قادم من كافة مداخل المدينة المتعددة ويفتشـون بضاعته بصورة دقيقة لتحديد المبلغ الواجب دفعه والذي يتحدد حسب نوع المادة وكميتها,... وفي بعض الأحيان حسب جمال المرأة القروية ومقدار تحملها لغزل ذلك الجابي معها,... باللمس او بالكلام المنمق وخاصة,.. مع الصبايا با ئعات الكيمر الشــهيرات بجمالهن الفطري !
***
وفي بغداد, كان في تلك الحقبة شابا وسيما اســمه "عزوز الثعلبي", تخرج حديثا من كلية الحقوق وفتح له مكتبا للمحاماة قرب ثانوية الكرخ للبنات.
أُعجبَ المحامي عزوز بفتاة مراهقة من عائلة فقيرة نزحت من جنوب العراق وســكنت دارا قرب مكتبه اسمها صبرية, و كان يراقبها بأعجاب ملفت للنظر كل يوم في ذهابها وايابها نحو مدرستها برفقة زميلاتها الطالبات من بنات المحلة.
وبعد وفاة والد صبرية,.. تكفل المحامي عزوزبمتابعة قضــية راتبه التقاعدي, ولذا صــار يتردد بمناسـبة اوبدونها على دار الحبيبة حاملا الهدايا لها, فزاد تعلقها به وهي تصغي الى حديثه المنمق والأطراء بجمالها والأعجاب بحشمتها وهي تســير برفقة زميلاتها نحو المدرسة, وهكذا اكتســب ثقتها وارتاحت الأم لأقواله حتى صار بمرور الأيام هو والي الحرم بعد المرحوم والدها !
ازداد تعلق صبرية بهذا الثعلب, واخذت تبادله مشاعرالود, الذي سرعان ما تحول الى هيام اعمى بصيرتها وصار معبودها الأوحد, وعَزفت عن دراســتها وراحت تحلم بفارســها واليوم الســعيد الذي تحلم به كأي مراهقه!
تزوج عزوز المحامي من أمرأة تكبره بعدة ســنوات اســمها" راغبه خاتون", وهي من اســرة غنية لها نفوذ قوي في نظام ذلك العهد عن طريق أقاربها الباشــا رئيــس الديوان الملكي آنذاك,.. وعن طريقها عُينَ قائمقاما ونسب الى مدينة الشــطرة,.... وبعد اتمام مراســم الزواج وشــهر العســل توجه معها الى مقر عمله.
***
ومرت الأيام وصبرية تـزداد شــوقا وهياما بالحبيب, ولم تدرك مصيبتها, الا بعد زواج الحبيب من امرأة غنية وتعيينه قائمقاما في احدى محافظات الجنوب.
علمت صبرية بزواج حبيبها ولم تستطع اكمال الثانوية بسبب الصدمة التي تلقتها من ذلك الثعلب الذي هيمن على عواطفها, ولذا راحت تساعد امها في الخياطة لبنات المحلة وكسـبت مودة العوائل لحسن سلوكها وعدم انزلاقها في الرذيلة.
ومرت الأيام وبدأت صبريه بالأستقرار,.. الا ان دوام الحال من المحال, وتوفت أمها الحنونة,والتجأت الى خالتها التي كانت تعمل معينة (شــغالة) عند عائلة تركية ثرية جدا, حيث ليس من المتعارف اجتماعيا ان تعيش فتاة بمفردها من دون رعاية اي جهة من ناحية الأم اوالأب حفاظا عليها من الذئاب البشرية وسمعة العائلة.
***
ازدهرت احوال عزوز المكنى بابي عزام كقائمقام لمدينة الشطرة , الا ان الزوجة الأرستقراطية لم تروق لها الحياة في تلك المدينة بسبب تخلف الأوضاع الصحية والأجتماعية في تلك المدنية, فســاء ت صحتها وفقدت وليدها البكر عزوز, واقترح الأطباء عودتها الى بغداد ولو لفترة من الزمن لتنسى محنتها وتخضع للعلاج الطبي تحت اشراف المختصين للتحقق من اعراض مرضية غير معروفة في الرحم. فرح ابو عزام بذلك القرار, وبســرعة البرق سـَـفرَ زوجته الى اهلها في بغداد حتى تكون قريبة من الأطباء المختصين ولغاية في نفس يعقوب!
***
استغل ابو عزام غياب زوجته و عادت له شهيته العاطفيه المكتومه منذ زواجه,
فأنغمس من جديد في مجونه وملذاته مع كبار الموظفين في مركز القضاء ومع بعض الشباب من ابناء وجهاء المدينة. ***
استمرابوعزام في مجونه من دون ان يعير اي اهتمام لمركزه الأجتماعي واعراف الناس المتمسكين بها وردة أفعا لهم القاسيه ضد من ينتهكها... وهكذا فاحت روائح افعاله النتنه,...وصارالأهالي يرصدون حركاته وهو في غفلة عنهم,.... ويا غافل الك الله!
يتبع في الحلقة / 3 مع محبتي
للراغبين الأطلاع على الحلقة الأولى..
http://www.algardenia.com/maqalat/16966-2015-06-01-19-14-27.html
1125 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع