ولاية الموصل والحقوق الكردية بعد الحرب العالمية الأولى/ح19
* طابع مختلف القوميات وأصولها في ولاية الموصل
أ. الكرد
ما من شك في أن الجزء الأكبر من السكان في الإقليم المتنازع عليه (ولاية الموصل) هم كرد (خمسة أثمان تقريباً)، لذلك كان الكرد عددياً أهم عامل فضلاً عن كونه أدعى إلى الرعاية لأنهم ليسوا بعرب ولا بترك وقضية أصولهم العرقية وتاريخهم وعلاقاتهم الإثنية بالقوميات الأخرى التي تحيط بهم هي بطبيعة الحال على أعظم جانب من الخطورة.
تقول المذكرة البريطانية أن الكرد هم إيرانيون أكثر احتمالاً من أن يكونوا أتراك وليست دماؤهم هي الدماء التي تجري في العروق التركية وضآلة نسبتهم إلى الترك قدرة ضآلة نسبتهم إلى أهل الصين! وهم يتكلمون لغة مشابهة إلى الإيرانية ذات وشائج وثيقة باللغة الفارسية، أو قد تكون لغتهم لهجة قريبة من لهجاتها. ويختلفون عن الترك في كل عاداتهم وتقاليدهم لا سيما في منزلة المرأة فهي عندهم تختلف كثيراً عما هو عند غيرهم. وأشارت أحدى المذكرات البريطانية إلى الاختلاف في المظهر الجسدي بين الكرد والترك بقولها أنه كبير جداً، بحيث يسهل على المختص الأجنبي التمييز بين الاثنين من أول نظرة. وتضيف المذكرة أن كُرد الإقليم المنازع عليه في ولاية الموصل أكثر ميلاً نحو أقربائهم من أبناء قومهم في إيران، من ميلهم إلى أبناء جلدتهم في القسم التركي.
وتقول المذكرة التركية أن الكرد لا يمتون إلى العنصر الإيراني بأي شكل وإنما هم من أصل (توراني) وهذا خلاف الحقائق التاريخية لأن الشعب والأمة الكردية مستقلة عنهم. وتستند المذكرة إلى (دائرة المعارف البريطانية) التي تذكر أن (الكودو) الذين سكنوا جبال آشور منذ قرون سحيقة هم شعب (توراني). وتذكر أيضاً أنه لا توجد فروق عرقية أو دينية أو ثقافية بين الترك والكرد. وأن كلا الشعبين يؤلفان وحدة لا تتجزأ وإن اختلفت لغتهما. فأجابت المذكرة البريطانية مبدئياً أن (دائرة المعارف البريطانية) ليست معصومة من الزلل، وهي تمثل رأياً فردياً لمرجع فرد لا غير في ذلك الوقت ولم يستند على الحقائق التي ظهرت بعد ذلك ... وللمراجع الأخرى آراء تختلف عن رأيها. وورد في أحد ردود الحكومة البريطانية القريبة. مقتبس من موضوع "كردستان" في (دائرة المعارف البريطانية) هو:
"بعد سقوط (نينوى) اندمج (الكودو) بالميديين وانقلبوا تدريجياً إلى إيرانيين مثل سائر الشعوب التي سكنت هضبة آسيا الصغرى الشاهقة وأرمينيا وبلاد فارس، بعامل هجرة القبائل في تلك الحقبة من التاريخ وبأعداد ضخمة، تلك القبائل التي لا تصل في نسبتها إلى المجموعة العرقية الآرية بصرف النظر عن الأصقاع التي خرجت منها".
ولهذا فما جاء في هذه الفقرة من (دائرة المعارف البريطانية) يدحض الحجج التركية بدلاً من أن يدعمها. وأن قولها باشتقاق لفظة "كرد" من "كاردو" أو "كاردو" لا يثبت شيئاً لأن هذه الكلمات تعني باللغة الآشورية "ساكن الجبال" ويبدو أن الكرد الإيرانيين ورثوا الاسم الذي خلفهُ الآشوريون على سكان الجبال الأكراد قبل أن يظهر الكرد على التاريخ.
نحن لا نستطيع أن نثبت رأياً دقيقاً جازماً في أصل الكرد (المندوب البريطاني). وهذه المشكلة لا تبدو لنا بالمشكلة السهلة أو الواضحة. علماً ثبت لاحقاً وبجهود العلماء أن الأكراد لهم أصلهم التاريخي ويعودون إلى الميديين القدماء ... الخ.
مما لا مراء فيه أن الأقوام الاصلية التي سكنت منذ فجر التاريخ تلك الجبال المشرفة على بلاد آشور وبابل والهضبة الإيرانية كانت في أسلاف الكرد وبعبارة أخرى فإن الأصل العرقي أو (المركب العرقي) كان يحتوي هذا العنصر الكردي أيضاً. الرّقمُ المسمارية الآشورية والبابلية نفسها تشير إلى أن الكرد الجبليين الذين قد يكونّون سكان الجبال الأوائل، حيث "كوتو" و"كوتي" تعنيان بصورة عامة سكان المناطق الكردية المعروفة اليوم (بخانقين وكفري وكركوك) وما يحيط بها من بلاد. وأن الملوك الآشوريون شنوا حروباً طويلة على هذه القبائل الجبلية الكردية كما علمنا، وأن غاراتها امتدت حتى بلغت بابل قبل حمورابي( ).
إن كلاً من (دائرة المعارف البريطانية) والدليل الذي نشره القسم التاريخي في وزارة الخارجية البريطانية (1920 رقم 62: أرمينيا وكردستان ص 4) يذكر هذا الشعب "الكودو" بأنه من أصل (توراني) لكنه أنقلب في زمن متأخر إلى شعب إيراني. ونحن لا نملك أدلة قاطعة على الأصل (التوراني) لهذا الشعب وفي الواقع ليس بوسعنا تكوين أية فكرة ثابتة عن أصلهم. (لأنهم أيضاً هاجروا وتركوا أماكنهم الأصلية ووصلوا إلى هنا)، ولأجل أن يضم أعضاء اللجنة المرسلين إلى كردستان فقد تولى القسم المختص في وزارة الخارجية البريطاني إلى إجراء المزيد من الدراسات والمناظرات حول الموضوع، حيث أوضح (السير هنري هاووث): المجلة الجغرافية: شباط 1924 ص 93) في مناظرة علمية أقامتها الجمعية الجغرافية الملكية في لندن، رأيها الخاص بالسكان الجبليين الأكراد الذين يشغلون البلاد الواقعة حوالي (تفليس) حتى الأصقاع الجبلية للجزء الجنوبي الذي يُعرف الآن بكردستان فقال أنهم كانوا عنصراً واحداً منذ بدء العصور التاريخية. ربما كانت اللغة هي غير لغة كتابات (وآن) التي فك طلاسمها الأستاذ [سايكس]، وربما استبدل الجنوب لغته بعد هذا بلغة آرية تحت تأثير السيطرة الأجنبية؟ ولقد طغت القبائل الأرمنية على مركز المنطقة ولم يحافظ على لسانه غير القسم الشمالي. ويقدرون أنها اللغة الجيورجية الحالية. فالرأي الغالب والأحق بالقبول يبدو وكأنه يرجح نظرية استقلال المجموعة الجيورجية استقلالاً تاماً. وبعد هذا فليس صحيحاً إن نتكلم عن أصولها التورانية لأنها بعيدة جداً عنهم ومن المتعذر على أية حال التوصل إلى برهان يقطع بوحدة أقوام الجبال الذي ينتشرون على رقعة من الأرض بين (تفليس) وبحيرة (وآن) من جهة وبين منطقة (خانقين) من جهة أخرى.
ويميل [السير سايكس]( ) على ما يبدو إلى اعتناق فكرة اعتبار الكرد الذي يعيشون في البلاد الواقعة بين بحيرتي وأن وأورمية ودجلة وسهول العراق، منحدرين من عين السلف أعني من "كاردوشي" أجداد الكرد القدماء، "[كزيفون]( ) هؤلاء (الكاردوشي) وهم "كردوي" [سترابو] وغيره من الكتاب الأقدمين، سكنوا الجبال الواقعة شمال الموصل، وهم الذين هاجموا مشاة كزينفون العشرة آلاف" في مضيق زاخو.
وبإمكاننا الافتراض أن هذا الاسم (كاردوشي) إنما يقصد به الشعب الذي عرفه الأشوريون باسمي "كوتو" و"كوتي" وأن تعذر علينا إثبات هذا( ).
وقبل زمن قريب ظهرت أسانيد وحجج، أثارة شكاً كبيراً في أن الكرد هم عين أولئك "الكاردوشي" (نولدكه في: أصول حروف الكتابة لـ هـ. كيبرت) وفي (دائرة معارف العلوم الآثارية) وقد يميل الظن إلى أن اسم "الكاردوشي" أطلق على ذاك الشعب الذي عرفه الآشوريون باسم (كوتو). وربما كان "الكاردوشي" هم عين أولئك الذين كان الأرمن يطلقونه على سكان البلاد المسماة "كردوك" وهي "قردو" أسلاف الكرد( ) عند الآشوريين.
وبالعودة إلى موضوع لغة السكان البدائيين الأصلية نجد أن قسم التاريخ في وزارة الخارجية البريطانية قد استعان بدائرة معارف الفيلولوجي الإيرانية (جكرخوين: موجز أصول اللغة الإيرانية 1895 – 1904)، حيث ظهر شكاً حول تفشي لغة من اللغات الإيرانية بين ألـ "كردوييني" ويعتقد (أ. سوسان) مؤلف هذا القسم، أنه ربما هاجر نصف القبائل الإيرانية هاجرت نحو الغرب في أثناء تسلط الميديين والفرس ولعل هذه القبائل التي كانت خاضعة للحكم الأجنبي الميدي والفارسي صبغت السكان الأصليين بصبغتهم الإيرانية.
ودافع (فون لوشان) الحجة المكتوبة في انثروبولوجية أسيا الصغرى (شعوب وكتابات ولغات - 1922) قام بعمل دراسة للكرد لاسيما كرد الغرب واستنتج أنهم (آريون) انحدر أسلافهم من شمال أوروبا، وهي البلاد التي حصل عليها إجماع على أنها منبت العنصر الاشقر ذي العيون الزرق والرأس الطويل. ويدعم تأكده هذا بالتحقيقات والقياسات الانثروبولوجية التي قام بها هو نفسه. وكانت تلك الدراسة تميل إلى إثبات وجود نسبة من الشقرة وزرقة العيون في أقصى المناطق الكردية مثل (قرة قوش ونمرود) تزيد كثيراً على نسبتها في مناطق أخرى من التي أصبح سكانها سمرة البشرة، قصار الرؤوس نتيجة امتزاجهم بالترك والفرس والأرمن.
إن غرضنا الوحيد من إيرادنا هذه المراجع رغم أن اللجنة المكلفة عن أصول القوميات في ولاية الموصل قد ساورتها الشكوك: أن بعض المؤرخين الأرمن حسبما أورده (شانتر في: الكرد - جمعية ليون الانثوربولوجية 1897) يعتبرون الكرد أحفاد الميديين في حين يؤكد بعضهم الآخر أنهم فرع من الأمة الأرمنية، إذ أنهم ظلوا متمسكين بأسماء أرمنية عديدة. وأخيراً هناك رأي واسع الانتشار وهو أن الكرد هم (كلدان) انحدروا قبل عصور سحيقة من هضاب إيران نحو دجلة. ويعتقد (المسعودي) أنهم فرع عربي تغير لسانه. ومهما يكن في رأي يكونهُ الآخرون عن الكرد، إلا أن القرار السياسي لهُ دور، والكرد لم يكونوا أصحاب قرار سياسي مستقبل.
ومهما يكن فالتكوين الاثنولوجي للشعب الكردي هم شعب أصيل وله تاريخ قديم سحيق منذ فجر التاريخ.
ظهر (الكوتو) في فجر تاريخنا (الأوراسي) لكن آثارهم ضاعت في ثنايا التاريخ قبل أن يعرف شيء عن (الكردوشي) بسبب عدم توثيق ذلك وحقد وكره الشعوب لهم. وهذا الشعب لم يختفِ بدوره وربما كان ظهور الكرد بعد زمن متأخر جداً يتفق وسقوط مملكة (طرابزون) الذي جعلهم تحت الحكم التركي.
وواضح جداً من وجهة النظر الانثروبولوجية أن التواجد القوي للأكراد الجبليين الذي نعرف أصولهم العرقية منذ فجر التاريخ. كان خاضعاً لكثير من المؤثرات ولقدر عظيم من التزاوج قبل أن تتكون القومية الكردية. هذه المؤثرات والزيادات تبدو كثيرة التنوع إذا ما أدخلنا في الحساب مختلف مناطق سكن الكرد الحالية الواسعة والمتباعدة كثيراً بعضها عن بعض.
ومن الممكن بل من المحتمل أن نبلاءهم أو الطبقة العليا منهم قد طرأ عليها تغيير يزيد كثيراً عما طرأ على سواد السكان. فثم من المؤلفين من يميز فيهم طبقتين أو درجتين اجتماعيتين: المحاربين والرعاة: "عشيرت" و"كوران – مزارعين" (ميير: 1905 ص 856). وليس بوسعنا التأكيد أن أول الإسمين عرف في البلاد التي يجري فيها تحقيقنا ربما كان المصطلح الثاني قاصراً على عشيرة معينة.
ويضع (سايكس) أيضاً حداً فاصلاً بين الرعاة والمحاربين كالبابان الذين يتميزون بمظهر جسدي مختلف في سائر كردستان الجنوبية. ونحن لا نعتقد بأن هذا الفرق كبير الظهور. فمنذ أن أخذت العشائر تستقر تدريجياً وراحت الحكومتان التركية والعراقية تستحثان عملية تفكيك نظامهم القبلي أخذ التمييز بين الطبقتين ولاسيما في السهول يزداد صعوبة على أكثر الاحتمال. ولنذكر أيضاً أن فترة لبثنا مع هذه العشائر كانت قصيرة إلى الحد الذي لم يمكننا من الغوص في أعماق المشكلة.
قد يوجد بين ظهراني العشائر الكردية عناصر لا يصعب على المرء استنكار أصولها الأجنبية، ولا التكهن بتقاليد لها ذات أصول أجنبية، ومن المحتمل جداً أنه حصل تزاوج وامتزاج دماء مع الإيرانيين في الشرق ومع العرب في الجنوب كما كانت الحال في الشمال مع الأرمن بدرجة رئيسة، ومع الترك في الغرب بالدرجة نفسها. ويورد (سايكس) أمثلة من أمراء كرد كان أسلافهم عرباً ولم نلتق شخصياً إلا بواحد من هؤلاء، وهو زعيم من (دزئي) أمهُ عربية من قبيلة (طيء). هناك بعض العشائر يعقد زيجات مع قبائل عربية مجاورة فالدزئي مثلاً يتزاوجون مع (الجبور وطيء) وكذلك الحال عند قبائل بابانية، وتأبى ذلك قبائل كردية أخرى مع أنها تضرب خيامها مع (طيء) كعشيرة (شيخان) (ليست شيخان اليزيدية). وثم قبائل السهول التي تسكن في الإقليم المنازع عليه (كالهموند) فهي أحيانا تميل إلى أزياء نصف عربية في حين يزداد الطابع الكردي في الزي وضوحاً في الجبال، ويميل إلى الزي الكردي في نواح معينة في الجزء الشمالي، في حين يبدو ثم بعض شبه بالزي الإيراني في الأنحاء الجنوبية الشرقية. وديواخانة (مضيف) الزعماء هو على الطراز العربي في السهل. وعلى طراز البنية الإيرانية في الجبال الشرقية.
على أن كل هذه المظاهر يمكن تفسيرها بالاحتكاك المستمر فيما بين هذه القوميات المختلفة ويبدو أنه وجد في الأزمان الغابرة مثلما وجد في أيامنا هذه تحرك سكاني متواصل من الشرق إلى الغرب، من الجبال إلى السهول. وهذا يؤدي إلى التزاوج مع عناصر قومية أخرى عربية وإيرانية وتركية، وهو بالتأكيد لا يلحق أي ضرر بالعنصر الكردي. أن بعض العشائر الكردية مثل (الكردي والزراري) قد انحدروا منذ قرنين حتى أربعة قرون خلت، من الهضبة العليا على الحدود الإيرانية إلى مشارف سهل أربيل ولم يحتل (الدزئي) السهل غرب أربيل إلا في القرن الماضي حيث كان عرب طيء وغيرها من القبائل يتجولون في تلك المرابع لرعي قطعانهم وقد تحولوا نوعاً ما إلى الفلاحة. فقبل ربع قرن من الزمن لا أكثر عبروا (قرة جو داغ) لزراعة السهل الممتد على طول دجلة. ويضيف مؤلف فصل "تركيا الآسيوية" من كتيب وزارة الخارجية (المجلد 57 – ص 104) أثناء كلامه عن كرد هذه المنطقة قوله: "إلاّ أن مستقبل الكرد هو أقل حظاً في أرمينيا (تحت ظل أي نظام يشيع فيها) من حظه في أرض الرافدين الشمالية التي هي الآن على عتبة تطور اقتصادي. إن أرض السهول بين حلب والموصل طالما بقيت بوراً فهي مجال للعرب ... ولكن في الوقت الذي ينصرف الكرد والبدو إلى زراعة الأرض تجد الكردي أفضل الاثنين. لذلك فإذا تحقق التطور الاقتصادي في البلاد بالتدرج وإذا لم يطغ على السكان المحليين احتياطي من القوى البشرية الخارجية فالظواهر تشير إلى أن ميسوبوتاميا الشمالية (بلاد ما بين النهرين) ستغدو أرضاً كردية وقد اثبت كتاب آخرون هذه الملاحظة طبق الأصل وفي رأينا إن قدراً كبيراً من الحقيقة يكمن في هذا القول.
وبعودتنا إلى الحجج المعروضة ـ فليس هناك من يجادل في أن اللغة الكردية هي إيرانية. ومن بين كل اللغات الإيرانية، كانت الفارسية أقرب صلة بها. ولكننا نركب متن الشطط إذا قلنا أنها لهجة إقليمية، أو لهجة مشتقة من الفارسية، إن (دائرة معارف اللغة الإيرانية) التي نوهنا بها سابقاً تقول بإن اللغة الكردية هي ليست "لهجة شقيقة" للفارسية الحديثة وليس للفارسية الوسيطة. وإنما تختلف اختلافاً عظيماً إنها مستقلة عنها. بل إنها غير مستمدة من الفارسية القديمة مباشرة ففيها كلمات عديدة لا وجود لها في أية لغة إيرانية أخرى والكثير من الكلمات الإيرانية التي تحتويها إنما دخلت في زمن متأخر. أما العدد الكبير من الكلمات التي استعارتها من اللغة العربية ومثلتهُ جزئياً فمن الطريف أن يلاحظ قول دائرة المعارف المذكورة عنه: إن معظم هذه الكلمات قد مر أولاً من خلال اللغتين الفارسية أو التركية قبل أن يدخل جسم اللغة الكردية. جكرخوين: ص 251).
أن المترجم والخبير اللغوي الذي رافق اللجنة الأممية قدم لنا المعولمات التالية حول الخصائص المميزة للغة الكرد: "من الناحية النوعية، تدون اللغة الكردية من اللغة الفارسية بما يكفي لجمع هاتين اللغتين تحت الاسم الواحد: الإيرانية المركزية. وهذان الشكلان من اللغة الإيرانية قد تطور في سبل مختلفة منذ أن أفلحت القبائل الإيرانية بفرض نفسها في آسيا الغربية، فمثلاً هناك متغيرات صوتية معينة ظهرت في اللغة الفارسية ولم تظهر في اللغة الكردية. وقد حصل العكس أيضاً. إلا أن هذا لا يقوم برهاناً على استقلال اللغة الكردية عن اللغة الفارسية. إذ في هذه الحالة قد يمكن اعتبار اللغة الكردية لهجة فارسية شديدة التصحيف. وهناك مثل يلفت النظر بشدة مستمد من (الصرف) فالكردية لا تعتبر عن ماضي الأفعال المتعدية باستخدام صيغة مبينة للمجهول. في حين طورت اللغة الفارسية شكلاً للماضي من كل الأفعال، هذه الميزة الأخيرة تلاحظ خصوصاً في اللجهات الكردية السائدة شمال غرب البلاد. أما تلك اللهجات التي تشيع في المناطق الأقرب إلى البلاد الفارسية كلهجة أهل السليمانية ـ فيظهر فيها صيغ أفعال متعدية تبدو على كل حال إختراعاً كردياً أكثر منه استعارة من الفارسية".
إن اللغة الكردية كما أوضحنا، تضم سلسلة طويلة من اللهجات. وتميز طائفة من اللغويين: مجموعة شماليةً أو شمالية غربية (كرمانجي) عن مجموعة جنوبية. وطائفة تعود لتقسيم المجموعة الجنوبية إلى مجموعة شرقية (السليمانية وسنة) ومجوعة جنوبية (كرمانشاه والبختيارية الذين ما عادوا يسمون أنفسهم كرداً). وإن المجموعة الشمالية هي أبعد المجموعات عن هضبة إيران موقعياً وتمتلك أطهر طابع لغوي نقي. وفي ولاية الموصل تساير الحدود الجنوبية للمجموعة الشمالية مجرى الزاب الكبير بشكل واضح جداً ولذا ترتبط لهجات أهل زاخو وعمادية ودهوك ارتباطاً وثيقاً باللهجات السائدة في تركيا حتى إلى جنوب الزاب الكبير، فإن تأثير المجموعة الشمالية أكثر وضوحاً مثلاً في رواندوز، زد على هذا فإن العشائر الرحالة كالهركية التي تعبر هذا النهر شتاء تنقل معها لهجتها الخاصة إلى الجنوب، وهي لهجة أكثر ميلاً إلى المجموعة الشمالية وتلتقي جنوب الزاب بالمجموعة الجنوبية الشرقية التي أخذت في زمن قريب جداً تظهر ميلاً إلى اتخاذ (السليمانية) مركزاً ثقافياً لها. وهو لا يمنع الكرد في أي منطقة ذات أهمية من اعتبار لهجتهم أنقى اللهجات واصفاها. وهذا ما لوحظ في مناسبات عدة. وقد سمعنا عين الملاحظة من أشخاص قدموا من كويسنجق والسليمانية. إن القبائل على اختلافها تملك ميزاتها اللغوية المتمايزة الخاصة مثل (خوشناو ودزئي) ويمكن القول أن كل هذه اللهجات المنتشرة جنوب الزاب الكبير متشابهة إلى حد ما. ولو أن لهجة السليمانية مثلاً تتميز بإغفال بعض الأحرف الصامتة في حالات كلامية معينة. ومن الممتع أن نلاحظ أن اللغة المكتوبة التي نشأت حالياً في السليمانية تستند إلى لهجة لا تكشف عن هذه الخصائص كلهجة كويسنجق". وفهمت اللجنة الأممية مجمل الحوارات وما كتب عن أصول القوميات في ولاية الموصل.
أما حول اتجاهات الكرد وعاداتهم وتقاليدهم حين تقارن بتلك التي تسود الترك والعرب، فالأمر يحتاج إلى دراسة للعوامل الإثنوغرافية أكثر إسهاباً وشمولاً قبل أن يمكننا الحكم على صحة معروضات المذكرات البريطانية والتركية.
من الطبيعي جداً أن نجد قبائل الجبال الشرقية أكثر ارتباطاً بإخوان القبائل الأخرى في إيران من ارتباطها بكرد طوروس الأرمنية وأناضوليا. وأتيح لنا التثبت من هذا فكثير من العشائر الرحالة تجتاز الحدود إلى مراعيها الصيفية لذا فهنالك عدة طرق تجارية تقطع الحدود وتعبر وديان السليمانية المنفتحة إلى إيران. إن العطف والميل مسالتان أكثر حماسية وأشق على الإدراك قدر ما هما متغيرتان فالعشائر في الجزء الشمالي من المنطقة موضع النزاع لا صلات لها مع إيران في الواقع، وعلاقتها وثيقة بالمناطق المجاورة على الجانب الشمالي. وفي تلك المنطقة أيضاً اعتاد الرحل عبور خط الفصل (خط بروكسل) والعشائر الساكنة على جانبي هذا الخط تتصل مصاهرة ونسباً إلى حد ما.
هذا جل ما يمكن استخلاصه من الوثائق بأن الشعب الكردي أصيل وله تاريخ قديم منذ فجر التاريخ وله لغته الخاصة وعاداته وتقاليده.
وعندما زرنا مناطق الحدود دهشنا حين وجدنا كم كانت معرفة السكان قليلة بالثورة الكردية التي بلغت أقصى حدتها في المناطق الواقعة على الجانب الآخر من خط الحدود المؤقت( ) ويحتمل أن يعود هذا الإجراءات الاستثنائية التي اتخذت لإغلاق الحدود. تشدد المذكرة البريطانية على الفروق بين عادات الترك والكرد وتوضح القدر الكبير من الحرية التي تنعم بها المرأة الكردية نسبة إلى المرأة التركية.
ما من شك في أن هذه الفروق موجودة وملموسة إلا أن إدعاء كهذا لا يسند إلى أية تفاصيل أو إيضاحات قد يؤدي إلى توليد انطباع زائف. وعلينا ألا نتغاضى عن حقيقة تغير وضع المرأة في البلاد الإسلامية في فترات مختلفة [أمير علي: تاريخ العالم الإسلامي 1921 ص 199 – 445].
كانت هناك وما زالت فروق بين القرى والمدن في هذه المسالة وكذلك كانت الفروق بين الرحل والمتوطنين ولا حاجة بنا هنا إلى توسيع دائرة بحثنا بالتعدي إلى أسبابه وما علينا إلا أن نقارن مكانة المرأة في مدن العراق بمكانتها عند الرحل والبدو في السهول المجاورة. ومن بين الشعوب المجاورة المسلمة الثلاثة الكبيرة التي تحيط بالكرد (الترك والعرب والإيرانيين) نجد الأخيرين أقرب إلى الكرد من غيره والمرأة عند الإيرانيين لا يمكن أن تعد حرة على أية حال.
هناك ظروف أخرى كان في وسعنا التحقق منها شخصياً تضعف من قوة هذه الحجة، أعني أننا نجد طبقة الوجهاء الترك في المدن كأربيل وكركوك وغيرها يتزوجون نساء كرديات. وأحياناً نجدهم يتزوجون نساء من القبائل المترحلة وإن لم يكن من السهل على هؤلاء النسوة أن يكفين أنفسهن لحياة المدن بقدر ما يسهل على الأوليات منهن. ويكاد كل الأسر التركية البارزة في المدن تصاهر زعماء الكرد المحليين.
محصل القول أن أصل الكرد أصبح واضحاً ولا يقبل الشك. ومها كانت نسبة الدم الإيراني قليلة فيهم. كان ثمة تأثيرات متعددة متأخرة، وكان ثم تزاوج بينهم وبين العرب والترك وقوميات أخرى لكن العنصر الأصل الكردي ظل غالباً ومحافظاً على سلطانه وقوته وما زالت دائرته تتسع.
إذاً أن الكرد ليسوا عرباً ولا تركاً ولا إيرانيين وإن كانوا أقرب بكثير إلى الإيرانيين وهم يختلفون عنهم ويتميزون بوضوح كما أنهم أبعد عن العرب منهم عن الترك.
الكرد قوم محاربون أشداء لا يخفضون جناح الذل لأحد مفرقو الكلمة لا وحدة تجمعهم. مع ذلك استطاعوا أن يتعايشوا بوئام وحسن جوار مع الأقوام الأخرى التي تقطن بلادهم. والتأكد من هذه الحقيقة أيضاً وهي: إن الكرد هم من بين جميع الأقوام المسلمة يعيشون مع المسيحيين على أحسن ما يمكن من الود والصفاء.
ب. الترك
لم يكن التواجد العددي للترك في ولاية الموصل المتنازع عليها المسألة الوحيدة التي اختلفت عندها وجهتي نظر الحكومتين البريطانية والتركية. فقد اختلفتا كذلك على التعريف القومي لهذا القسم من السكان. الحكومة التركية تسميهم (تركاً) والحكومة البريطانية تسميهم (تركماناً) وتقول أنهم قومية تختلف اختلافاً تاماً عن القومية التركية.
تقول الحكومة البريطانية إن هؤلاء الترك ليسوا عثمانيين، بل عرفوا بالتركمان. واللغة التركمانية التي يتكلمونها أقرب إلى اللهجة الأذربيجانية منها إلى لهجة أستانبول وأناضوليا التركية. وهم أحفاد التركمان الذين قدموا من إيران قبل قيام الإمبراطورية العثمانية بزمن بعيد، وربما كانوا من أولئك المرتزقة الذين استخدمهم الخلفاء العباسيون. وتوزيعهم يعزز النظرية القائلة بأنهم انحدروا من أصلاب حاميات عسكرية مرتزقة عتيقة. [فتلعفر] وهي بلدة تركمانية تقف حارسة على عتبة الصحراء في حين يعيش كل التركمان الآخرين في البلدان التي تحاذي ما اشتهر "بالطريق السلطانية".
وتعرض الحكومة البريطانية أيضاً أن لهجة التركمان في ولاية الموصل ليست مثل لهجة أنقرة فتجيب الحكومة التركية رداً على هذا: لا مبرر قط لرسم حدٍ فاصل بين ترك ولاية الموصل وترك أناضوليا. ولا مبرر هناك لتسمية الأوائل بالتركمان: "وتقول الحكومة البريطانية أن اللغة التركية الشائعة في ولاية الموصل ليست كتلك الشائعة في استانبول؟ وفضلاً عن هذا فلهجة ترك ولاية الموصل هي التي يتكلمها ترك أناضوليا، لا تختلف عنها أكثر مما تختلف لهجة الريف [لانكدوك] عن لهجة المدينة (لانكدوي) في فرنسا( ).
وبطبيعة الحال هناك لهجات في مختلف أنحاء كل بلاد يتباين بعضها عن بعض إلى حد ما وإن ترك أناضوليا هم أيضاً تركمان. وإن الكلمتين هما لمسمى واحد.
إن اسم [ترك] يطلق على كل الأقوام التي تتكلم اللغات التركية أو لهجاتها في أسيا وأوروبا. وهو اسم عتيق جداً قبل القرن السادس في التواريخ الصينية بشكل [توكيوي] ووجد في أقدم الكتابات التركية وهي كتابات [أرخون] التي يعود تاريخها إلى القرن الثامن الميلادي. ولكن في الوقت الذي أطلقت كلمة "تركي" على كل الفروع اللغوية لهذه الأسرة دائماً، فإن استخدامها نعتاً لسكان بالذات أخذ يتضاءل بالتدريج، وكان ثم اتجاه لإطلاق الاسم على الطبقات الدنيا من الأمة التي آثرت طبقاتها العليا أن تطلق على نفسها أسماء أخرى.
ومنذ القرن الحادي عشر وسائر الأتراك الذين عبروا نهر جيحون( ) واعتنقوا الإسلام يعرفون بالتركمان أو التوركمان. وبما أن جميعهم كانوا من قبيلة [اوغوز] أو [غز] فمن المعقول القول إن اسم التركمان غير واضح. إلا أنه اسم تعريف لا شائبة فيه يشكل كل الترك الذين استقروا في إيران وأذربيجان والعراق وآسيا الصغرى وسورية ومصر. وبه عرف أسلاف الترك العثمانلي. كما عرف به سائر الأقوام التركية في أسيا الصغرى التي كانت جزء من إمبراطورية آل سلجوق في (قونيه) وعرف كلهم في القرن الثالث عشر بهذا الاسم. تشعب التركمان هؤلاء بالتدريج إلى مجموعات اتخذت أسماء قومية أخرى مشتقة من وضعها السياسي أو الجغرافي. فمن سكان أذربيجان من أمسك منذ أمد طويل عن تسمية نفسها بالتركمان وهو الآن يعرف بالأذربيجاني أو الأذري. ومن سكن آسيا الصغرى ما زال يعرف بالتركمان. واحتفظت المجموعات التي لم تتخذ لها أسماء أخرى باسم التركمان لاسيما أولئك الذين سكنوا البلاد الواقعة شرق بحر قزوين، وعلى هذا الأساس لم يتخذ تركمان العراق أيضاً أي اسم آخر وظلوا مقيمين عليه حتى خضعوا للحكم العثماني. ومن الجائز والحالة هذه أن يطلق عليه الاسم وأن كانوا لغويا وعرقاً بعيدين بعض الشيء عن تركمان آسيا الوسطى. ولم يكن بمقدورنا أن نتأكد هل يعتبرون أنفسهم تركاً أم تركماناً.
في عهود الإمبراطورية العثمانية كان اسم [ترك] صنواً لكلمة (بربري) ودليلاً على الافتقار إلى المدنية وبقي كذلك إلى العام 1900 حين شرف وكرم بتأثير من حركة الاتحاد والترقي التركي. ومنذ إلغاء السلطنة أصبح اسم "تركيا" اسم البلاد الرسمي. وبما أن لفظة "ترك" نسخت لفظة "عثمانلي" فلا يمكن والحالة هذه إطلاقه على السكان العراقيين الترك. ومع هذا وبما أن علاقاتهم التاريخية واللغوية بل الأدبية - وثيقة بأهالي آسيا الصغرى وبما أنهم يعيشون حياة مستقرة بدون استثناء فلا مناص لنا من الاستنتاج أن ترك العراق يجب أن لا يطلق عليهم اسم التركمان تمييزاً لهم عن ترك تركيا الأصلية.
بما أن جميع التركمان (بمفهوم القرون الوسطى للكلمة) انحدروا من قبيلة واحدة، فلا شك أنهم كانوا أصلاً يتكلمون لغة واحدة. ومن هذه اللغة المفردة التي يمكن تسميتها بالتركية الغربية انبثقت اللهجات التركية التي ينطق بها أتراك أوروبا وآسيا الصغرى والقفقاس وأذربيجان والعراق، فضلاً عن لغة القوم الذين سموا بالتركمان شرق بحر قزوين،إلا أن اللهجات اختلفت فيما بينها بدرجات متفاوتة، وهذه المتغيرات تعود على الأغلب إلى الاحتكاك مع سكان البلاد الأصليين القدماء وإلى تقلبات السلطة السياسية. هذه الفروق اللغوية لم تصل على كل حال إلى الدرجة التي تحول دون تفاهم مختلف المجموعات بعضها مع بعض.
ومنذ القرن الثالث عشر تميزت مجموعتان من اللجهات التركية الغربية وبرزتا، وربما أمكن تسميتهما بالعثمانية والآذرية [تركية أذربيجان] وأصبح تشعبهم واضحاً منذ فترة الفتوحات المغولية. أما البلاد الشبيهة بأذربيجان والطرق التي ظلت تحت الحكم المغولي عدة قرون فقد حافظت استناداً إلى هذا الواقع على رابطة مع ترك آسيا الوسطى أوثق من رابطتها مع ترك اناضوليا وتركت لنفسها حيث استهدفت للمؤثرات الخارجية. وبعد السيطرة المغولية عانت اللهجات الآذرية تأثيرات فارسية وزادت شقة الخلاف بينها وبين لهجة العثمانلي. وقد كان السبب أن القسم الشرقي من تركيا الغربية لم يقع في القرون الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر تحت تأثير مراكز السلطة السياسية في أناضوليا، أو يخضع لنفوذ استانبول، ولكن خضع لأسرٍ حاكمة محلية صغيرة أعقبتها دولة [القرة قوينلو] ثم دولة الصفويين الفرس وكليهما كانا فضلاً عن هذا - شيعية المذهب. وبعامل هذا المؤثرات تطورت لغة الأدب الآذرية في الشرق بينما تمت لغة الأدب العثمانية في الغرب.
إن مجال انتشار اللهجة الآذرية يشمل: (أ) جنوب القفقاس وأذربيجان (ب) ترك أقاليم همدان وفارسستان وخراسان وطهران الإيرانية (ج) العراق وأناضوليا الشرقية. وصحيح جداً ما قيل أن لغة كتابة هذه البلاد التي أوردنا اسماءها، كانت قد وقعت تحت تأثير "العثمانلي" على أن لهجات التخاطب يجب أن توضع في الصنف الأذري.
ولم تكن هاتان المجموعتان في أي وقت تفترقان كثيراً، بدليل الحفاوة التي استقبل بها الوسط الأدبي - في الإمبراطورية العثمانية -، الشاعر التركي [فضولي] الذي قدم من العراق وهو من سكان بغداد التي وقعت بيد العثمانين في القرن السادس عشر ومن أبناء عشيرة البيات التي تسكن غرب [كفري]. وهؤلاء يتكلمون اليوم التركية والعربية وقد أثيرت مسألة وجوب اعتبارهم عرباً طغى عليهم التأثير التركي. وعلى كل حال فالراجح أنهم من أصل تركي خالص لأن [البيات] كان أسماً لإحدى قبائل [الغز] الغابرة. و[فضولي]( ) وإن كان قد ترك العراق فقد نظم شعره باللهجة [الآذية] وتبوأ على مر الزمان مكانته بين أشهر شعراء الدولة العثمانية وما يزال حتى الآن لهُ صيت في العراق.
يقول [ثامبري: الشعب التركي ص 407] إن اللهجة التركمانية هي أقرب اللهجات صلة بلهجة أناضوليا العثمانية. ويفرق [كوبرلو زاده محمد فؤاد] الأستاذ الشهير بالأدب التركي في جامعة استانبول بين مناطق لغوية ثلاث (1) المنطقة التركمانية (2) المنطقة الاذربيجانية (3) منطقة أناضوليا والروملي [انظر: إلك متظفر لر ص 196] وهناك فرق أقل بين اللهجات الشائعة في استانبول وأخواتها الشائعة في أناضوليا وبين أية لهجة محلية وأختها، واللهجة التركمانية.
ويقدم لنا [مستر كرامرز]( ) مترجمنا وخبيرنا اللغوي التفاصيل التالية من ملاحظاته الشخصية: لم استطع القيام باستطلاعات كثيرة من اللهجة التركية الشائعة في ولاية الموصل. ويكاد المتعلمون كلهم يتكلمون تركية استانبول بدرجة جيدة لكن تمكنت من التفاهم مع أولئك الذين لم يقعوا تحت تأثير استانبول بنفس السهولة تقريباً وإن كان الاختلاف عند بعض المسنين أظهر. أن لغة الكتابة عند السكان - كالعبارات الجارحة المخطوطة على الجدران في أربيل - تختلف اختلافاً يكاد لا يذكر عن اللغة التركية الرسمية. وعلى أية حال فقد أيدت لي تجربتي في لغة التخاطب أن هذه اللهجة يجب أن تنظر بأنها أقرب للمجموعة الآذرية.
وهناك ضابط تركي يفرق عند كتابته عن ترك العراق في مجلة تركية [1915]، بين مجموعتين من اللهجات تختلف اختلافاً طفيفاً عن البقية وهما لهجة [تلعفر وأهالي قرية النبي يونس]( ). ولهجة أربيل وآلتون كوبري وكركوك وكفري. ويرى تشابهاً ملحوظاً بنوع خاص بين أربيل وكركوك. ففي كلا الموقعين تشيع عين الأغاني الشعبية. على أن ترك كركوك كانوا أقل تأثراً بالعناصر الدخيلة.
ويذكر الكاتب نفسه تقليدين محليين غربيين أولهما ما أثر على ترك تلعفر قولهم بأنهم أحفاد جنود [تيمورلنك] والثاني إن هناك رابطة عتيقة بين ترك ضواحي [أورفه] وترك [كركوك] ويضيف قائلاً إنه يوجد فعلاً أوجه شبه بين لهجات هاتين المنطقتين وأغانيهما الشعبية.
وقد لاحظنا المستشار التركي وخبراءه يحادثون الترك المحليين دون صعوبة، ويذكر التقويم الرسمي لولاية الموصل [1330 هـ - 1912] أن سكان [تلعفر] يتكلمون لغة تشبه لغة [الجغطاي].
وأما عن أصل الترك أو التركمان فنجد الحكومة البريطانية محقة في القول أن معظمهم هم أحفاد محاربي [طوغلول] وخلفائه مرتزقة الخلفاء العباسيين. وجنود الاتابكة. إلا أن عملية الهجرة العسكرية هذه والاستقرار لم تقف عند ذلك الحد. فقد كان بعضهم من نسل الجنود والضباط والموظفين التابعين لسلاطين آل عثمان.
وبناء على ذلك فالسكان هنا تركو ـ تركمان، ذوو أصول كثيرة التنوع يتألفون من أنسال مختلف أجزاء الشعب التركي إلا أنهم ترك غربيون جميعاً وليسوا الأقرباء الأقربين لترك أستانبول أو ترك أنقرة. أنهم يرتبطون بأوثق الارتباط بالجمهورية التركية بحيث يمكن اعتبارهم من الشعب التركي نفسه.
ج. اليزيدية
في موضوع اليزيدية تقدمت الحكومتان البريطانية والتركية كذلك بإدعاءات واضحة التناقض. ومع أن اليزيدية قبائل كردية قليلة العدد [بين 21000 و30000 بحسب الإحصاءات البريطانية العراقية، وأقل من 18000 بحسب التقدير التركي] فهم يطلبون منا بعض الاهتمام على كل حال. ومن بين أسباب هذه الاهتمام سبب واحد هو ما تحظى به من إلتفات عام هذه الأمة الغريبة التي عرفت باسم [عبدة الشيطان]. فضلاً عن كونهم عنصراً متمايزاً عن بقية السكان دون شك. مجتمع موحد، وجهاز منغلق على نفسه مهم بالنسبة إلى موضوع بحثنا لأنهم كتلة منظمة متجمعة، ولعلهم المستوطنون الوحيدون في البطاح الغربية.
وعن الناحية القومية فالمذكرة البريطانية لا تزيد عن قولها أنهم قد يكونوا كرداً اصلاء. لكنهم ليسوا بمسلمين - في الواقع أنهم يعتبرون الإسلام ديناً نجساً وهم يظهرون في الخارطة الاثنوغرافية التي قدمتها الحكومة البريطانية بلونٍ يختلف عن اللون الذي اختارته للكرد. ويظهر لون الكرد واليزيدية بلون واحدٍ في الخارطة التي طبعتها الجمعية الجغرافية الملكية (1910) وقدمتها إلى الحكومة التركية.
وإذ ذاك طلبنا من المستشار البريطاني أن يشرح لنا هذا التباين إلا أن رده لم يكن فيه ما يروي الصدى وكل ما قال أن التلوين يختلف في الخارطتين.
وأكدت الحكومة التركية بأن اليزيدية هم عنصر كردي أصيل وأخلاقهم وعاداتهم كتلك التي يتحلى بها الكرد. والاختلاف الوحيد هو المذهب أي أنهم على مذهب إسلامي خاص. وأوضحت الحكومة التركية الأمر بقولها "أن مجرد إتباعهم مذهباً متميزاً لا يكون سبباً لتفريقهم عن الكرد" ثم تعود الحكومة التركية لتقارن الفرق بين الدين الإسلامي واليزيدي، بالفرق بين المذهب الكاثوليكي والبروتستانتي في العالم المسيحي.
يحف الغموض بأصول هذه الشعب اليزيدي الغريب أكثر بكثير من الغموض الذي يحف بأصل الكرد، وهم أنفسهم يقرون باختلافهم عن سائر الأمم الأخرى في العالم. ويدعون أن أصلهم أعرق من كل الأصول العرقية للشعوب الأخرى وتقول أسطورتهم أنهم الأحفاد الرأسيون لآدم أبي البشر. في حين كانت الشعوب الأخرى من سلالة آدم وحواء معاً وسئل أحدهم عن الطوفان فقال أنهم خرجوا من صلب [نوح] في حين انحدرت الأقوام الأخرى من أولاده. والشيعة المسلمون يعتبرون اليزيدية من سلالة [يزيد] الخليفة الأموي الذي أثر عنه بخلافهُ وفتكه بالحسن والحسين لاغتصاب الخلافة منهما. وفي الآداب الإسلامية مثال ذلك ما كتبه [الشهرستاني]( ) "هم أصحاب [يزيد بن أنيسة]" وبذلك يؤلفون مع مجموعتين أخريين المذهب [الإباضي] أو المدرسة المذهبية التي تتبع ما يعرف بالفرقة الشواردية. ولا ينفرد اليزيدية بإنكار هذا الزعم عن أصلهم، بل يشاركهم فيه كتاب كثر آخرون، منهم [مصطفى نوري باشا] والي الموصل السابق الذي توفرت لديه كل الفرص لدراستهم فكتب بحثاً من أمتع البحوث عنهم. وهو يرى كمعظم كتاب العصر والرحالة الأوروبيين أن اليزيدية هم كرد، ويعتقد كتاب آخرون مثل مسيو [بورتقاليان] أن أصلهم من إقليم (يزد) في إيران.
يتكلم اليزيديين باللغة الكردية لا غير، ومع أن كتبهم المقدسة القليلة مدونة بالعربية فلا سبيل إلى القول عن عباداتهم وصلواتهم الأساسية تتلى بالكردية، والصيغة المقررة للتعميد التي يتلوها الشيخ هي كردية والتراتيل كردية، ويعتقدون أن الله يتكلم الكردية. وقد زعم بعضهم أنهم من أصل عربي لكن التأثير الكردي طغى عليهم منذ زمن سحيق وقد بنيت هذه النظرية على كون كتبهم مدونه بالعربية وهو دليلهم الوحيد، في حين كل الدلائل الأخرى تشير إلى عكس ذلك الزعم وتدحضه. ربما استخدمت اللغة العربية لكتابة هذه الكتب لأن اللغة الكردية لم تكن قد وصلت بعد إلى مرتبة اللغة المكتوبة. فضلاً عن ذلك فليس بين رجال دينهم من يفقه العربية أو يتمكن من قراءتها إلا قلة قليلة. ولا تستخدم العربية إلا لأغراض لاهوتية، ولم تكن قط لغة العبادة والصلاة.
بقي اليزيديين منفصلين تماماً دينياً، متميزين بالمظهر الجسمي؛ فهم [على الأقل سكان منطقة باعذراً وشيخ آدي] يختلفون عن المظهر الجسمي للكرد اختلافاً بيناً. ويتعذر علينا تكوين نظرية علمية متبناه على أسس راسخة من لمحة أولية قصيرة. إلا أننا لا نستطيع أن نمسك أنفسنا عن إظهار دهشتنا البالغة للشبه الواضح بين اليزيدية في [باعذرا وشيخ آدي] ولاسيما رؤساؤهم، وبين النقوش التي تشاهد في أشهر الأنصاب والألواح الآشورية المصورة.
عاش اليزيديون منذ أقدم العصور في عزلة تامة، وبحسب اعتقادهم لا يستطيع المرء أن يكون يزيدياً إلا بالولادة. ولذا لا يحاولون التبشير بدينهم، فأمنوا من تَسربْ دم أجنبي في عروقهم. وكان التزاوج مع أصحاب الديانات الأخرى محظوراً حتى الزيجات بين مختلف طبقاتهم الاجتماعية المنفصلة انفصالاً متزمتاً فهي ممنوعة. وطبقاتهم دينية، أولها طبقة الشيوخ ثم البيران، ثم الفقراء، ثم القوالون، ثم الأوان، ثم سدنة مزار الشيخ آدي. والمير [الأمير] هو الفرد الوحيد الذي يحق له أن يتخذ عدة زوجات. وبوسعه اختيارهن دون التقيد بالحظر الطبقي.
ودينهم هذا الذي جعلهم في معزل عن كل الأقوام الأخرى ورّطهم في مآزق وجلب لهم نكبات جساماً واضطهادات عديدة، ولأجله كانوا يتقبلون الموت بأعظم مظاهر البطولة. هو دين مركب نجد فيه كل شكل من عناصر جمعت بفوضى عجيبة. ولم يفلح أحد حتى الآن في الكشف عن كل أسراره. والإحاطة بوصفه من كل جوانبه. فهو يستمد من الفرس مفهوم مبدئي الخير والشر، وربما استمد منهم كذلك عقيدة التناسخ. ولعل التضحية السنوية بالثور الأبيض في مزار [شمس الدين – الشمس] تعود أصولها إلى عمل مماثل في الديانة المثرائية( ). ولعلهم أخذوا عن اليهودية عقيدة الشيطان الذي يمثل [أهريمن: مبدأ الشر] وهم ينزلون التوراة والعهد الجديد [الإنجيل] والقرآن عين المنزلة من الاحترام، ويمارسون عادة الختان وهي عادة ربما استمدوها من اليهودية أو الإسلام أو ربما كما يرى [ويكرام]( ) من مصدر آخر معروف للجميع. ويجب أن لا يغرب عن البال على أية حال - أن الختان وإن كان عادة سامية عريقة فقد كان الآشوريون والبابليون استثناءً من القاعدة، ولم يمارسوها، ويقدس اليزيدية [المسيح] وعلامة الصليب. ولكن من المعروف أن الصليب ليس رمزاً تختص به الديانة المسيحية، فقد وجد في تاريخ يعود إلى ما قبلها وهم يشاركون المسلمين إجلالهم لمحمد (ص) والأماكن المقدسة في [مكة]. ويمكن قراءة آيات قرآنية حفرت على جدران مزارهم. وينبوع الماء الذي يصدر من عين مجاورة لمزار [شمس] يطلقون عليه اسم "ماء زمزم". وهو اسم بئر مكة المقدس. وتقول واحدة من أساطيرهم أن [الشيخ آدي] حول هذا الماء إلى هذا الموقع من مكة بمعجزة، على أن ماء النبع المقدس يستخدمه شيوخهم لتعميد الأطفال. ويرى على جدران هيكل [شمس] أيضاً النجوم والقمر ويشاهد على ركن المدخل الكبير صورة أفعى سوداء ضخمة وهم يعبدون النار كذلك، وهذه لا شك الرابطة التي تربطهم إلى حدًّ ما بالديانة الزرادشتية.
هذه العناصر كلها دخيلة. لكن ثم عناصر قومية أيضاً. فاليزيدية يؤمنون بالكائن الاسمى [العلي الأعلى] ويسمونه [يزدان] وربما كان هذه مصدراً لاسمهم وهو على كل حال يغلب على احتمال اشتقاقه من اسم (يزيد) الغاصب. أو من إقليم (يزد) في إيران، ومهما يكن فالكائن الأسمى هو أرفع بكثير من أن يتوصل إليه البشر لعبادته مباشرة فهو في السماء وليس في الأرض مما يهتم به، ومنه انبثقت سبع أرواح عظيمة أولها وأخطرها [ملك طاووس] وهو إ بليس نفسه، وثانيها [ملك عيسى] وهو المسيح، وبواسطة [ملك طاووس] خلق الله العالم وآجرها له لمدة عشرة آلاف سنة انقضى منها حتى الآن ستة آلاف.
ويعبد [ملك طاووس] على هيئة طاووس برونزي والظاهر أنه توجد نسخ عدة منه يحملها القوالون [الطبقة الدينية الرابعة] وينتقلون بها من قرية إلى أخرى ليقدم لها الأهلون فروض التعبد.
لم يقم بزيارة يزيدية سنجار عين أعضاء اللجنة الذين زاروا يزيدية باعذراً. ومن ثم لم يكن في وسعنا التثبت من صحة أقوال [سر مارك سايكس] بأن هاتين المجموعتين لا ترابط فيما بينهما إلا علاقة الدين ولا يعطي [سر مارك] أي رأي عن أصل يزيدية باعذرا وشيخ آدي. أما عن يزيدية سنجار فيقول أنهم كرد لا شك فيهم، ليس من جهة اللغة وحدها بل بالأوصاف الجسدية. وهو يقارنهم بكرد [درسيم]. وفي رأيه أنهم لجأوا إلى جبل سنجار بعد غزوة [تيمورلنك] ويزيدية اليوم أنفسهم على كل حال يؤكدون أن سكان منطقتهم الأوائل كانوا دوماً يمارسون شعائر الدين اليزيدي.
وهكذا يتضح أذن أن دين هذه القبائل الغريبة وأصولها وقميتها يحف بها الغموض إلى ابعد حد. وما من شك في أنهم لا يمتون للإسلام بصلة. وواضح كذلك أن لا جماع يجمعهم بالعرب أو الترك. على أنهم يتصلون نسباً بالكرد ومن المحتمل أن أصل الأمتين واحد.
يواجه اليزيديين باستمرار مواقف صعبة فقد حرم عليهم أن ينطقوا باسم الشيطان أو يسمعوا به أو بمقاطع منه. وحرم عليهم لبس الأزرق من الثياب. هذه الغرائب فضلاً عن السرية التي تواكب ممارستهم دينهم، صبت على رؤوسهم ألواناً من المصائب، مثال ذلك ما نجم عن فرض الخدمة العسكرية. وفي روسيا القفقاس مثلاً أعفوا من الخدمة لفترة ما. أما في تركيا فلم يصار إلى ذلك لاعتبارهم طائفة من الطوائف الإسلامية. وللسبب عينه كثيراً ما اضطهدهم رجال الدين المسلمون والمجتمعات المتزمتة دينياً. وكانوا في الزمن الغابر أوفر عدداً بكثير مما يعدون الآن. وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر استؤصلت شأفتهم تقريباً في خصم النزاع بين الترك والعرب بمذابح عظيمة تلت ذلك.
ولقد وجدنا في مجرى تحقيقاتنا ما نرى من المفيد التنويه به. وهو على ما نعتقد الخارطة الوحيدة التي تبين سعة رقعة الأرض التي كان اليزيدية يشغلونها في الماضي. وهي كما بدأ لنا تزيد كثيراً عما يشغلونه الآن واسم الخارطة (أرمينيا الكبرى) بالاستناد إلى كتاب أرمني" رسمها المجمع العلمي الفرنسي [أكاديمي فرانسيز] في العام 1765 وتظهر حدود كل أجزاء أرمينيا المختلفة. وتتبع الحدود الجنوبية للبلاد تقريباً (جبال الجزيرة والعمادية ونهري) وتستمر شرقاً في عين الاتجاه إلى جنوب هذا الخط يوجد شريط من الأرض لا تظهر له حدود جنوبية يمتد على طول مجموعة زاكروس الجبلية ويسمى بلاد الكرد. وثمة جزء من هذا الشريط مبتور في نهايته الغربية اثبت فوق اسم (موكيك) أو [بلاد المجوس] وهذه هي المنطقة التي يمكن أن تحد تقريباً بولاية الموصل ودجلة والعمادية وعقره، أو بعبارة أخرى هي الصقع والمنطقة الذي يضم معابد اليزيدية ذلك الشعب الوحيد في تلك الأنحاء الذي يمارس طقوس ديانةٍ ذات صلة بديانة المجوس.
د. العرب والبدو المستوطنون
هناك كتاب مثل (كينيه) يفرقون بين العرب البدو وبين العرب السوريين في حين أن المذكرة البريطانية تشير فحسب إلى [عرب اقحاح] في ولاية الموصل وكانت الحكومة البريطانية قد أجابت على سؤال حول هذه النقطة بقولها إن وجود اختلافات معينة بين عرب البدو وعرب المدن ليس كافياً لتبرير الاستنتاج بأنهم من أصول متباينة، فهم على كل حال، مشاركون في التقاليد والعادات والرأي السياسي.
ولم يكن في وسعنا أن نلاحظ أي فرق إلا ما هو معروف بين عرب البادية وعرب المدينة. أضف إلى هذا ليس من السهل اكتشاف مثل هذه الظلال الخفيفة من الاختلاف في مجموع كبير من السكان أو سنحتاج إلى تحقيقات انثربولوجية وتاريخية واثنوغرافية طويلة لنستطيع تقرير الأصول العرقية أو وحدة الرابطة القومية.
وما من شك في أن السكان ينتظمون في سلالات أخرى قومية سامية غير العرب. وينوه [سر مارك سايكس] أيضاً بسكان ولاية الموصل العرب - الآراميين. وهو العنصر الذي امتزج مع العرب وتأثر بهم كثيراً. وفقد كل خصائصه وتقاليده الأصلية.
هـ. الصارلي والشبك
زودنا مستر كرامرز المترجم الرسمي والخبير اللغوي الملتحق باللجنة بالمعلومات التالية قال إن الأب [أنستاسيوس]( ) المعروف جيداً بتحقيقاته الخاصة عن اليزيدية يقدم لنا معلومات لا يستهان بها عن طوائف [الصارلي والباجوران والشبك] الذين شاهدهم في ضواحي الموصل [مجلة المشرق، عن كلية اليسوعيين في بيروت ـ المجلد الخامس 1902 الصفحة 577 وما بعدها].
يعدد الأب [أنستاسيوس] ما يعتبره قرى الصارلي الرئيسة وهي:
[تل اللبن، بساطلية، كيرلي، خربة سلطان] ولم تذكر هذه القرى للجنة لأن قرية [وردك] بحسب معلوماتنا الخاصة هي مركزها. كذلك هي مقر زعيمهم الديني "موللا (ملا) طه" أو "طه قوجه (خوجه)" وبحسب ما ذكره الأب [أنستاسيوس] أن لغة الصارلي مركبة ومزيج من الكردية والتركية والفارسية. والقول نفسه ينطبق على لغتي الباجوران والشبك.لكنه يضيف قائلاً أن هذه اللغات غير متشابهة. ولو ضاهينا رأيه هذا بالمعلومات التي توصلت إليها اللجنة في [السيافيه] – 20 شباط 1925، (وترى أن لغتهم الوحيدة هي الكردية)، فربما جاز لنا أن نستخلص أن ما يدعي باللغة السرية، ليست إلا الكردية التي دخلتها تعابير تركية وفارسية قليلة. ولغة كتابهم المقدس هي الفارسية على ما يبدو.
وفضلاً عن هذا فالأب [انستاسيوس] يرى في ختام بحثه إن الطوائف الثلاث التي يصفها هي كردية الأصل ويدعم وجهة نظره بالمظاهر الأنثرويولوجية فأفرداها كالكرد متينو الألواح ممتلئو الجسم طوال القائمة حنطيو البشرة مستقيمو الأنوف سود الشعر ذوو عيون بنية غامقة "لا يؤمن جانبهم ويتصفون بالشراسة والغدر".
ولم تتصل اللجنة بطائفة الباجوران، وهم يمارسون من العبادة ما يمارسه غلاة الشيعة ومتزمتوهم.
ويورد الأب [انستاسيوس] أسماء لبعض قرى الشبك وهي [عاي ره ش، ينكه جي، فرنه، فلاره( ) وتقع بالقرب من جبل سنجار [يجب أن يكون هذا زلة قلم فهذه القرى في الواقع أقرب إلى جبل مقلوب منها إلى جبل سنجار. والشبك يجلّون الإمام (علياً) غاية الإجلال على أنهم يشاركون في معظم مناسبات اليزيدية الدينية واحتفالاتهم.
و. المسيحيون
أبدت كل من الحكومتين البريطانية والتركية اهتماماً خاصاً بالوجه السياسي لمشكلة المسيحيين لاسيما الآشوريين النساطرة الذين كانوا يسكنون أصلاً في الجزء الشمالي من الإقليم المنازع عليه والمناطق المصاقبة (الملاصقة) لها. وقد تطرقت المذكرات بالدرجة الأولى إلى تاريخ هؤلاء المسيحيين القريب وإلى كفاحهم واضطهادهم أثناء الحرب الخيرة وإلى مسالة اللاجئين وأخيراً إلى إعادة توطينهم في أراضٍ قريبة من الأراضي التي أجلوا (رُحلّو) عنها.
وليس بحثنا هنا بالمكان المناسب لندلي برأيٍ في هذه المواضيع. حيث لم تذكر الحكومتان البريطانية والتركية في مذكراتهما شيئاً عن هؤلاء المسيحيين حتى في مذكرة الحكومة البريطانية الخاصة بالأرمن والآشوريين (الآثوريين) اللاجئين في مخيم بعقوبة وإنما أشارت فحسب إلى تاريخهم القريب.
على أننا نرى ونحن في سبيل البحث عن أصل مختلف أقوام الإقليم المنازع عليه - من الضروري إضافة كلمات قليلة حول مجموعتين كبيرتين من المسيحيين تعيش في هذه البلاد وهما الكلدان والنساطرة حرصاً منا على إيفاء الموضوع حقه من الشمول. أما المسيحيون الآخرون وهم اليعاقبة واللاتين والسريان الكاثوليك والأرثوذكس والأرمن والبروتستانت فهم قلة.
إن غالبية مسيحيي وادي دجلة هم من نسل السكان الآراميين الذين كانوا أغلبية سكان القطر العراقي في زمن الأرشاقيين والساسانيين عندما بدأت العقيدة [الغنوصية]( ) ثم المسيحية بالانتشار. ولعل الآثوريين النساطرة في جبال العمادية والتياري والمناطق المجاورة لم يكونوا من الأصل الآثوري ذاته تماماً. أنهم يتكلمون عين اللسان السرياني - الآرامي الذي دخلتهُ بعض العناصر الأجنبية وكلاهما يستخدم عين اللغة في طقوسهم الدينية - أعني السريانية القديمة. إلا أن بعض الكتاب يعتقد أنهم خرجوا من عين المجموعة السكنية الجبلية للكرد وأن مسيحيي سهل دجلة عندما باشر الإسلام فتوحاته وتوسيع رُقعة نفوذه، لجأوا إلى حمى الأكراد الجبليين الذين ربما كانوا قد سبق اهتداؤهم إلى الدين المسيحي فنقلوا إليهم مدنية رفيعة متقدمة ولقنوهم لغة جديدة.
وأما عن المذهب النسطوري فإن الإنشقاق يعود إلى عصر التناحر اللاهوتي الذي نجمت عنه الهرطقة المونوفيزية والهرطقة المونوتيلية( ) وأدين البطريك نسطورس في (افسس) في القرن الثالث الذي أدين من قبل أصحاب المذهب النسطوري لخص تعاليمه بأن [العذراء مريم] ولدت [يسوعاً الإنسان] وليس [يسوعاً الله]. وقد اضطهد هو وأتباعه في القسطنطينية، إلا أن الساسانيين أحسنوا استقباله لأنهم كانوا أعداء الإمبراطورية الشرقية. كما أكرم العباسيون وفادة أهل عقيدته. وكان مغزى التكريم الأعلى لهم أنهم حملوا العلوم اليونانية إلى هذه الأنحاء. وقلدوا أعلى المراتب في بغداد بالذات وصار كل مسيحيي الإمبراطوريتين الفارسية والعباسية تقريباً نساطرة المذهب. وبعد ما مرت فترة قصيرة أصبح لهذه الكنيسة خمس وعشرون اسقفية.
وتغير الموقف بسقوط الخلافة العباسية وغزو المغول وتفجرت براكين التعصب الإسلامي الذي تذهب جذوره إلى الشيخ (الهاشمي) عبد القادر الكيلاني.
وفي القرن الثالث عشر كان النساطرة المستهدفون للاضطهاد ينسحبون تدريجاً إلى الجبال إلا أن الطامة الكبرى وقعت بالفتح المغولي الثاني الذي قاده [تيمورلنك] فقد تركت الغارة التيمورية النساطرة بالعدد القليل الذي نجده اليوم. وفي تلك الفترة هاجر بطريركهم من بغداد إلى [القوش]( ) وأستقر في جرف صخري شمال سهل الموصل كان قد أنشأه الراهب الشهير (الريان هورمزد). وفي القرن السادس عشر جرت محاولات لاجتذاب النساطرة إلى المذهب الكاثوليكي، وقد سهل هذا الأمر انشطارهم إلى فرقتين. فانفصلت المجموعة الشمالية تحت زعامة بطريرك مستقل [عرف منذ ذلك الزمن باسم مار شمعون] والتحقت به مراكز اسقفية ثمانية، أثنان منها بإيران.
وشعر النساطرة الذين هم في الأراضي المنخفضة بتزايد الحاجة إلى الحماية فبادروا في العام 1778 إلى الاتحاد بروما ليخرج من هذا الاتحاد الكنيسة [الكلدانية] وهي تتألف من سبع أسقفيات يرأسها بطريرك [بابل] الذي جعل كرسيه أولاً بالقرب من دياربكر ثم نقله إلى مدينة الموصل.
إن تقرير القنصل العام لدولة النمسا والمجر في بغداد الذي أتحفنا بدراسة واسعة لقضية النساطرة والكلدان في عام 1901، يزودنا بالإحصاءات التالية:
النساطرة عدد الأسر
1. مجموعة قبلية التياري برئاسة مار شمعون 2274
2. مجموعة قبائل تخوما برئاسة أسقف 1650
3. مجموعة عشائر كهوهر برئاسة أسقف كهوهر 2103
أ. أسقفية المركز (متروبولتيان) 1067
ب. أسقفية مار يوحنا 972
ج. أسقفية مار يونان 920
د. أسقفية مار كوريال 5217
المجموع 13573
ويقدم عن الكلدان الإحصاءات التالية:
أ. كرسي بابل البطريركي [الموصل وضواحيها في بغداد] 2705
ب. أسقفية كركوك 350
ج. أسقفية العمادية وعقره 1165
د. أسقفية الجزيرة 825
هـ. أسقفية سعرد 915
و. أسقفية ماردين 70
ز. أسقفية دياريكر 200
المجموع 6230
بموجب هذه الإحصاءات نقدر عدد المسحيين بما يتراوح بين ثمانين ألفاً وتسعين ألف نسطوري وأربعين ألف كلداني استناداً إلى قاعدة تقدير ستة أشخاص لكل أسرة. ويلوح لنا هذا التقرير بعيداً عن الحيادية لأنه يستند إلى معلومات قدمها الممثلون البطاركة.
وتقدر المذكرة البريطانية المرفوعة عن اللاجئيين أن عدد النساطرة الجبليين كان يبلغ قبل الحرب مائة ألف.
إن الحكم الذاتي الذي كانت تتمتع به المجموعة النسطورية الثلاث المؤلفة من القبائل الخمسة المستقلة كانت مهددة بالتناحر الداخلي فيما بينها. وأظهرت الدولة العثمانية بعض الرعاية للبطريرك كي تقطع عليه طريق اللجوء إلى حمى روما، أو نقل كرسيه إلى إيران، لأنه ترك البلاد بصورة مؤقتة أثناء المذبحة الأولى التي أقدم عليها بدرخان باشا في العام 1840.
وسمح للقبائل الخمس بدرجة كبيرة من الاستقلال الذاتي وبحكم البطريرك على النساطرة ضمن الإمبراطورية العثمانية فكانت تدفع له ضرائبها فيقوم هو بدفع مقدار ثابت منها كضرائب للسلطات العثمانية. ولقد ظلوا يحافظون على كنائسهم ويحرصون على كتبهم المقدسة الطقسية عدة قرون حتى ضاعت في أثناء الحرب الماضية، وهجروا إلى الجبال كأفضل حمايةٍ لهم حيث لا سلطان يذكر للإدارة. كما كانت الحال في الجبال التي تسكنها القبائل الكردية. وفي الحالات القليلة التي تحاول تلك الإدارة ممارسة السلطة ذاتها عادة لا تتسم بالسماحة والكرم. ويبدو أنه كان ثم اختلاف كبير بين طريقة معاملة الحكومة للبطريرك وبين الطريقة التي كان الباشوات يعاملون رعيته. ويتبع النساطرة الجبليون عين الأسلوب الذي يتبعه الكرد الجبليون في حياتهم: يربون الأغنام وينتقلون من مرعى إلى مرعى، لكنهم يولون عناية كبيرة بزراعة تلك المساحات القليلة من الأرض التي استطاعوا تسخيرها للمحراث في الوديان وعلى سفوح الجبال الشديدة التحدر، وهم يزاولون زراعة المدرجات على نطاق واسع وبأسلوب ري محلي. وزيهم شبيه بالزي الكردي إلا أنه ليس مثله تماماً. فهم يعتمرون غطاء رأس صغير مخروطي غريب الشكل كالذي يرتديه الألبان وليس هناك صلة تربط بين الاثنين. وهم محاربون أشداء كالكرد لا يفارقهم خنجرهم ويدسونه في طيات أحزمتهم، وتلازمهم بندقية حديثة الطراز.
أما الكلدان الذين يسكنون الأراضي المنخفضة فهم أكثر تحضراً لأنهم أقرب صلة وأكثر احتكاكاً بسكان المدن المتعلمين. ولهم مدارسهم التي تشرف عليها أساساً فرنسا وروما ويتلقى معظم رجال الدين الكلدان علومهم في مدرسة اللاهوت (السيمينير) الفرنسية الدومنيكانية بالموصل.
ويسهل جداً التفريق بين قرى السهل الكلدانية والقرى العربية والتركية والكردية بتوفير راحة مقبولة لنظافتها. حيث تعدو كانت بيوت تلكيف والقرى المجاورة حجرية البناء مثلاً. وهؤلاء المسيحيون يعيشون بوئام مع الكرد وعلاقاتهم طيبة. وقد تركوا إنطباعاً مقبولاً عموماً في المناطق التي تسكنها القبائل الكردية والمسيحية. قبل أن تنشط لديهم الهجرة بأعداد كبيرة خارج بلاد الرافدين بسبب الحرب.
الفريق الركن الدكتور
عبد العزيز عبد الرحمن المفتي
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة..
http://www.algardenia.com/maqalat/15851-2015-04-01-09-49-32.html
1148 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع