د.عبدالرزاق محمد جعفر
أعمى بطريق مُظلم / الحلقة الخامسة والعشرون
أقرَ "صابر" بالأمر الواقع, واتخذ قراراً بعدم الأكتراث للعلائق مع الجنس الآخر, وهيأ في شقته كل انواع وسائل الترفيه,.. وعاش وفق نظام غذائي منتظم,... وألتزم بمُمارسـة التمارين الرياضية اليومية, ثم الذهاب الى الكلية لتأدية الواجب المناط به, وبعد أنتهاء الدوام,يتوجه الى مركزالمدينة للتسكع, وشـراء ما يحتاجه من المواد الغذائية.
وعلى أية حال,..أستمر "صابر" بهذا الروتين,.. وفي أحـد الأيام اتصل به ولده المقيم في أمريكا, مؤكداً نجاحه في امتحان نيل المواطنة الأمريكية، وإمكانية التوجه بنفسه الى تونس العاصمة, ومقابلة القنصل الأمريكي , لمنحه الأقامة الدائمة, والأنتقال بمعيته الى أمريكا !
***
هذه هي حال الدنيا,..فما من شيئ فيها يبقى كما هو,..وكما قيل:
ما بين غمضة عين وألتفاتتها يغير الله من حال الى حال, وهكذا راح الكثيرولم يبقى ألا القليل, ًوسيغادر"صابر" تونس, فدب شعوره بالأستقرار,ورمى خلف ظهره كل المنغصات التي تعرض لها من رجال الأمن التونسي لتجديد اقامته,بالرغم من تسليمهم كتاب رسمي من أدارة جامعة الجنوب في صفاقص, يطلب بموجبه تعيين الدكتور "صابر" كأستاذ في كلية علوم صفاقس لمدة عامين!
***
ودارت الأيام, ومرت الأيام, وأذا بتلك العانس تدخل شقة "صابر" من دون موعد مسبق!, وصارت تتلوى امامه " كالأفعى"... محاولة استدرارعطفه,..على أمل أعادة العلائق معه ، إلا أن ذلك كان ضرباً من المستحيل ،لأسباب عديدة أهمها: عدم ثقته بها, فهي (طلسم), أي مُفعمة بألأسرار، ولم يكترث, لكل مخططاتها, فقد كان مُصمماً على تركها, فقد تمادت في تصرفاتها غيراللائقة مع فتية أستغلوا ظروفها ليشبعوا نزواتهم معها ,..وهي بلهاء لا تدرك نتائج فعلها !, ولذا صارالفراق معها مسألة وقت،... ولم يبين لها أي مؤشرلتركها, وظل على سلوكه معها,.. بل ازداد تمثيلاً لكل مشاعره نحوها, وقدم كل ما تمنته من حاجياته التي كانت ترغب بأخذها عند سفره!
وهكذا,ترك "صابر" كل شيء طوع أرادتها، ولم يطلب منها تحديد موعد للقاء معه أو لزيارته في شقته ,...وكانت متعته تتجلى بوجود انسانة تشاركه الحياة,اوكما يقال في اللغة الدارجة ( لطرد الوحشة)!, بالرغم من أنها كانت معه كتمثال اصم، وتظاهرت بأنعدام حواسها الأنثوية!،.. وما من عاقل يصدق ان امرأة بهذا العمر والأنوثة المتفجرة لا تستجيب
لغرائزها ,... وهكذا راودت "صابر" أفكاراً غريبة ،حيث أعتقد أنها في طريقها للتحول إلى رجل, حيث أن العانس بهذا العمر تذوب من أية لمسة من الرجل, فكيف ماتت احاسيسها !؟ ..وهل كان المرحوم نزار قباني غير صادق عندما عبرعن احاسيس الأنثى عند لقاءها بمن تحب وتهوى, وتنشد:
حتى فسـاتيني التي أهملتها = فرحت به , رقصت على قدميه !
***
نوه "صابر" لزميلته عن يوم مغادرته تونس ، بعد علاقة دامت خمسة أشهر, تأرجحت فيها علائقهم بين مـَد وجَزر, ولم يبخل عليها بكل ما تمنته, وأغدق عليها الهدايا في كل المناسبات, وقد توقع منها مفاجئة يوم دعته إلى سهرة في شقتها,إلاأنه فوجئ بفنجان قهوة فقط!
وهكذا,...عاد "صابر" من دارها, بعد ان مكث فيها ساعة واحدة, أحس فيها بالأختناق،...فهو وليومنا هذا لا يصدق أن هناك بشراً بهذا المستوى من الجحود والبخل!, ولم يَطق"صابر" صَبرا,... فأسـتأذن بالخروج, ولم تـُبد أية معارضة, أو دعوة لتناول العشاء معها, حينما حـلً وقت العشاء, ووافقت على المقترح,إلا أنها أصرت على وداعه عند نهاية الشارع,... وفي الطريق دار حديث عام,.. ولم تظهرعليها أية علامة من علامات الحزن على فراق زميل أدعت حبها له!
وفي صباح اليوم التالي, أتصلت بـ "صابر", وبكل صلافة لتخبره برغبتها بالحضور لتناول العشاء الأخير معه!،.. واستغرب "صابر" من طلبها ولم يستطع منعها، فرحب بها على مضض, وفي المساء جاءت وكأن شيئاً لم يكن , وبادرت بكلام لم يعره "صابر" في البداية أي أهمية,... إلا أنه وجد له تفسيراً فيما بعد ،.. حيث قالت له:
أن أختها الكبيرى طلبت منها أن تتزوج بأسرع وقت ، ومن غير الصحيح أن تبقى عانسا وقد اوشكت على الأربعين فأجابها "صابر":
"لا مازلت صغيرة، و العديد من النساء يتزوجن بعد الأربعين!! وبكل هدوء غير "صابر" مجرى الحديث، وبلعت هي تلك النتيجة على مضض، وأستمر بينهما الحديث، الى أن حان موعد مغادرتها الشقة ،... خرج" صابر" بمعيتها لتوصيلها حتى بيتها.
***
في الخامس من تشرين الثاني "نوفمبر" 2000، توجه "صابر" بالقطار من صفاقس إلى العاصمة، ونزل "صابر" في فندق صلامبو
وبعد أسبوع استأجرشقة مفروشة,..وبعد استراحة قصيرة توجه الى السفارة الأمريكية لمعرفة وصول دعوة ولده المقيم في امريكا, بعد حصوله على الجنسية الأمريكية,..ولكن خاب امله!
عاد "صابر" مكسور الخاطر, فقد اتصل به خال ولده واعلمه ان ولده لم تكتمل لديه مقومات الحصول على المواطنة الأمريكية,..وقد يحتاج ذلك لأكثر من سـنتين لكي يجتاز امتحان (السيتيزن ),..حتى يكون مواطن امريكي!
***
أنهار "صابر" بشكل لا مثيل له ، فقد كان يعيش بالأمل وخسر وظيفتة كأستاذ في جامعة الجنوب بكلية العلوم في قفصة،... ولم يكن أمامه أي مخرج لتمديد إقامته في تونـس، و سافر، إلى مدينة قفصة "بالباص" الذي استغرق زهاء السبعة ساعات وفي اليوم التالي واجه عميد كلية علوم قفصة ووجه اللوم له لعدم الأتصال به!,..ثم أخذ منه كل الوثائق وطلب منه التريث بعض الوقت.
وفي اليوم التالي وقع ما تكهن به "صابر" وطلبوا منه عنوانه في تونس العاصمة,... واقترحوا عليه الانتظار لحين اسـتلام الرد من الوزارة ،... وما هي إلا أيام حتى أستلم فاكس" بالأعتذار لعدم وجود الشاغر وعليه الانتظار إلى سبتمبر (أيلول), 2001! ".
*****
ودع "صابر" مدينة قفصة " ، ولما راسلهم قبل الموعد بأشهر تلقى جواباً بنفس الأسلوب, وهكذا تبين لـ " صابر" ان المراوغة ليست صفة ألصعاليك, بل حتى الذين نالوا الدرجات العليا في العلم والمعرفة !... فشتم في قرارة نفسه ظروف بلده التي اجبرته على الهجرة الى بلد مازال يرضخ ً للثقافة الفرنسية ويكره كل ما من شأنه ان يغير نمط التعليم فيه , حيث تعتبر تلك الخطوة البوابة لتوحيد العرب, فأشاعـوا نغمة استحالة التعلم باللغة العربية واصبح الطالب التونسي مجبراً على تعلم الفرنسية منذ السنة الثالثة ابتدائي ولغاية الدراسة الجامعية وحتى الدكتوراه !
***
في بداية شهر سبتمبر (ايلول) 2000 سـافر, الأبن الثالث لصابر الى طرابلس من اجل جلب شهادة تخرجه من جامعة الفانح / قسم الحاسوب,.. فحاول صابر منعه من العودة ثانية الى طرابلس خوفاً من اي مطب قد يعرقل سـعيه للحصول على الفيزة الأمريكية ,حيث وعده القنصل الأمريكي بمنحه وابنه الفيزة اذاما كان جواز سفرابنه لا يدل على ولادته في ليبيا !, وعلى الفور كلم "صابر" صديقه في السفارة العراقية في طرابلس وشرح له الموضوع , فتكفل ذلك الصديق بالتكلم مع القنصل العراقي لأصدار جواز سفر جديد لأبنه كبدل ضايع, ثم يكتب مكان ولادته في العراق ,..حيث صدرت لهم منذ مدة تعليمات بتثبيت مكان الولادة في العراق لأي مولود في خارج العراق! ..وهكذا ضمن "صابر" الشرط الذي فرضه القنصل الأمريكي الا ان عناد ولده واصراره على العودة الى طرابلس سبب لـ"صابر" اكبرمطب في تأخرالتحاقه بعائلته اكثرمن خمسة سـنوات!,وعلى اية حال, أذعن "صابر"لأرادة ولده, وسـلمه مبلغ ثلاثة آلاف دولار لدفعها لأدارة الجامعة أذا طلبت منه ذللك,.. وهكذا ظلً صابر وحيداً في تونس العاصمة منتظراً عودة ولده حاملاً لدبلوم التخرج من جامعة الفاتح !
أكـدً "صابر"على ولده بوضع جواز سفره وكافة المال كأمانة عند زميلهم ( ابو .....), ومـرت الأيام و"صابر" بأنتظار عودة ولده ,.. واذا بنداء تلفوني منه يعلمه بأحتراق العمارة التي يسكنها ( ابو ....), فقد شبت فيها النيران فجأة وتمكن السكان من الهروب واحترق كل شيئ ,..وبضمنها شـنطة الأمانات التي تحتوي على جواز سفربن "صابر"و $ 3000,.. وهكذا ضاع الخيط والعصفور !
***
أتصـل "صابر" بأحد الأداريين من معارفه في جامعة الفاتح , وشرح له الموضوع وامكانية منح ابنه الشهادة لحين تحويل أجور الدراسة,.. فأستغرب الموظف الليبي وقال للدكتور "صابر" :
ان ابناء أسـاتذة الجامعة معفون من دفع اجور الدراسة,..ووعده بأكما ل الشهادة له غداً!, وهكذا عادت البسمة لـ"صابر" أملاً بعودة أبنه خلال ايام ,.. ولكن الحلو ما يكملش, فالمال احترق وانتهى, الا ان المصيبة الكبرى في احتراق جواز الـسفر الذي كان ضمن المال المحترق!
ما العمل؟.. لا بـُدً من جواز سفر عراقي جديد! ,.. لا اريد ان اسرد لكم المتاعب التي واجهت بن صابر في ليبيا وهو يهرول بين السفارة العراقية في طرابلس وبين أدارة الهجرة والجوازات في الجماهيرية العربية الأشتراكية العظمى , حتى لا اتهم بالمبالغة ! لقد اعتبر"صابر" تلك الفترة أسـوء ما مـرً به في هذا المسلسل!,.. وها هو عاد من جديد للأنتظار, وظـلً يسرح ويمرح في شوارع تونس العاصمة حتى المغيب,ومـرًت الأيام ووصل ولده وبيده جوازسفره العراقي الجديد الخالي من بيان مسقط رأسه السابق وفـق التعليمات الجديدة, .. وفرح "صابر" لسلامة ولده بعد غياب عدة اشهر, واستعد وابنه لمراجعة السفارة الأمريكية , وما ان وصل لهما الدور, حتى اطل عليهما موظف آخر, فطلب "صابر" منه أبلاغ القنصل(فلان ), بوجوده ,... وعرض عليه جواز سفره, فرد على الفور :
أنا القنصل الجديد, وان زميله انتهت خدمته هنا وغادر تونس !
***
في 12/12/2000 انتهت إقامة "صابر" وابنه في تونس ولا بد من المغادرة، ولم يجد أمامه سوى (ماليزيا)، حيث رغب في إدخال ولده إلى أية جامعة فيها ، ..إلا أن سوء الحظ ارغم "صابر" على التوجه إلى الأردن لعدم وجود قـنصلية ماليزية في تونس !
يتبع في الحلقة/ 26 / مع محبتي لكل قراء الكاردينيا الغراء
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
http://www.algardenia.com/maqalat/14484-2015-01-13-19-34-01.html
699 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع