أعـمـى بطـريق مـظـلـم / الحلقة الواحد و العشرون

                                     

                     د.عبدالرزاق محمد جعفر

      

  أعمى بطريق مظلم/ الحلقة الواحد والعشرون

    
نفذ صابر القرار الصعب وترك أمريكا, وعاد إلى ليبيا عن في 19/1/1996، وكان ولده الثاني باستقباله بمطار قرطاج بتونس العاصمة،...

ونظراً لخيبة الأمل , قرر "صابر" العودة الى طرابلس بنفس اليوم , وفرح جميع افراد اسرته بعودته إلا أن الفرحة كانت موشحة بألم,  لعدم تحقيق الآمال لأولاده  للدراسة في أمريكا، وأسدل الستار على هذا الفصل وبدأ "صابر" يخطط من الآن لإرسال ولده الثاني لكي يلتحق بأخيه الدارس في أمريكا ليكون كلٌّ منهما سنداً للآخر، وترك الأمر للزمن أو قل لمشيئة الله ، ولم يكترث لكل الخسائرالمادية التي تكبدها في سفرته التي دامت أكثرمن ستة أشهر، تخبط فيها وحيداً وكانت الآمال مفتوحة والكل يطلب منه البقاء في امريكا, ولكن قوانين الهجرة حالت دون تحقيق الآمال,ولم يرغب "صابر" بالأسهاب  لســرد مـسيرته , واجتاز العديد من المطبات التي يصعب تدوينها بسبب فضاعتها وجحود من أعتبرهم أقرب الناس إليه,.. فتذرع بالصبر والإيمان بالواقع .  
***
سألني "صابر" ذات مرة " لماذا دائماً أصطدم بمطب غير متوقع؟

فقلت له :
"لأنك أعمى البصيرة,.. وتسـيربطريق مظلم! ,اضافة الى ثقتك العمياء بالناس!"
ذُهل صابر من الجواب، .وراح يتحدث عن مطبات حدثت له رغماً عنه لا حصر لها، منذ نعومة اظفاره,..وليومنا هذا, فهل كان صابر حقاً " أعمى البصيرة ؟" ربما الطريق الذي سلكه كان مُظلماً أو هو" السـراب بعينه" ، ...ولذا فقد القدرة على التمييز أو التكهن لما سيتعرض له، لأننا  مسيرون, ونجهل كل شيء عن ما يخبأه لنا القدر, اوالنتيجة التي سنؤول لها، وأن أي تردد في تغيير الأتجاه,... لا يضمن النجاح مطلقاً !, كما قال المتنبي:
أذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة = فأن فسـاد الرأي أن تترددَ
كما أننا غير معصومون من الخطإ ,.. فتهورنا وانفعالاتنا تؤدي للعديد من النتائج السلبية , ندفع ثمنها مرغمين ثم نُعزي ذلك للحظ ,..عندما تأخدنا العزة بالأثم !
فظاهرة سقوط القدح من أيدينا وتكسره، لا تُعزى للقدح بل للإهمال وعدم الدقة في حمله بشكل صحيح،.. ولكن عندما يصطدم بنا شخص ما بشكل مفاجئ ,.. ويسقط القدح عندئذ يُبرّأُ حامِل القدح من ذنبه، ونعزي ذلك للقضاء والقدر!
 الأمثلة على ذلك عديدة، ولذا وجب علينا إتقان العمل بشكل دقيق،وإذا لم تتحقق لنا النتيجة، عندئذ يمكن إيجاد المبرر!، ... ولا بد من أن نذكر الحديث الشريف :
(اعقلها وتوكل) ، ولذا فأن المطب الذي عَصَفَ  بـ "صابر", وأبعده عن زملائه وقاده إلى الطريق المُظلم... لم يكن بسبب فقدانه لبصيرته ... بل أنه أمر مجهول يحدث للكثيرمنا، ولذا أقول لكل من يقع بمثل ذلك المطب :
" يا غافل ألَّكْ الله "...،" خوفك من التايهات ", .. "خليها على الله" !
****
بعد أشهر من عودة "صابر" لعمله في ليبيا، حصل على موافقة الجامعة للسفـر إلى تونـس لمدة يوم واحد لمرافقة ولده الثاني وتقديم وثائقه للسفارة الأمريكية .
توجه "صابر" الى مقر السفارة الأمريكية, وبعد انتظارممل , وصله الدور وكان القنصل من سوء الحظ في تلك الآونة إمرأة شـرسـة ,.. فأشتعلت مواجهة ساخنة بين القنصلة وبينه حيث اتهمته برفع السلاح ضَّدَ قوات الأمم المتحدة في الكويت عندما اخرجت القوات العراقية الغازية , فضحك "صابر" من سذاجة تلك المسؤولة، التي لا تميز بين الأستاد الجامعي الذي لم يخدم في الجيش , وبين الضابط المحترف !
وهكذا,..وبعد أن عرض "صابر" وثائقه وأبحاثه والكتب الرسمية من عدة جامعات تُشيد بمستواه العلمي، وبالخصوص شهادة الجامعة الأمريكية في باتون روج ,..وقرار عودته من هناك قبل سنة من تاريخ انتهاء اقامته لغرض الأشراف على معيشة اولاده ودراستهم في ليبيا وهو راغب الآن لأرسال ابنه الثاني للدراسـة مع اخيه بكنف خالهم الأمريكي – العراقي,.. الجنسية,.. راحت تلك القنصـلة,  تذعن بعض الشيء لحديث الصريح، وطلبت منه ملء اوراق تخص التأشيرة لأبنه ، ونفذ كل طلباتها وعاد لعمله.  
***
عاد "صابر" الى عمله في ليبيا بعد غيبة دامت سـتة اشـهر في أمريكا, ولقد عمل بمعية اسـتاذ امريكي لتطابق موضوع اختصاصه معه,... وهكذا استفاد "صابر" من طرق البحث الحديثة,.. وزادت قدراته العلمية , ولذا تخطي كل العقبات التي اعاقته من التقدم في ابحاثه, وفي طليعة تلك الأمور العادات السـيئة التي مازالت مهيمنة على عقول الأساتذة وخوفهم من المسؤل اذا ما خالفهم في البحث , وحتى لو كان على حق!
الا ان "صابر" ومنذ نعومة أظفاره استهجن تلك العادات ,.. مستنداً على قوله تعالى :
"من رأئ منكم منكراً فليقومه,.....",وعلى  اية حال,..فقد استمر "صابر"على أتقان اي عمل يؤديه وعدم التهاون مع اي شخص لا يميز بين الخطأ والصح  ولا يعترف بهفواته ويعرقل المـسيرة  العلمية،... ولا تهمه لومة لائم !
لم يستطع "صابر" ان يتأقلم مع اخلاقيات المجتمع الجامعي والذي اصبح فيه كل تقدم مناط بمدأ الولاء للنظام او الطائفية او الجهة التي نال منها الأستاذ شهادة الدكتوراه ,...  لذا تصادم "صابر" وفقد الكثيرمن معارفه لعدم مهادنتهم مع أعمالهم الباطلة ,وصـار اكثر بُعداً عنهم,.. وانزوى مع نفسه وتفرغ  للقراءة والتأليف ومراسـلة الجامعات العالمية.
***
 قـصً ً لي "صابر" حدوثة حدثت معه في جلسة اجتماع القسـم برعاية رئيسـه, وقال:,.. شـكوت  للحضورانخفاض المستوى العلمي عند الطلبه، وسـردت  لهم مثلاً على ذلك مفاده :  "عدم  معرفتهم مصطلح 90% من المحلول المائي لكلوريد الصوديوم ..ويقولون :
( كذا),  فقال رئيس القسـم " نعم .. هذا صحيح "،..فأبتسمت وقلت له :
إذن أنت  بنفس مستوى طلبتك!,فأرجو ان تراجع اي كتاب منهجي!,..لتصحيح
معلوماتك ,.... فأجاب الرئيس غاضـباً وقال:
" أنا كنتُ أطبق ذلك ,..حتى في ابحاثي في  الدكتوراه " ,..  فأجبته بكل هدوء :
"إذن كل النتائج في أطروحتك خطأ, ولا بُـدً من تصحيح اي خطأ فيها !"
 وهنا ثار الرئيس وقال ســأحكَّمْ الدكتور" فلان "فأبتسـمت له وقلتُ :
"حَكَّمْ من شـأت من الأخوة  الدكاترة هنا او حتى في الصين !...  وراجع بنفسك كل المصادر التي استندت عليها في حسابتك "، ...ومن الغريب,ما من الحاضرين ممن يعلم علم اليقين بصواب ما طرحته,.. قد ابدى وجهة نظره,... والتزموا الصـمت الرهيب  بسبب مجاملتهم الممجوجة على حساب مصير المستوى العلمي للطلبة, ولذا راح احدهم يطلب من مني تأجيل الكلام , وهكذا انفك السـجال العلمي وعد ت لبيتي وبعد ساعة أتصل رئيس القسم بي تلفونياً ليعتذر ويعترف بالخطأ,..فكبرت منزلته في عيوني وازدادت علاقتي به رسوخاً ،... وعلى أية حال ,..هذا هو الأسلوب العلمي الذي يجب أن يتبع لبناء طلبتنا علمياً بعيداً عن الخوف , والعديد منا يتذكرعلماءاً ضحوا بحياتهم عندما عارضهم المتنفذون بخطأ اكتشافهم , مثل لافوازيه, الذي اصر على ان عنصر الأوكسجين هو العامل المؤكسد وبه يتم الأحتراق , فأصدرت عليه الكنيسة حكماً بالأعدام , كما ان احدى الدول العربية لم توافق على أن تذكر في الكتب المدرسية أن " الأرض التي نعيش عليها كروية " عندما تدرس طلبتها الجغرافية فيمدارسها ,..ولم تعترف بذلك الا قبل سنوات, واقـر المسؤولون في ذلك البلد بالواقع, ولذا صارت "الأرض أللي بتتكلم عـربي " ... كروية !
 اننا بحاجة إلى من يعلمنا حتى لآخر لحظة في حياتنا،... ولولا السـجال العلمي بين العلماء والبحث العلمي , لما تطورت العلوم مطلقاً,... فكم من نظرية باءت بالفشل على أيدي طلبة يعملون بمعية بعض الأساتذة العلماء وهكذا توسعت العلوم على ايـدي اجدادنا في شتى التختصاصات منذ فجر التاريخ ,.. ولا ضيرمن أن يسأل الشخص زميله الأقل منه درجة علمية عن أي استفسار ضمن اختصاصه,.. عجزهوعن معرفته ، وأن لا ينزعج من أي نقد بناء يوجه له، فالكمال لله وحده, ... وهنا أستذكر"صابر"حدوثة اخرى مع أحد الذين انتقدهم فقال لـ "صابر" أنت صديقي وتحدثني هكذا, فماذا لو كنت عدوي؟... فقال له :
" لو كنت عدوي, لتركتك تتخبط في شـر أعمالك !
***
 لابد من الإشارة للفرق بين الصراحة والقباحة، فليس من المعقول أن يتهكم اي قارئ او مسـتمع على الكاتب او المحاضر , إذا ما تعثر في شرح عبارة أوعمل تجربة تنقصها الدقة،.. والمفروض في مثل هذه الحالة ,..أن يسأل المحاضرعند الأنتهاء من محاضرته, ويطلب منه التوضيح، فإن اعـتـرف المحاضـر بخطئه انتهت المشكلة  بتصحيح الهفوة التي وقع فيها, واذا ما أصرالأستاذ على موقفه ،... فليجلب السائل (المصدر) ويحاجج  به سـيادته بكل أدب !
وفي تاريخنا العديد من القصص لغرض  تنمية الأدب عند الأطفال في نقاشهم مع من هم أكبر سناً منهم، حتى ولو كانوا من عوائل مرموقة أو شـهادة الناس لها بالسموالخلقي, .. وهنا روى لي "صابر" قصة الخلق الرفيع عند الحسن والحسين , "سلام الله عليهما",.. فقد شـاهدا شيخاً يتوضأ، ... ولمسا عنده خطأ في طريقة الوضوء، وأصابهما الحرج ,..  فتقدم احدهما وطلب من الشيخ أن يحكم بينه وبين أخيه, ويبين أياً منهما أكثردقة في الوضوء، فوافق الرجل ولما انتهيا قال :
" أنتما على صواب وأنا على خطأ و ما انتما الا ابناء رسول الله صلى الله عليه وسلم!"
 ثم تحدث "صابر" عن أمور مشابهة,..وكما يقال : "سـيرة وانفتحت !",.. فقد اطلع على العديد من سلوكيات فطاحل الأساتدة المقنعين بالعلم والمعرفة, ولم يأبه لسطوتهم , ووقف لهم بالمرصاد وكشف مسـتواهم الذي بنوه بالعلاقات الخاصة والولائم السـخية المشبوه!
 ولا بُدَ من الأشارة هنا الى السلوك عند سرد سيرة شخص ما،... فلا يجوز ذكر مساؤه, والتشهيربه, ونشر غسيله !, فالواجب الانتباه للمطبات والتحري عن أسبابها، وهل هوالسبب؟  أم أنها برزت بإرادة خفية يجهل مصدرها،... وكيف نتجنب الجحود والجاحد,.. و ما تأثير الجاحدين في حياتنا،.. وهل دوافعهم ناتجة عن مرض يصعب علاجه؟ أم أن هناك قوى خفية تحركهم ليقابلوا الإحسان بالازدراء والأذى ؟, ... وقانا الله وأياكم منهم.  
***
يتبع في الحلقة/ 22,.....مع محبتي

للراغبين الأطلاع على الحلقة العشرون..

http://www.algardenia.com/maqalat/14139-2014-12-20-18-30-57.html

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

666 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع