عمارة مبنى التأمين فـي الموصل: جماليات الاستحضار المكاني

                                        

                        الدكتور خالد السلطاني

          

 


عندما كُلّف المكتب "الاستشاري العراقي"  بتصميم مبنى شركة التأمين الوطنية في الموصل سنة 1966، كان هاجس رفعة الجادرجي (1926):

المعمار الأول في المكتب وأحد مؤسسيه، منصباً على كيفية أن تكون عمارة المبنى ذات لغة تصميمية متفردة واستثنائية في حلها التكويني مع السعي لأن تكون تلك العمارة منتمية، أيضاً، إلى مكانها قدر المستطاع؛ المكان الزاخر بالتنويع التصميمي، الذي أنتجته ثقافات عديدة ، نشأت على الأرض الموصلية عبر تاريخ المدينة الطويل. بالطبع يمكن فهم نزعة التفرد التصميمي، التي وسمت عمارة الجادرجي في الستينات، وبالتالي يمكن تسويغ مسعاه التصميمي ذاك.

تحية إلى الموصل والموصليين، وهم في محنتهم، ووقفتهم دفاعاً عن القيم المدينية والتسامح.
كما ان مقاربة "انتماء العمارة إلى المكان" ، وإن بدت ممارسة معروفة، وحتى مألوفة في المشهد المعماري العالمي وقتذاك، فإنها ما انفكت تعتبر، بالستينات، من المقاربات الطازجة والمستجدة في الممارسة المعمارية المحلية، ما جعلها لأن تكون مدار اهتمام رفعة الجادرجي المهني، هو التائق دوماً لأن يكون عنوان عمارته حافلا بالجدة والحداثة. لكن الأهم في ما سيميز عمارة المبنى المتوقعة، هو مقدرة المعمار في وضع برنامج تصميمي لنفسه، يتعاطى مع "تضادية " صارخة، معبراً عنها في ثنائية مختارة من <التفرد التصميمي> و <الانتماء المكاني>، وان يكون كل ذلك حاضرا في اختلاق لغة تصميمية جديدة، بمقدورها أن تثري شواهد البيئة المبنية المحيطة، وأن تضيف لها أنموذجاً معمارياً مميزاً ولافتاً. وهو ما تجسد في مبنى شركة التأمين بالموصل (1966)، عمارته التي ستكون مدار اهتمام هذه الحلقة من "عمارة..عمارة". لكن علينا قبل الحديث عن خاصية العمارة المنجزة، ان نشير، ولو سريعاً، إلى مجموعة القيم والمبادئ التصميمية المشكلة لمرجعيات تلك العمارة.
يدرك المعمار جيدا، بأن ما "توصل" إليه سابقاً، من إنجاز فريد لحلول تصميمية، يجعل منها بمثابة تنويعات تؤسس لذخيرة معمارية مميزة، يفتخر، عن حق، بأنه هو ذاته من اجترحها. ولهذا فانه لا يرغب ان يمر منجزه التصميمي هذا مرور الكرام في مخيلة متلقي عمارته؛ سواء كانت تلك العمارة منفذة ببغداد، حيث يقيم ويعمل، أم في خارجها. انه يعتقد بأن ما تم اجتراحه يوما ما، جديرا ان يُرى في أمكنة أخرى. لكنه يعي تماماً من ان فعل تلك "المشاهدة"، سيكون وقعه على المتلقي مؤثرا وعميقا، في حال كانت عمارته تنزع إلى ترسيخ خصوصية المكان في الحل التكويني. وهو ما يفسر، في اعتقادنا طبيعة اختيار نوعية المداخلة التصميمية التي انتقاها المعمار لمبنى التأمين في الموصل. صحيح أننا إزاء تشكيل فنى لحل تكويني نادر انطوت عليه عمارة المبنى، لكننا نعلم بان ما نشاهده الآن، سبق وان "شاهدناه" في مكان آخر. (نحن نتحدث، بالطبع، عن عمارة "مبنى اتحاد الصناعات "على ساحة الخلاني ببغداد (1966) للمعمار ذاته). فكلا المبنيين يعتمدان على مقاربة تصميمية متماثلة، فحواها يكمن، كما اشرنا إلى ذلك مرة، في تخليق "خطاب معماري خاص... يتمظهر في "فك ارتباط" تحرير واجهات المباني من حتمية ملازمتها لنوعية الصياغات المتشكلة عن نفعية الوظائف التي تؤديها أحيازها، أو حتى الابتعاد عن نزعة تكرار الوحدة القياسية المؤلفة لمنظومة "كاسرات الشمس"، الشائعة في الممارسة المعمارية وقتذاك " خالد السلطاني، المدى، 23 آذار 2013)
في مبنى الموصل، تحضر العمارة المتفردة، ذات التشكيلات الفنية غير المألوفة، بصورة ناصعة ومؤثرة. إذ يضفي موقع المبنى المميز المطل على ميدان حضري مهم، والذي ينهض بصورة منفصلة نوعا ما، بعيدا عن كتل مجاوراته، يضفي على تلك العمارة وضوحا وصفاء كبيرين، ويسهم في رؤية تفاصيلها المشغولة على درجة عالية من الدقة والرهافة. لقد اجتهد المعمار بأن يكون حضور تلك التفاصيل في الحل التكويني الصائغ لعناصر الواجهات، حضورا فعالا ووافراً. لكن الأبرز هنا، هو اختيار المصمم لمادة "الحجر" كي تكون المادة الإنشائية الإنهائية لسطوح واجهاته. إنها المادة المألوفة، وحتى المحببة، لدى كثر من بناة الموصل، والتي أمست جراء استخداماتها المتواصلة والمتكررة، جزءاً من ثقافة المكان البنائية. وبهذا الاختيار، فإن المعمار، يتوق إلى تذكيرنا بأهمية المكان، الذي تنهض عليه عمارته.
تبقى المقاربة التصميمية (تنويع على ثيمة واحدة) التي يوظفها المعمار في "تشكيل" مبناه، هي الأساس الذي ينظم لغة العمارة المنتجة هنا، كما وظفت سابقا في المبنى البغدادي. إذ تنطوي تلك "الثيمة" على حضور الجدران المزدوجة، والتي بمقدورها أن تمنح المصمم "حرية" واسعة في رسم وتوقيع فتحات نوافذ الواجهات، ومن دون التقـيّد لوظيفة الفضاءات التي تحميها أو مراعاة نوعية الحيز ومقدار مساحته. يعمل المعمار، على عدم التفريط بالجمالية المتولدة عن فعل حضور الجدران المزدوجة. وهو إذ يعي إمكانية ظهور الإحساس بالضجر التصميمي، جراء الإسراف وفائض الاستخدام لذلك الحضور، فانه ينزع إما إلى تغيير نوعية تشكيلات الفتحات "المحفورة" في تلك الجدران، أو لإيقاف استمرارية حركة "الجدران المزدوجة" في أجزاء من واجهاته، نائياً بها بعيداً عن انطباع "الواجهة المسطحة" المألوفة، ومانحا لها بعدا ثالثاً، مرتقيا بها، جمالياً، إلى ما يشبه العمل النحتي. في أحيان أخرى "يرسم" المصمم أضلاعاً خرسانية Ribs ناتئة، على سطوح واجهاته، ذات امتدادات طولية بأبعاد متغيرة، مهمتها "كسر" الرتابة التي قد تظهر جراء توظيف تلك "الثنائية الجدارية". وفي العموم، فان عمارة مبنى التأمين في الموصل، كما هي مثيلتها البغدادية، جمعت في ثنايا عمارتها "متضادين" هما: :التفرد التصميمي، والانتماء المكاني على "سطح" واحد! بيد ان مقدرة المعمار المهنية العالية، استطاعت ان تشغل هاذين المتضادين بأقصى طاقتهما، وان تخلق منهما أداة لحضور جمالية مضافة اتسمت بها عمارة المبنى. وليس من المبالغة في شيء، إذا أعددنا ذلك المبنى بكونه واحداً من اهم منجزات العمارة العراقية الحداثية. إنه بتشكيلاته المميزة وتفاصيله المرسومة بعناية، ولغة عمارته غير المألوفة، والاستثنائية في المشهد المبني، يرتقي ليكون، "أيقونة" بصرية لمجمل النتاج المعماري العربي والإقليمي. إنها إضافة بارزة، وإضافة نوعية من المعمار لمنجز العمارة التي نفتخر بها
عندما أنهى رفعة كامل الجادرجي (المولود في كانون الأول من عام 1926 ببغداد، والذي ستحتفل الأوساط المهنية والأكاديمية بتسعينيته بعد عام تقريبا) تعليمه المعماري من مدرسة "هامرسميث للفنون والأعمال" (1946-52) بلندن / المملكة المتحدة، عاد إلى العراق، واشترك مع عبد الله إحسان كامل وإحسان شيرزاد، في تأسيس مكتب "الاستشاري العراقي" (1953)،وانضم لهم ،بعد ذاك، معماريون آخرون. قدر لغالبية مشاريع المكتب ان تمثل بعمارتها المميزة ولغتها التصميمية الحداثية، صفحات مهمة وناصعة في سجل المنجز المعماري العراقي. ومن ضمن تلك المشاريع: دارة كتخدا (1957) في العلوية، نصب الجندي المجهول (1959) في ساحة الفردوس (1959)، كلية الطب البيطري (1965) في أبي غريب، بغداد، دارة يعسوب رفيق (1965)، في المنصور ببغداد، مبنى اتحاد الصناعات العراقي (1966) في بغداد، بناية التبوغ (1967)، في باب المعظم ببغداد، مشروع مسجد لندن (1969)، لندن /المملكة المتحدة (لم ينفذ)، مصرف الرافدين (1969)، في المنصور ببغداد، مبنى الاتصالات (1971) <بالاشتراك مع هنري زفوبودا>، في السنك ببغداد، دارة هديب الحاج حمود (1972) في المنصور ببغداد، بناية مجلس الوزراء (1975)، في كرادة مريم ببغداد، وغير ذلك من التصاميم المميزة، ذات الوظائف المتنوعة
أصدر الجادرجي عدة كتب تعاطت مع الشأن المعماري والفني والأنثروبولوجي مثل: شارع طه وهامرسميث (1985)، صورة أب (1985)، مفاهيم وتأثيرات: نحو أقلمة العمارة الدولية (1986)<باللغة الإنكليزية>، الأخيضر والقصر البلوري (1991)، حوار في بنوية الفن والعمارة (1995)، جدار بين ظلمتين (2003) <بالاشتراك مع زوجته بلقيس شرارة>، في سببية وجدلية العمارة (2006)؛ الذي نال عنه جائزة زايد للكتاب (2008)، أصدر الجادرجي في الفترة الأخيرة كتابين آخرين هما " صفة الجمال في وعي الإنسان" (2013)، وكتاب "دور المعمار في حضارة الإنسان (2014)، والكتاب الأخير جاء بـ 784 صفحة. سبق ان حاز الجادرجي جائزة الرئيس لمؤسسة أغا خان (1986). مقيم في بريطانيا منذ الثمانينات، ويتنقل في إقامته بين لندن وبيروت.
المصدر: جريدة المدى

 

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

991 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع