لماذا لم تغن أم كلثوم قصيدة الجواهري في معرض دمشق الدولي ١٩٥٨ ؟

            

لماذا لم تغن أم كلثوم قصيدة الجواهري في معرض دمشق الدولي ١٩٥٨؟

       

غنت أم كلثوم في حفل معرض دمشق الدولي كما لم تغن من قبل..فألهبت المشاعر وأشعلت القلوب..وكان في برنامج حفلها هذا قصيدة للشاعر العراقي مهدي الجواهري أرادت أن تشدو بها تحية لجيش العراق الذي قام بثورة 14 تموز (يوليو) قبل الحفل بعدة أسابيع.


قبل الحفل بوقت قليل ألغت أم كلثوم القصيدة من برنامج الحفل على وعد أن تنشدها في وقت لاحق في إحدى حفلاتها أو خلال زيارتها لبغداد التي كانت قد نوت عليها.
ولكن لم تأت الرياح بما تشتهي السفن، فسرعان ما بدأ الخلاف السياسي بين القاهرة وبغداد يشتد وانتهى إلى قطيعة تامة بين البلدين..وكانت ضحية هذا الخلاف تلك القصيدة التي كان السنباطي قد لحنها ولم يتبق إلا البروفات الأخيرة لها.

تفاصيل ذلك ذكرها الكاتب اللبناني سعيد فريحة في مقال له نشرته جريدة أخبار اليوم الصادرة يوم السبت 6 سبتمبر 1958.وبمناسبة احتفاليتنا الكبرى بأم كلثوم أنقل لكم هنا هذا المقال كما نشرته اخبار اليوم آنذاك.
إليكم نص المقال:
فتح مئات الألوف جهاز الراديو في العراق ليسمعوا أم كلثوم تغني قصيدة معينة!
النساء في البيوت. الرجال في المقاهي.الفلاحون في القرى.التجار في محلاتهم. كل هؤلاء سهروا الى جوار آلات الراديو ليستمعوا الى قصيدة الشاعر العراقي الجواهري التي سوف تغنيها أم كلثوم!
وغنت أم كلثوم الوصلة الأولى ولم تغن القصيدة و الوصلة الثانية والوصلة الثالثة ولم تغن القصيدة ودهشت الملايين في العراق ولم تعرف السبب!..

ان كثيرين طاروا من العراق الى دمشق ليسمعوا ام كلثوم أولا ثم يسمعوا القصيدة! انها قصيدة أثارت اعجاب شعب العراق! يكفي أن الصحف العراقية نشرتها ذات يوم (مانشيت) كنت تفتح صحف العراق اليومية فلا تجد فيها غير (مانشيت) واحد (قصيدة الجواهري)
ان سعيد فريحة صاحب الصياد طار مع أم كلثوم الى دمشق وهو يكتب لأخبار اليوم حكاية القصيدة التي كان ينتظرها الملايين في العراق. ثم يذيع خبرا آخر. أن أم كلثوم قررت أن تطير الى العراق لتغني هناك القصيدة التي أرادها شعب العراق.
دمشق – من سعيد فريحة:
أحيت أم كلثوم مساء الخميس حفلة غنائية في معرض دمشق الدولي. كانت الملايين في ديار العرب،وخاصة في العراق، ينتظرون أن تغني كوكب الشرق قصيدة الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في تحية جيش العراق وبطله عبد الكريم قاسم. كانوا يسهرون حول أجهزة الراديو مترقبين في حماسة وشغف سماع الصوت العظيم الساحر وهو ينشد:

سدد خطاي لكي أقول فأحسنا
فلقد أتيت بما يجل عن الثنا

وحانت الموعد، وغنت أم كلثوم في الوصلة الأولى:

ذكريات..
وغنت في الوصلة الثانية
عودت عيني على رؤياك..
وفي الثالثة: أهل الهوى يا ليل...
ولم تغن قصيدة الجواهري.. بالرغم من انها كانت أبلغت سفير العراق في القاهرة أنها ستغنيها، وكان السفير بدوره قد أبرق الى المسؤولين في بغداد الخبر السار، فنشرته الصحف هناك بأحرف بارزة، وهيأت الجمهور لسماع كوكب الشرق وهي تغني:

جيش العراق اليك ألف تحية
تستاف كالزهر الندي وتجتني
ولقد دفعت بما نظمت قرائحا
ولقد عقدت بما نثرت الالسنا
ولقد ضربت ولست أملك مضربا
ولقد طعنت ولست أملك مطعنا

ولكن كوكب الشرق لم تغن هذه القصيدة الرائعة، فماذا حدث..؟
لماذا عدلت أم كلثوم في آخر لحظة عن انشاد القصيدة..؟ ماذا قالت لسفير العراق..؟ وما هي الاشاعات والتفسيرات التي راجت حول عدول أم كلثوم في اللحظة الأخيرة عن انشاد قصيدة الجواهري في تحية جيش العراق وبطله عبد الكريم قاسم..؟ لقد قدر لي أن أقف على الحقائق والتفاصيل، وأن أكون طرفا في هذه القصة المثيرة،وأن أرافق أخيراً أم كلثوم من القاهرة الى دمشق..!
لأ... زوجك
وقبل السفر سهرت مع أم كلثوم وزوجها الصديق الدكتور حسن الحفناوي وفائق السامرائي سفير العراق..
وكانت (أم البنين) حاضرة.. فسألت زوجتي أم كلثوم:
- متى ستسافرين الى دمشق..؟
قالت: صباح الأربعاء..
قالت: وهل سيسافر معك زوجك؟
قالت: لأ.. زوجك..!
وضحكنا جميعا لهذه النكتة. وكانت أشدنا ضحكا، شريكة الحياة..

توفيق من الله

وجرى الحديث عن قصيدة الجواهري فقالت أم كلثوم، أنها اختارت منها زهاء عشرين بيتا، وأن رياض السنباطي قد وفق في تلحين هذه الأبيات..
قلت: ومتى استطاع أن يفعل ذلك؟ ان الجواهري نشر قصيدته منذ وقت قريب..ّ
فقالت أم كلثوم: انه توفيق من الله وسأل سفير العراق كوكب الشرق عما اذا كان يستطيع ابلاغ المسؤولين في بغداد خبر اعتزامها انشاد القصيدة؟ فأجابت بالايجاب..
وفي اليوم التالي اتصل فائق السامرائي ببغداد، ولم يكتف بنقل الخبر، بل استأذن في السفر الى دمشق ليقدم الى أم كلثوم في الحفلة باقة الزهر باسم العراق و جيش العراق..
ووافق المسئولون، ثم جاء في أنباء بغداد أن رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم زار الشاعر الجواهري في منزله وهنأه بالقصيدة التي ستنشدها أم كلثوم.
أم كلثوم تعتذر
وفجأة اتصلت أم كلثوم بالسفير فائق السامرائي وقالت له: أن أسباباً فنية تحول دون انشاد القصيدة، ولذلك فهي تعتذر..
ودهش السفير، ثم حاول اقناع أم كلثوم بضرورة العمل على ازالة الأسباب الفنية، فقالت: مستحيل..!
واتصل بي السفير العراقي ليخبرني باعتذار أم كلثوم.. وليقول أن حكاية (الأسباب الفنية) قد يصعب تصديقها في العراق..
قلت: وفي غير العراق أيضاً. ولكن من مزايا أم كلثوم أنها انسانة صادقة قال: وما العمل..؟ ان العراق، حكومة وشعباً في انتظار سماع القصيدة قلت: وماذا يطلب مني..؟ قال: اقناع أم كلثوم بانشاد القصيدة ولكن، من يستطيع اقناع المطربة الكبيرة في موضوع يتعلق بفنها، وهو عندها بعد الله..؟
وأنا الذي أعتز بصداقة أم كلثوم وأعتبر نفسي من أسعد خلق الله أني أعيش في عصرها، قد أستطيع اقناعها بأن تضرب كميل شمعون بالرصاص، ولكني لا أستطيع أبدا اقناعها بأن تغني قصيدة قررت لأسباب فنية أو غير فنية ألا تغنيها..
ومع ذلك فلم أشأ أن أقف مكتوف اليدين، والأمر يتعلق بالعراق وجيش العراق، وبالصديق فائق السامرائي، فاتصلت بأم كلثوم وسألتها:
- ايه الحكاية..؟
قالت: حكاية ايه يا أستاذ..؟
قلت: حكاية اعتذارك عن انشاد قصيدة الجواهري..؟
قالت: يعني ما كنش لازم أعتذر؟
قلت : أقصد ما هو السبب..؟
قالت: ذكرته للسفير..
قلت : انك قلت للسفير أن رياض السنباطي مريض والموسيقيين لم يحفظوا اللحن.. أليس من سبب آخر..؟
قالت: لأ..
قلت: أرجوك يا أم كلثوم.. أن شعب العراق ينتظر، وملايين العرب ينتظرون.. وقد يتردد الجميع في تصديق حكاية مرض السنباطي وعدم حفظ اللحن..
قالت: وأعمل ايه..؟
قلت: أي شيء وتغني القصيدة..
قالت: مستحيل..
ولم أقطع الأمل، بل قررت أن أعيد الكرة وأنا في طريقي مع كوكب الشرق الى دمشق..

العودة إلى القصيدة
وعدنا بعد وصولنا إلى دمشق إلى موضوع قصيدة الجواهري
وقلت لأم كلثوم : أخشى أن يفسر عدم إنشادك القصيدة تفسيراً خاطئاً.
قالت : واعمل إيه؟
قلت : جربي أن تحفظي الموسيقيين اللحن قبل الحفلة.
قالت : ولكن يجب أن يكون اللحن حاضراً، فقد يعدل أو يبدل في اللحن فضلاً عن أنه لم تجر العادة أن أجمع الموسيقيين وأحفظهم اللحن بالنيابة عن رياض السنباطي.
ثم ذكرت أن السنباطي مريض فعلاً، ويخاف ركوب الطائرة، ولولا ذلك لطلبت منه أن يجيء مع الفرقة ويحفظها اللحن في دمشق.
قلت : وهل أنت مصممة على إنشاد قصيدة الجواهري في حفلة مقبلة؟
قالت : إذا لم أنشدها في حفلة فسوف أسجلها في الإذاعة، ولكني أفضل أن أذهب إلى بغداد وأنشدها هناك.
قلت : متى؟
قالت : في أقرب وقت إن شاء الله. إنني فعلاً أريد أن أطير إلى بغداد لأغني هذه القصيدة هناك!

تغني بدون ميكروفون
وكما يحدث في القاهرة حدث في دمشق، فقد بيعت تذاكر الدخول إلى حفل أم كلثوم في السوق السوداء..وجاءت وفود من العراق والكويت والبحرين والسعودية وحتى من لبنان رغم صعوبة المواصلات، لسماع كوكب الشرق..

وغنت أم كلثوم، كأنها تغني في عيد.. ولا حظت في الوصلة الأولى أن مجموعة الميكروفونات الموجودة أمامها على المسرح عالية أكثر من اللزوم..فأشارت إلى الشخص الموكل بالأمر أن يخفضها قليلاً، فأخفضها حضرته أكثر من اللزوم.. وهنا تركت كوكب الشرق الميكروفونات وراء ظهرها وأخذت تغني في صالة رحبة ازدحم فيها أكثر من أربعة آلاف شخص..وضجت الصالة بالتصفيق وبالدعاء إلى الله أن يحفظ أم كلثوم وصوت أم كلثوم!

المصدر:المدى -  سعيد فريحة في أخبار اليوم.

  

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

551 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع