كمب سارة خاتون وأحداث عالقة في ذاكرتي

      

كمب سارة خاتون وأحداث عالقة في ذاكرتي

  

                

                     بقلم لواء الشرطة الحقوقي
                      محي الدين محمد يونس

        

تطوع المرحوم والدي للخدمة في الجيش العراقي في عام 1945 وأحيل على التقاعد بناء على طلبه في عام 1963 وكان برتبة نائب ضابط على ملاك قيادة القوة الجوية – آمرية نقليات القوة الجوية في معسكر الرشيد وطبيعة عمل والدي ألزمت العائلة بمرافقته عند صدور أمر نقله من مكان إلى آخر وكان هذا حال العسكريين وعوائلهم حيث سكنا في محافظة الموصل في الأعوام من 1950 ولغاية 1954 كما سكنا محافظة البصرة عام 1955 والنصف الأول من عام 1956 وبعدها نقل والدي الى محافظة بغداد وهذا على خلاف ما متبع في الوقت الحاضر حيث يرفض منتسبو الجيش والشرطة والموظفون المدنيون الخدمة في غير محافظاتهم وبالقرب من محلات سكناهم حيث كان أمراً طبيعياً ومألوفاً أن ينقل الشرطي والجندي والموظف البسيط من محافظة أربيل إلى محافظة البصرة أو الانبار (الرمادي) والعكس صحيح على الرغم من قلة الرواتب التي كانوا يتقاضونها حيث كانت الحياة بسيطة وسبل العيش سهلة والعلاقات الاجتماعية مبنية على الود والاحترام وروح التسامح وكان الموظف المنقول لا يجد أية صعوبة في المكان الجديد المنقول اليه بعد أن يتأقلم مع أفراد عائلته في الجو والمجتمع الجديد.

تحضرني خواطر وذكريات كثيرة عن فترة سكننا في منطقة كمب سارة خاتون أدرجها أدناه وأملي أن تلاقي الاستحسان والقبول من القراء الأعزاء....
أولاً: - كانت تعتبر من الأحياء الحديثة في بغداد عندما سكناها يحدها من الشمال كمب الأرمن قبل بناء حي الرياض ومن الجنوب معسكر الرشيد ومن الشرق تل محمد ومن الغرب طريق معسكر الرشيد.

    

               كمب الأرمن - بغداد في هذه الأيام

سميت المنطقة المذكورة على اسم مالكة أرضها الأرمنية (سارة أوانيس إسكندر) المولودة في بغداد عام 1889 والمعروفة في الأوساط البغدادية باسم (سارة خاتون) وكانت تعتبر من أغنياء العراق المشهورين حيث ورثت عن والدها وزوجها عقارات واسعة وشاسعة في عدة مناطق في بغداد كما كانت تمتلك عدة مقاطعات زراعية في أغلب المدن العراقية.

اتذكرها حيث كانت تجلس في مدخل دارها القريبة من دارنا وأمامها طبق المكسرات وطبق آخر من الفواكه وكانت حالتها المادية صعبة في تلك المرحلة بالرغم من امتلاكها العديد من قطع الأراضي السكنية إلا أنها لم تكن تستطيع التصرف بها بسبب تراكم المستحقات الضريبية عليها.

    

     سارة أوانيس إسكندر والمعروفة باسم سارة خاتون

مرت المذكورة بكثير من المصاعب والمآسي بالرغم من كونها كانت ميسورة الحال وكان ذلك احد أسباب شقائها بالإضافة الى جمالها الملفت للنظر, لقد فقدت المذكورة والدتها ووالدها قبل ان تبلغ سن العاشرة وأصبحت تحت وصاية عمها (سيروب إسكندر) والذي استغلها من خلال وصايته عليها وعلى ما تملكه من أموال وعقارات وتلاعبه بها لمصلحته الخاصة وقد تخلصت من نفوذه وسيطرته بكثير من المعاناة والضرر المادي ولم تكد تتخلص من هذه المشكلة الا وواجهتها مشكلة أخرى سبب لها الكثير من الالام والمصاعب وعدم الارتياح , عندما شاهدها والي بغداد العثماني (ناظم باشا) في حفلة عائلية عام 1910 ووقع في حبها بالرغم من الفارق الكبير بين عمريهما حيث قوبل عرضه للزواج منها بالرفض القاطع إلا أنه أصر على تحقيق مآربه متبعاً كافة السبل للوصول الى غايته وكان رفضها مكلفاً وعلى حساب راحتها وحريتها حيث لجأت الى التخفي في أماكن كثيرة أو سفرها وابتعادها عن بغداد للتخلص من مطاردة وتعقب الموما إليه.

               

                          ناظم باشا والي بغداد

لقد كان لسوء تصرفها بأموالها وعدم تبصرها بعواقب الأمور حيث وضعت ثقتها بسماسرة واشخاص مستغلين طامعين في ثروتها واملاكها بالإضافة الى اسرافها حيث أوصلها ذلك إلى حالة الفقر المتقع والتماسها مساعدة الأخرين لها في أمور معيشتها اليومية المعتادة.

   

                    كنيسة الأرمن في بغداد

توفيت (سارة خاتون) في 5 كانون الأول من عام 1960 ودفنت في مقبرة كنيسة الأرمن الواقعة قرب ساحة الطيران، وبذلك انتهت حياة هذه الإنسانة التي حظيت بالاحترام والحب والتي فقدت ثروتها من خلال مساعدتها للآخرين ومساهمتها في الاعمال الخيرية والتحايل عليها من الكثيرين وفي مقدمتهم أقرب الناس إليها.

    

        سارة خاتون تتوسط صورة جمعتها مع وجهاء بغداد

ثانياً: - سكنة الحي المذكور كانوا خليط من العرب والأكراد والمسيحيين وفي الحي عدد كبير من عوائل العسكريين الذين تقع وحداتهم في معسكر الرشيد القريب المجاور، وهذا ما دفع والدي لاختيار هذه المنطقة للسكن فيها...
كانت توجد في المنطقة المذكورة مقهى واحدة يرتادها الرجال والشباب من أهل المنطقة وكانت تحصل فيه مشاجرات بين مرتاديه في كثير من الأحيان وسوء المصير للمدني الذي يكون طرفاً في مشاجرة مع عسكري حيث يهرع زملائه المتواجدون في المكان لمناصرة زميلهم العسكري ضد الطرف المدني وفي كثير من الأحيان كان يتم تدخل العسكري في المشاجرة لصالح الطرف العسكري دون أن تكون له علاقة بالمذكور ومعرفته أسباب النزاع بينهما وعلى قاعدة ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) أو ما كان يسمى في ذلك الزمان ((فزعة أبو خليل)).

ثالثاً:- شهد العراق في الأعوام من 1958 ولغاية 1963 بروز صراع سياسي وتناحر بين قطبي هذا الصراع المتمثل في الحزب الشيوعي العراقي من جهة وحزب البعث العربي الاشتراكي والتيار القومي العربي من جهة أخرى، وكان هذا الصراع بين الطرفين يتخذ أشكال وأساليب عديدة تصل إلى حالات التصادم بالأسلحة النارية والاغتيالات وتقودني ذاكرتي في هذا المجال وجود المجموعتين في منطقتنا وكانوا في حالة تناقر وخصام وكان لكل طرف من طرفي النزاع مجموعة من الشباب بقيادة أحد الأشقياء حيث كان الشقي (طارق) يقود الطرف المرتبط بالحزب الشيوعي العراقي في حين كان الشقي (سعيد أبو العضلات) قائدا لمجموعة الطرف الثاني.
كانت الشرطة عاجزه عن التصرف والسيطرة على المذكورين في حالة نشوب النزاعات بينهم وتقودني ذاكرتي عندما خرجت من متوسطة الجمهورية والتي كانت في ذلك الوقت تقع في حي بغداد الجديدة وانتقلت بعد ذلك إلى منطقة كَراج الأمانة، حيث كنت طالباً في الصف الأول المتوسط وانا استقل دراجتي الهوائية والتي كنت استعملها في التنقل بها بين المدرسة وداري وبعد أن ابتعدت مسافة قصيرة عن المدرسة شاهدت مجموعة من طلاب مدرستي وهم يقفون في وسط الشارع وعندما اقبلت باتجاههم نادى علي أحدهم ((گول وحدة)) تفاجئت ولم أفهم ما يقصده المذكور من سؤاله مجيباً إياه ((لا اثنين أحسن)) فما كان من المذكورين إلا أن هجموا علي وأنزلوني من دراجتي ورفعها أحدهم عالياً وألقى بها أرضاً وأدى ذلك إلى تحطمها وعدم صلاحها للاستعمال في حين كان الآخرون من زملائه مشتبكين معي ويتهموني بالانتماء إلى الحزب الشيوعي وبدوري أنفي لهم ذلك مبرراً عدم فهمي مقصدهم من السؤال، تركوني بشق الانفس وهددوني في حالة مشاهدتهم لي مرة أخرى.
عدت إلى داري بعد أن وصلته بصعوبة وأنا اسحب دراجتي العاطلة خلفي وبحالة يرثى لها شاكياً ما حصل لي للمرحوم والدي والذي هدأ من خاطري وأخذني إلى دار صديقه (أبو حكمت) في منطقة تل محمد وكان بعثياً ذو حركة وسطوة في المنطقة، وبعد جلوسنا عنده طلب مني والدي أن أشرح له ما حصل لي هذا اليوم ... فما كان منه إلا واستدعى ابنه (حكمت) وكانت المفاجئة حين دخول المذكور وتبين لي من كونه كان أحد الطلاب الذين قاموا بالاعتداء علي وتحطيم دراجتي ... وعند مشاهدته لي بادر من نفسه يشرح لوالده تفاصيل ما حدث وإجابتي عندما طلبوا مني أن اردد كلمة (وحدة)، ضحك (أبو حكمت) وأخبر ولده بأن والدي صديق عزيز على قلبه وطلب منه اعتباري صديقا لهم والاعتذار مني عن ما حصل لي في ذلك اليوم منه ومن جماعته، تعانقنا وانتهت مشاكلي في المدرسة لغاية انتقالي إلى متوسطة الكفاح قرب ساحة الطيران قبل انتقالها إلى ساحة النهضة .

       

                  كوكب الشرق أم كلثوم

ثالثاً: - من الأمور الأخرى التي لا زلت أذكرها وعالقة في ذهني:
1- بناء وافتتاح سينما البيضاء في عام 1960 وكنت من رواد هذه السينما ولا يفوتني مشاهدة أي فلم يعرض فيها وكنت في غاية الارتياح عندما كانت إدارة السينما تسمعنا أغنية ((أنت فين والحب فين)) لكوكب الشرق ام كلثوم قبل البدء بعرض الفيلم.

2- كان يفصل بين منطقتنا ومنطقة تل محمد نهر شطيط وهو مجرى مياه آسنة مصدره شمال بغداد ويصب في نهر ديالى ويقع على جانبيه مئات الأكواخ المبنية من الطين وسعف النخيل ويسكنها الفقراء من المهاجرين من المناطق الجنوبية من العراق وخاصة من محافظتي (العمارة /الناصرية) وسكنوا بعد ذلك في مدينة الثورة التي أسسها رئيس الوزراء (عبد الكريم قاسم) في عام 1961 من خلال توزيع الأراضي عليهم.

                              

                          عبد الكريم قاسم

3- في عامي 1960و 1961 انجز العمل في مشروع خط مجاري بغداد الاستراتيجي والذي كان يمر بمحاذاة الحي المذكور وهو من المشاريع العملاقة في هذا المجال وكان له تأثير بالغ في مجال البيئة ونظافة العاصمة واستمر الاعتماد عليه ليومنا هذا وكنت أقف مع زملائي ننظر إلى المهندسين والعمال وهم منهمكين في العمل في هذا المشروع والذي انجز في فترة قياسية ويبدا من شمال بغداد من جهة الرصافة ويصب في نهر ديالى , كما وتصب فيه العديد من الفروع الجانبية وانتهاء العمل فيه أدى إلى القضاء على نهر شطيط والتخلص من مساوئه والمشروع المذكور طواه النسيان لولا أن صخرة عبعوب سببت انسداده قبل عدة أعوام مما سبب فيضانات في محلات عديدة في بغداد بسبب الامطار.

      

              مشروع مجاري بغداد اثناء تنفيذه

4- أخيراً لابد لي من التطرق إلى مزارع الخس التي كانت منتشرة في الجهة الغربية من حي كمب سارة خاتون لغاية شارع معسكر الرشيد، وكان انتاجها من هذه المادة وفيراً وبنوعيات جيدة بالرغم من سقيها بالمياه الثقيلة التي كانت تجلبها السيارات الحوضية من منازل المواطنين.

أخيراً وفي نهاية الحديث عن حي كمب سارة خاتون أرجو أن أكون قد وفقت في هذا السرد لأحداث عايشتها وأن تحظى بقبول وارتياح من القارئ الكريم.

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1238 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع