اذاعة قصر الزهور .. كيف بدأت وكيف انتهت؟
كان الملك غازي محبا للأعمال الكهربائية الميكانيكية, وتستهويه بعض الملامح للحضارة الغربية، ويمكن أن نعد تلك هي النقطة الأساس في تأسيس أذاعته الخاصة.
يعود افتتاح محطة إذاعة قصر الزهور إلى عام 1936، حينما علم الملك بأن مهندسا عراقياً أسمه طالب رفعت كان يعمل موظفا في المطار المدني قد قام بعمل محطة إرسال لاسلكي, والاتصال بهواة اللاسلكي في أوربا. (وفي أثناء عمله في المحل التجاري بعد أوقات العمل الرسمي),
التقى بناظر الخزينة الملكية الخاصة آنذاك السيد شاكر حميد، ولما علم بأمر المحطة اللاسلكية التي عملها, عاد في اليوم الثاني ليخبره أنَّ الملك يطلبه للحضور في قصر الزهور لرؤية المحطة.
يذكر محمد هادي أرحيم الحيالي في رسالته الموسومة بـ(تاريخ نشوء الإذاعات العراقية) عام 1938،:
أهدى هتلر الإذاعة إلى الملك غازي ليبث من خلالها، فبدأ الملك غازي البث من خلالها, وذلك خطأ, إذ إن الإذاعة الملكية تأسست عام 1936 وبسواعد عراقية, فقد وجدت الباحثة تلك الحقيقة من خلال العدد الأول من مجلة راديو قصر الزهور، في 22 أيلول 1938، ص2-3. التي تكلمت عن بداية نشوء اذاعة قصر الزهور، ضمت ذكريات رواد الإذاعة منذ تأسيسها، فضلاً عن الصحف الصادرة عام 1936 والتي تحدثت عن مناهجها التي كانت تصدر إلى جانب مناهج الإذاعة اللاسلكية العراقية، وبالتالي كان ترتيب تلك المحطة التي أهداها هتلر إلى الملك غازي تحمل الترتيب الرابع من ضمن محطات قصر الزهور, أي إن الملك يمتلك ثلاث محطات قبل المحطة وقام بتنصيب تلك المحطة الأخيرة خبراء ألمان.
بعد عرض المهندس المحطة للملك وكانت محطة بدائية وبسيطة, لاقى التشجيع والدعم من الملك, وتمكن خلال مدة بسيطة من الاتصال ببعض الهواة وأولهم في بولندة, وقام بتطويرها تدريجيا بعد أن قام البلاط الملكي باستيراد أدواتها من الخارج من الخزينة الخاصة.
نصبت أجهزة مرسلات اللاسلكي لأول محطة لإذاعة قصر الزهور, في قاعة (السينما القديم في قصر الزهور), ليمارس الملك أثناء فراغه هوايته (المراسلات اللاسلكية)، يوم الخامس عشر من حزيران 1936، وعد ذلك اليوم هو اليوم الرسمي لتأسيس الإذاعة، ولم يكن في الحسبان استعمالها كإذاعة، وحصل لتلك الإذاعة على موجة دولية من اتحاد البث اللاسلكي العالمي في سويسرا، وسجلت في جمعية هواة اللاسلكي بأمريكا كمحطة هواة, بأسم YounG IRAQ 5 KING Chazi.(العراق الحديث رقم 5 الملك غازي) كانت تلك الإذاعة في بدايتها تبث الموسيقى فقط على موجتين مخصصتين للهواة في عالم اللاسلكي وهي الموجتين 21 م و42 م. ولم يكن لها طابع سياسي أو دعائي, وقد اهتم الملك غازي بمتابعتها, وتطويرها وتحسينها.
بعد مدة طلب الملك تحويلها إلى اذاعة خاصة (سرية) وأعطاها أسم (اذاعة قصر الزهور) وأصبحت تبث الأغاني والأخبار والمحاضرات العسكرية وإعادة اذاعة بعض المواد التي تذيعها اذاعة بغداد, دون التطرق إلى الأمور السياسية, فذاع صيتها وسمعت في كافة الأقطار العربية وبعض الدول الأوربية وبذلك أصبحت أول إذاعة في العالم كله تخترق الالتزام المقرر لها كإذاعة هواة لاسلكي، وبدأت تجتذب المستمعين لها من الشعب العراقي لأنها كانت اذاعة متحررة من قيود الرقابة الحكومية الموضوعة على اذاعة بغداد, ولذا فقد اكتسبت اذاعة قصر الزهور أهمية خاصة من لدن الأوساط القومية وحظيت برامجها بتأييدهم. لاسيما لمناهجها الممتازة, إذ كان منهاجها اليومي يرضي المستمعين لتنوع المنهاج, وتجدده على الدوام, كما أن أدارة محطة اذاعة قصر الزهور أصدرت مجلة بعنوان (مجلة راديو قصر الزهور) وهي مجلة ثقافية شهرية, ضمت أبواب عدة من الفن والأدب والعلم وصدر منها (7) أعداد، ومما دلل على أن إدارة المحطة المتمثلة بالملك غازي, درست أذواق المستمعين ورغباتهم وحرصت على تقديم ما يريحهم وينال رضاهم, والتي تفتقر إليها إذاعة بغداد.
كانت أذاعه قصر الزهور تذيع للمدة من قبل الظهيرة إلى قرابة منتصف الليل وتسمع بوضوح في جميع أرجاء العراق، في الوقت الذي كانت اذاعة بغداد لا يتجاوز وقت بثها أكثر من أربع ساعات.
ويتضح أن الهدف الأساس للملك غازي من تأسيس الإذاعة في بادئ الأمر, ليس سياسيا بل لمجرد المراسلة مع الهواة في أوقات فراغه, والتعبير عن رأيه بعيدا عن القيود التي تفرضها الحكومة على اذاعة بغداد، إلا أنه وبتطور الأوضاع والظروف نهضت فيه مبادئه القومية ((ولاسيما بتأثره بالضباط الذين كانت تجمعهم مع الملك الغايات، والأهداف نفسها)), ومما لاشك فيه ان كتلة الضباط القوميين عملت على أقناعه باستعمال الإذاعة وبالشكل الذي يخدم مصالح ومطالب العرب القومية.
كان الملك يرى في الإذاعة الرسمية وهو يتابعها بدقة بانها لا تفي بالمرام من الناحية السياسية والقومية, فأخذ بمنافسة اذاعة بغداد ومنها على سبيل المثال:
إنَّ اذاعة بغداد كانت تذيع نشرة الأخبار في الساعة الثامنة مساءاً, فأصبحت اذاعة قصر الزهور تذيع الأخبار في الساعة الثامنة إلا ربع وهي نشرة مفصلة غير مسؤولة.
إلا ان الملك وجد أنَّ تلك الإذاعة لا تفي بما يريده فأمر بنصب محطة ثانية وتم ذلك يوم20 كانون الأول 1937, وأعد لها منهاجاً على غرار مناهج دار الإذاعة اللاسلكية للحكومة العراقية (إذاعة بغداد), أي أن وزارة المعارف هي التي تقوم بوضع وترتيب المناهج لتلك المحطة فأخذ المستمعون العراقيون في كل ليلة يستمعون إلى مناهج الإذاعة التجريبية, ومناهج دار الإذاعة بصورة منتظمة, الأمر الذي لم يقتصر على بث الاسطوانات فحسب بل تذاع القصائد والأغاني..., ودفع ذلك النجاح الذي حققته الإذاعة بالملك إلى توسيعها فامر بنصب محطة ثالثة تعادل قوتها قوة المحطتين السابقتين, وتم انجازها يوم(20)نيسان 1938.
كان الملك يتوخى من إنشاء الإذاعة ((بث الأحاديث الدينية والأخلاقية والتهذيبية وتثقيف شعبه الباسل وتعليمه وتدريبه)). على نظام الفتوة الذي كان الملك مؤمنا بمبادئ نادي المثنى حتى انه كان يذيع بعض الخطب التي يلقيها الخطباء في اجتماعات النادي، اهتم الملك غازي بتلك الإذاعات وقام بالإشراف عليها بنفسه, كما كان يذيع فيها, دون ذكر اسمه, ويضع البرامج.
كان الملك غازي يقضي وقتاً طويلاً في ملاحظة وتتبع البث الإذاعي, سواء خارج العراق ام في داخله، فقد كان كثير الاستماع والزيارة إلى اذاعة بغداد, وتفقد آلاتها ويلقي الأسئلة الدقيقة على الفنيين فيها، التي كان يرى فيها عدم امتلاكها للمؤهلات التي تمكنها من القيام بدور مؤثر في المجتمع, واتخاذ موقف من الناحية السياسية ووقوفها من القضايا العربية, لاسيما أن الجو السياسي كان مضطربا وملبدا بالغيوم, فقضية فلسطين وتردى العلاقات بين العراق وبريطانيا, كانت من الأمور الساخنة في تلك المدة.
قال المذيع يونس بحري:
((كنت أذيع تعليقا سياسيا عن الوضع في فلسطين وما يعانيه أهلها من عنت اليهود وطغيان البريطانيين, وبعد الانتهاء من التعليق طلبني رجل لم يذكر اسمه, على الهاتف, وقبل ان أسال من المتكلم, انهالت علي التوبيخات والشتائم, وبعد أن هدأ الصوت من حدته اخذ المتكلم يردد, آه لو كانت لدي اذاعة لا ريتكم كيف تذيعون, ما هذه الميوعه المشينة في مخاطبة البريطانيين, وانتهى الحديث. لقد كان المتكلم الثائر (الملك غازي) وفي تلك الليلة كنت أسهر عند الوزير الألماني الدكتور (فريتزغروبا) وفي سياق الحديث رويت له قصة الغضبة الملكية)). وقلت له:
((إنَّ الملك غازي يتمنى لو كانت لديه اذاعة قوية ليري العالم, كيف يخاطب البريطانيين, وغيرهم من المستعمرين)).
في الوقت الذي أهمل فيه المدافعون عن القانون الدولي الإذاعة, كوسيلة اتصال جماهيري استغل الآخرون تلك الوسيلة استغلالاً حقيقياً وفعالاً للتبشير بالعهد الجديد, وايدلوجية العهد الجديد, فبعد أسبوع, من ذلك الحديث القصير, أي في نهاية عام 1938 طلب الوزير الألماني (غروبا) يونس بحري، واراه صناديق ضخمة وقال له وهو يبتسم بخبث على حد تعبير بحري:
((هذه محطة اذاعة على الموجة القصيرة وبقوة (150) كيلو واط خذها إلى الملك هدية من الزعيم هتلر)).
قام يونس بحري بنقلها شخصيا إلى القصر, واستقبله الملك غازي دون ان يمد يده لمصافحته, فلقد كان حاقدا عليه بسبب تعليقاته ((المائعة ضد بريطانيا)) ثم قال له:
((سيدنا ان اذاعة بغداد هي اذاعة رسمية حكومية وأنا لا املك حق التصرف فيما يعطى لي للإذاعة قال هذا صحيح وابتسم, قلت لدي نبأ سار لسيدنا وأشرت إلى حيث تقف سيارة النقل بحمولتها الثمينة قال ما هذا؟ قلت: محطة اذاعة على الموجة القصيرة هدية من الزعيم هتلر لسيدنا)).
تضمنت اذاعة قصر الزهور مواد إذاعية عدة منها, تلاوة القران الكريم التي أصبحت الإذاعة تفتتح بها منهاجها اليومي, وفي طليعة القراء الذين كانوا يرتلون القران الملا مهدي, وعبد الفتاح معروف والسيد حيدر الجوادي والسيد عبد المنعم أبو السعد، وكانت مدة التلاوة نصف ساعة,ومن الطريف أن السيد حيدر الجوادي كان عام 1938 يحضر إلى ستوديو الإذاعة قبل نصف ساعة أو أكثر لضبط طبقات صوته وإجراء بروفات صوتية داخل الأستوديو, وفي إحدى تلك البروفات فوجئ السيد الجوادي بدخول الملك غازي عليه, وبعد ان تبسط معه في الحديث سأله الملك عن أغنية (ليه تلاوعني) والتي كانت تذاع في تلك الآونة لام كلثوم وكان السيد من اكثر المعجبين بأم كلثوم, فطلب منه الملك ان يدندن بها, فلبى الجوادي الطلب والملك يشجعه على ذلك إلى ان انتهى منها...والطريف في ذلك ان البث كان مفتوحا إلى المستمعين دون ان يدري الجوادي بذلك وهكذا استمتع المستمعون بالسيد الجوادي وهو يترنم بأغنية أم كلثوم!!.
وقد خصصت سيارة تابعة للبلاط الملكي تأتي لنقل الأشخاص الذين يقع عليهم الاختيار لقراءة القرآن أو إلقاء الأحاديث من الإذاعة ومن دون مقابل، وفي بعض الأحيان كان مذيع المحطة يونس بحري يقرأ القران حين يتأخر وصول القارئ إلى الإذاعة لأسباب عدة!!, وإذاعة حفلات غنائية والتمثيليات. كانت المحطة أقوى محطة لاسلكية في الشرق على الموجة القصيرة إذ أن موجاتها آنذاك تلف العالم كله لو قورنت بالمحطات اللاسلكية الباقية في الشرق كمحطة مصر وفلسطين وبغداد وكانت تبث لمدة (60) ساعة في الأسبوع إلى العالم, فرفعت بذلك عن المغتربين الوحشة التي كانوا يشعرون بها وهم في بلاد الغربة.
ولما كانت اذاعة الزهور تسمع بوضوح في معظم أنحاء العالم بدليل الرسائل التي كان يبعث بها هواة الاستماع إلى الإذاعات حتى شجع ذلك الملك غازي على طبع بطاقة خاصة تتضمن كل المعلومات عن الإذاعة وأطوال موجاتها وذبذباتها وأوقات إرسالها، وذلك ما كانت تفعله جميع محطات الإذاعات العالمية. وقد وضع في زاوية عليا من تلك البطاقة صورة ابنه الملك فيصل الثاني (فيما بعد), وهو طفل صغير مرتديا الملابس العربية العقال والكوفية.
1- حادثة وفاة الملك غازي ونهاية إذاعة قصر الزهور:
في الساعة التاسعة والربع ليلاً كان الملك يستمع إلى أخبار البلاد العربية المذاعة من محطة بغداد, وهو الذي لا يفوته الاستماع إلى أخبار الدنيا يقف على سير العالم وهو القائل ((نسمع إلى أخبارهم لنرى مقدار قربهم وبعدهم عن الهاوية (اي الحرب) ووقانا الله شرهم)).
كان الملك ينتظر في قصر الزهور وصول آلة لتصليح خلل في جهاز الإذاعة, وبعد أن أخبر بواسطة الهاتف بوصول الشخص الذي يحمل تلك الالة إلى قصر الحارثية غادر الملك قصر الزهور ثم وقع الحادث على أثر اصطدام سيارته بعمود الكهرباء.
في الرابع من نيسان 1939 فتحت إذاعة بغداد في الوقت المعين بتلاوة من آي من الذكر الحكيم كالمعتاد, ثم أخذ المذيع يذيع بصوت متهدج وحزين عن وفاة الملك غازي.ذكرت التقارير من دار الإذاعة العراقية آنذاك تفاصيل حادث وفاة الملك غازي، ان الملك كان قد أصطحب معه سائقه الأثير لديه إبراهيم, فضلاً عن المشرف على محطة أذاعته إسماعيل حسن، والذي هرب إلى ألمانيا بعد ثورة 1941
بعد مقتل الملك غازي وتسلم الوصي عبد ألآله, السلطة الذي كان من الموالين للسياسة البريطانية وخاضعاً لها, أمر بتوقف البث من اذاعة قصر الزهور في الرابع من نيسان 1939 والى الأبد, كما أمر عبد الاله, يوم التاسع من نيسان 1939 بتسليم محطات الإذاعة في قصر الزهور إلى الدولة, وبالفعل تم نقل ملكية اذاعة قصر الزهور إلى وزارة الداخلية (مديرية الدعاية والنشر والإذاعة العامة), وأعلنت ان الغاية من ذلك التدبير كافلة لإيصال الإذاعة العراقية إلى الممالك العربية والبلدان المجاورة بشكل واضح.
كما تم تسديد مبلغ قدره (58، 796) دولار عن قيمة أدوات كانت قد ابتيعت من شركة (هلكرافترز الأمريكية), وتم توزيع محطات مرسلات الإذاعة ثلاث منها لدار الإذاعة, ومرسلة واحدة لوزارة الدفاع وأخرى لمديرية الشرطة, أما كادرها فقد تم طردهم من وظائفهم تحت ذرائع شتى.
سندس حسين علي /عن رسالة (توجهات الاذاعة العراقية 1936 ــ 1958)
1061 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع