"الگيمر مع الخبز او الصمون او الكاهي ايقونة العراقيين صباح الجمعة والأعياد والمناسبات"

        

"الگيمر مع الخبز او الصمون او الكاهي ايقونة العراقيين صباح الجمعة والأعياد والمناسبات"

      

    

    

لا ارض و لا مكان، بالنسبةِ للإنسان العراقي الاصيل، أجمل وأبهى من الارض والمكان الذي ولد فيه وترعرع، وارتوى من انهاره واهواره، وصحاريه وجباله، فيها أبصر النور وبها عاش ايام طفولته، وعهِد لمراتع الصِبا، انها علاقة نبيلة تندرج في صلب الشعور الإنساني المرهف، التواق لكل ما مضى وقدم وبعد ولن يعود، احاسيس كثيرة تصاحبك ايها الاصيل، فمهما ابتعدت، وشطت بك الدار، فلا بد أن تبقى ينابيع بلادك في ثنايا مخَيلتِك، وهذا جزء يسِير مِنَ الوفاءِ لهذه الأرضِ الطيبة المعطاة، في هذا الزمن كثير من العراقيين من ارتشف شراب الهجر والغربة وأكل من موائدها، في كؤوس وصحون من الحنين والأشواق للشخوص والأمكنة، الوطن تلك الروح الهائمة البعيدة التي تسكننا في كل منافذ الغربة، ما اطيب اكلك يالمعطاة العزيزة.
برز اهتمام بدراسة الأطعمة وآدابها في المجتمعات القديمة، التي تقدم نظرة جديدة للتاريخ الاجتماعي والثقافي لحقبات سحيقة تعرفنا إلى حروبها وملوكها وإلى بعض أعمالها الأدبية، فعادات الطعام وأنواعه تخبرنا الكثير عن العصر، وعن قيمه والحياة الاجتماعية فيه، يؤشر كتاب جديد صدر بالإنجليزية، لـ''كين الابالا''، وعنوانه ''قارئ تاريخ الغذاء مصادر اساسية''،فالمؤلف مؤرخ متخصص في تاريخ الغذاء وهو في هذا الكتاب يتطرق طقوس البهجة عندما يجتمع البشر معا لتناول الطعام كما يتحدث عن اتجاهات الثقافات المختلفة حيال الغذاء
يوضح كين البالا، أن ''الغذاء يساعد في تعريف الهوية'' فيما التاريخ الغذائي لمجموعة إنسانية، ما يكشف الكثير عن ثقافتها ويتوغل من منظور تاريخي ثقافي في ألوان الطعام لأرض الرافدين، ومصر القديمة والإغريق والرومان وإنجلترا في العصر الفيكتوري، محتفلا بحب الإنسان للطعام عبر الزمان والمكان.
المائدة العراقية لها تاريخ، فهي تجمع بين أكثر من صنف تعود لعصور بعيدة، فلم يترك التاريخ صغيرة أو كبيرة إلا ووضع بصماته عليها، فلم يقتصر على الأحداث والأماكن لتكون شواهد على عصور بائدة وحسب، فحتى المطبخ العراقي له تاريخ وأحداث تفصح عن أحداث مرحلة أو حقبة زمنية، فالعراق من البلدان المشهورة بالطعام والعراقيين شعب يحب التنوع في الاكل ومتفنن ومبتكر فى عمل الأكلات اسوة بحضاراته المتعاقبة.
إن أقدم وأهم ما لدينا عن تاريخ الطعام والطبخ في تراثنا، مخطوطات بسمارية في العهد السومري وما تلاه من عهود الحضارة، كما تتوفر مخطوطة من القرن  العاشر "الرابع هجري"، عنوانها "كتاب الطبيخ وإصلاح الأغذية المأكولات وطيبات الأطعمة المصنوعات مما استخرج من كتب الطب وألفاظ الطهاة وأهل اللب". ألفها أبو محمد المظفر ابن نصر ابن سيار الوراق، الذي عاش في بغداد، وعمل مشرفاً على مطابخ دور الخلافة العباسية.
من منا يستطيع مقاومة الطعام وروائحه الزكية الفواحة؟ وكيف لو كان هذا الطعامُ يمتدُ مع امتداد تاريخِ وعتقِ ثقافة حضارة وادي الرافدين وعصر الخلافة العباسية الآتي منها، حتى أصبحت غنية بقصصٍ ترافق مذاقاتها ونكهاتها التي تسيل بأريجها الشهي لعاب أفواهنا.

              
تعود معرفة الانسان بالقيمر إلى سنوات موغلة في القدم، ومن الاهوار انطلقت صناعة القيمر منذ العهد السومري، فالهور كلمة آرامية تعني البياض، لان الهور بفعل الانعكاس بين الماء والشمس فيبدوا ابيض اللون،كلون الحليب،

                

والجاموس الموجود هناك، حيوان لازم بيئة الاهوار منذ الخليقة، وكان متوحشاً، و دلت الدراسات التأريخية انه كان موجوداً قبل الحقبة السومرية، وان الفضل للسومريين بتدجينه  "الذكر والانثى"، ومن خلال التنقيبات التأريخية، عثر على رسوم قديمة في الكهوف والبيوت القديمة مستوحاة من الجاموس، وهذا ماقاله عالم الاثار العراقي "احمد سوسه" في كتابه "الري والحضارة في وادي الرافدين"، و دلت تنقيباته التي اجراها في مقبرة اور الملكية في جنوب العراق والتي وجد فيها رقماً اسطوانية واختاماً عاجية تؤكد ماذهب اليه: وهناك مجموعة اختام اسطوانية محفوظة في المتحف الوطني في لندن تسمى(مجموعة كالشكاري ) تبين استئناس انسان ما بين النهرين للجاموس منذ العهد السومري، و ساند هذا الرأي الكثيرون منهم عالم الحيوان "زوند" الذي دون في كتابه المطبوع في لندن عام 1963 والمعنون: "تأريج تدجين الحيوانات البرية""history of domesticated animals"
ان الجاموس في العالم دجن في حضارتين مائيتين هما اور في بلاد مابين النهرين والمهنجودارو في وادي الهند كما عاضد هذا الرأي عالم الجاموس البريطاني "كوكرل" حينما زار اهوار العراق في عام 1977 مبعوثاً من منظمة الفاو للغذاء والزراعة الدولية حيث كتب يقول "ان الجاموس العراقي هو جاموس مستنقعات في اسلافه القديمة الاولى مع دماء جديدة من جاموس السورتي النهري".
أثبت كوكرل انها تمتد الى اكثر من خمسة الاف سنة، وتسنى له ان يتذوق القيمر العراقي، فصاح مندهشاً: "هذا طعامٌ يليق بالملوك فقط، لم أذق الذ منه من قبل".

        

ومن ذلك الحيوان يعد  افضل انواع القيمر من حليبه الدسم، وكذلك اللبن ومختلف انواع الجبن ومنها جبن الضفائر المعروف، أن أغلب المؤرخين يشيرون إلى أن بداية تصنيع الألبان كانت من منطقة جنوب آسيا ومنطقة ما بين النهرين.

     

في الاهوار يعد صحن القيمر التعويذة التي يفتتح بها سكانه افطارهم الصباحي مع سياح، السيَّاح هو خبز العراقيين من سومريين وأكديين، ومعظم الحضارات التي قامت على ضفتي دجلة والفرات، وأهوار الجنوب عرفت هذا النوع من الطعام واستطابت طعمه، وكذلك المجموعات البشرية التي استقرت في المكان اعتادت أيضا على عادات أهل وادي الرافدين في الطعام والشراب، فهو لا يتطلب التخمير لفترة طويلة كخبز الحنطة، ولا يحتاج وقودا كثيرا وفرنا خاصا، وتكفي دقائق قليلة لإعداده على نار قليلة من القصب فوق صاج خاص به، ويقدم ساخنا. ويفضل أكله مع القيمر، ومن هناك انتشر اعداد القيمر على ايدي النساء وبراعتهم  بالطريقة البدائية  في بلاد الرافدين، كما ان الجاموس الاهواري انتشر الى باقي المدن متزامنا مع اعداد القيمر.

          

يفتخر العراقيون بامتلاكهم الحق التأريخي لاعداد القيمر،ويعتبرونه من موروثاتهم الشعبية التي انتقلت الى البلدان الاخرى.يصنع القيمر من حليب الجاموس، وذلك لتميزه بالدسومة ويوضع في اناء عريض "طشت" فوق نار هادئة، ويسخن بشكل هاديء ولفترة طويلة دون غليانه، ويحرك الحليب باستمرار تحريكاً جيداً بواسطة عصا خشبية وبعد ان ينزل من على النار توضع فوقه سلة مقوّسة ويغطى غطاءاً جيداً بالبطانية او بعض اكياس الخيش، ويترك من الليل حتى الصباح الباكر حيث يكشف الغطاء عن الاناء وعند رفعه نجد ان الطبقة الدهنية العليا قد ارتفعت إلى الاعلى فيما بقي الحليب الخالي من الدسم في اسفل الاناء، ولاستخراج القيمر، يحدد اطار الاناء الصلب بواسطة ملعقة او سكينة ومن ثم يثقب من وسط طبقة القيمر التي تصبح بعد تحريرها من الاناء عائمة، عند ذلك يتم ادخال كمية كبيرة من قطع الثلج من خلال الفتحة الوسطية لغرض تماسك وتجانس القيمر نتيجة للبرودة الشديدة، بعدها يوضع الكيمر في صحون من الفخار أو أواني من الزجاج، بعدها يقطع القيمر كما يقطع قالب الكيك وترفع القطع الواحدة بعد الاخرى بطريقة نظامية  وتوضع في المكان المخصص، كما ان البعض يصنع القيمر من حليب البقر، وبنفس طرق صناعته من حليب الجاموس، الا ان كثافته تكون اقل بسبب الدسومة، كما ان لونه مائل الى الاصفرار، وطعمه يختلف جزئياً عن قيمر حليب الجاموس.

             

ويعتبر قيمر الحلة وسدة الهندية بالذات من افضل انواع القيمر المنتج حتى اصبح يضرب فيه المثل، ويعشقه سكان الخليج العربي.
عدت ناحية سدة الهندية في الحلة، و التي امتازت بأنها كانت محطة للقطارات القادمة من بغداد، وعادة يتوقف القطار القادم من بغداد إلى البصرة وبالعكس في هذه المحطة طويلاً ،

             

ويعتبرها البعض محطة سياحية، فكان المسافر اليها ينعم بجمال الطبيعة فيه، وهو يشاهد النساء ومشيتهم الراقصة، يحملن القيمر والجبن واللبن لبيعه إلى المسافرين، فالمسافر يتزود بأهم منتوج غذائي الا وهو القيمر الذي ذاع صيته لما يمتاز به من مذاق طيب وعذب وحلو وجودة عالية حتى جعل الشعراء يذكرونه في شعرهم وامثالهم، و أحدهم شبه خد الحبيب به لصفاته وجمال طلعته:
ام العيون السود ماجوزن انا
 خدك القيمر انا اتريق منه
واقفه بالباب تصرخ يالطيف
 لا انا مجنونه ولا عقلي خفيف

https://www.youtube.com/watch?v=yq6cpodQc4k

وتحول أيضا إلى أغنية أنتجت في تسعينات القرن المنصرم، وأدتها المطربتان نجود وسمر في دويتو رائع تقول بدايته "تهدّه ياحلو تهده.. خدك كيمر السدة".

إذاً القيمر "الگيمر" صنعه العراقيين بمختلف انتماءاتهم ومسمياتهم وأعراقهم، من اعالي دهوك  واربيل والموصل، ونزولا إلى كركوك وديالى وبغداد وبابل، حيث قيمر السدة المعروف على مستوى الخليج، وانتهاء بجنوب البلاد في ذي قار والعمارة والبصرة.
اعتاد الناس في بعض من محلات بغداد والمحافظات سماع بائعة القيمر وهي تنادي على نساء الحي "هاجن گيمر"، كانت النساء اللواتي يحملن صواني القيمر فوق رؤوسهن بطريقة جميلة، يميزن زبائنهن جيدا بين غيرهم من الناس، وما أحلى تلكَ الأطباق والأواني الفخارية، التي تقدمها لكَ فيها البائعة الگيمر، وتسكب عليها قليلا من الحليب الدسم،

     

جميع العائلة تتهنى بالفطور الشهي، مع الخبز او الصمون او الكاهي والدبس او العسل او المربى.

             

القيمر طعام الدفء والنشاط والحيوية ويحتوي على الاحماض الدهنية التي تدخل في بناء غشاء الخلية الحيوية في جسم الانسان، و، والدهون، و الكاربوهيدرات، و البروتينات اللازمة لبناء الانسجة الحيوية وتجديدها وتكوين الانزيمات والهرمونات لاتمام التفاعلات الكيميائية الحيوية، ان الدهون مصدر غني بالطاقة إذ تعادل الطاقة التي يوفرها غراما واحدا من القيمر ضعفين وربع الضعف من مقدار الطاقة التي يوفرها وزن مماثل من البروتين او الكربوهيدرات.

       

من العادات الشعبية المعروفة لدى العراقيين ان يقدم القيمر كوجبة فطور للشباب المتزوجين في الايام الثلاثة الاولى من الزفاف، يذكر بعض اهالي بغداد بان العوائل البغدادية كانوا يوصون قبل يومين من ليلة عرس احد ابنائهم لعمل صينية قيمر مع الكاهي، وتقدم صباح يوم الدخلة، تاخذ ام العروس واخواتها فطور العروس وهو يكون الكيمر والكاهي والعسل والدبس والمربات بانواعها والاجبان بانواعها والكليجة والشاي، لتكون افطاراً لهما صبيحة اليوم التالي للعرس، فهو فطور صباحية العروسين الجديدين، صباحكم عسل وگيمر، ومن التقاليد المتبعة تقديم القيمر للطفل بعد الختان.

                                 

ولعل العديد منا يتذكر الصورة الشهيرة التي كانت تسمى "بنت المعيدي" التي لايخلو اي بيت في ميسان والحلة من تلك الصورة التي تعود الى فتاة معيدية من الهور، او من سدة الهندية، قام برسمها ضابط انكليزي  كانت تبيع القيمر قرب مرأب السيارات في قضاء المجر الكبير، او في محطة قطار سدة الهندية كما يقول الرواة، فأعجب الضابط بها،  فسرقها و تزوجها، صورة فتاة جميلة معتمرة لباس رأس جميل، وكانت معلقة على جدران أغلب المحال و المقاهي، فالمعدان بالأصل هم من بقايا  الحضارات القديمة التي نشأت بالعراق قبل الفتح الإسلامي، ذکر عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في كتابه " دراسة في طبيعة المجتمع العراقي "عن المعدان" : بأنهم طبقة من المجتمع العراقي تسكن اهوار العراق منذ العصور الغابرة وتعيش على تلابية الجواميس.
في كل منطقة، تشتهر امرأة بقيمرها اللذيذ: ام عبد الله في سدة الهندية، وهي من الرائدات ومنتجها عبر الحدود الى اوربا ودول الخليج، وزيرة ام ريحانة المعلمة وشقيقاتها الثلاث في بغداد، وام حسين في الحلة، واخرون وآخرون..

                 

القيمر ايقونة افطار الصباح الشهي واللذيذ خاصة، مع خبز التنور، او مع الصمون، او مع الكاهي، مع الدبس او العسل، او المربى، كما برع العرقيون باستخدام القيمر إلى بعض الحلويات مثل البقلاوة وغيرها.

     
القيمر له منزلة رفيعة في نفوس العراقيين فمعظم العراقيون ان لم اقل جميعهم في بلدان المهجر، يهود ومسيحيون ومسلمون، واظبوا على عاداتهم باكل القيمر مع مطيباته وخبزه في اعيادهم، ويلجأ الكثيرين إلى إحضار القيمر من المتاجر، والبعض  يصنعه في المنزل، ولكنه يختلف نوعا ما عن القيمر الذي يؤتى من الجاموس العراقي المتواجد في الاهوار ومناطق الانهار، والذي يتغذى على العشب، والشارب من مياه دجلة والفرات، بطعمه وقوامه ونكهته وكثافته المميزة.           
كم من بيوتات العراقيين، تكرم ضيوفها  صباحا، بصحن قيمر و....، والضيف يفتخر ويتباهى، انه تريك قيمر مع الكاهي و..
ورغم ماحل بالعراق من مآسي وويلات، ونقص في الثروات الحيوانية، فتربية الجاموس مهددة بالانقراض نتيجة الجفاف وعدم وجود مراع كافية والقيود على التنقل، فصناعة القيمر لازالت شامخة، وهناك من أصر ان لا يفارقها، لانه يؤمن بأن العادات والتقاليد المتوارثه عبر الاجيال لا يستطع الابتعاد عنها، او نسيانها، او اهمالها، بل على العكس توجت و اضحت جزءاً من اشهر الاكلات العراقية خارج الوطن، ومن الله التوفيق
سرور ميرزا محمود

          

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

776 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع