مذكرات مترجم اللغة الفرنسية لصدام حسين / د.صادق عبدالمطلب الموسوي/ ح١١

   

مذكرات د. صادق عبدالمطلب الموسوي مترجم اللغة الفرنسية لصدام حسين .. شــاهـد ورأى كــل شــيء الحلقة -١١
      

       

لعبة حظ!!

تَزامن تعييني في مسلك الشرطة مع سقوط نظام البعث في بغداد في تشرين 1963 ومجيء نظام "قومي" برئاسة عبد السلام عارف الذي أزال آثار البعثيين من الحرس القومي وشعاراتهم وتأثيراتهم بل راح يطاردهم في كل مكان وأصدرت حكومته كتابا يفضح جرائمهم تحت عنوان "المنحرفون" وبهذه المناسبة أعلنت الحكومة الجديدة قبول كافة خريجي الإعداديات ذلك العام في الجامعات بغض النظر عن المعدل وفي وقت متأخر لتلك السنة الدراسية.
وضحكَ لي الحظ هنا إذ جاء الفرج بعد اليأس وإذا بي أقرأ اسمي في جريدة الجمهورية من بين المقبولين في معهد اللغات العالي وذلك حسب تسلسل المعدلات المنخفضة!! ذهبت إلى معهد اللغات العالي في الوزيرية خلف ساحة الكشافة نهاية تشرين الثاني /1964 وكانت الدراسة قد بدأت لأننا كنا في الهزيع الأخير, توجهت إلى مدير التسجيل المرحوم رضا القريشي برفقة زميلي المرحوم ضياء حليوة ودار بيننا الحوار التالي:
القريشي: هلا بالشطار شدعوة مستعجلين على الدوام؟
ج- قبولنا ظهر الآن ولسنا السبب في تأخير المجيء.
القريشي: اسمعا ولدي ليس أمامكم الآن سوى اللغة الصينية والروسية.
ج- لا نرغب فيهما وسوف نؤجل إلى العام القادم.
القريشي: يمكنكما التسجيل في القسم الإيطالي إلى جانب اللغة الإنكليزية كلغة ثانية.
فوافقنا.. وهكذا بدأنا بدراسة اللغة الإيطالية في مجموعة لا تتجاوز أصابع اليدين فرحين مسرورين ومنسجمين مع أستاذتنا الإيطالية وللأسف لم تتم الفرحة إذ سرعان ما فاجأنا معاون العميد لشؤون التسجيل الدكتور المرحوم عبد الوهاب النجم متسائلا عن ماذا ندرس! فقلنا وبزهو "الإيطالي" أي اللغة الإيطالية. قال حسنا ستكون لغتكم الثانية الاسبانية! فقلنا أستاذ "رضينا بالبين والبين ما رضا بينا؟" فقال لم افهم ماذا تقصدون؟ قلنا قبلنا بالإيطالي إلى جانب اللغة الإنكليزية ماذا سنفعل بعد التخرج بلغتين غير متداولتين عندنا؟ وعندما أصر الدكتور النجم على موقفه تركنا دراسة اللغة الإيطالية احتجاجا على هذا القرار.. بعد أسبوعين قررت العمادة غلق القسم الإيطالي وتحويلنا إلى قسمي الفرنسي والألماني وحسب اختيارنا..
عندما تركت لنا العمادة اختيار إحدى اللغتين الألمانية أو الفرنسية في حينها لم أكن أميز بينهما ولم أكن اعلم أيهما الأحسن والأسهل فوقعت في حيرة من أمري! أيهما أختار؟ وحسما لهذه الحيرة لعبت بواسطة الدرهم المعدني المتداول حينذاك لعبة "الطرة والكتبة" بين الفرنسي والألماني فوقع الاختيار على الفرنسي, كانت لعبة حظ فتحت لي عالما وحياة جديدة غيرت بالكامل مجرى حياتي كما سنرى في السطور القادمة.

سُفرة الحكومة ممدودة
ولكن كيف أواصل الدراسة الجامعية وما زلت عامل نسيج وشرطيا مستجدا؟ وهذه المهام هي مصدر رزقي ورزق العائلة فكيف التوفيق بينها وكلها تبدأ صباحا؟
 ثلاث مهام في آن واحد وفي فترة صباحية! الكلية والشرطة والمعمل أيهما أترك؟! أما الجمع بينها فهو في عداد المستحيل كما كنت أعتقد.. فقلت في نفسي.. أنا الآن طالب جامعي وشرطي في نفس الوقت.. كيف أوفق في الدوام بين الحضور في الدائرة والكلية في آن واحد؟! أيهما اترك؟ سيما وأنا محتاج إلى الاثنين معا فواحدة هي مصدر رزقي أي الشرطة والأخرى مستقبلي أي الكلية ولما اشتدت علي المراقبة والمتابعة من الجانبين أي الكلية والشرطة فضلت الكلية وقدمت استقالتي من الشرطة للتفرغ للدراسة معتمدا على مواصلة العمل في النسيج عصرا.. حملت الاستقالة إلى المسؤول المدني علينا نحن الشرطة الكتبة في قلم حسابات الشرطة العامة السيد سامي التكريتي الذي رفض الاستقالة قائلا "ابني هذه سُفرة الحكومة ممدودة" فقلت له والدوام كيف؟ قال "رتب حالك مع زملائك واحنا نساعدك...". لا أنسى لك هذا الموقف يا ابا سعد, رحمك الله.. وهكذا أصبحت شرطيا وطالبا جامعيا وعامل نسيج في آن واحد! اما كيف وفقت في برمجة هذه المهام الثلاث في اليوم الواحد فكان وفق البرنامج التالي:
كانت دائرة حسابات الشرطة قد احتلت مقر مدير الشرطة العام في العهد الملكي وتقع البناية ضمن "القشلة" التي كانت مقر الحكومة منذ الزمن العثماني. كانت هذه البناية في الطرف الشمالي من القشلة أي مقابل الميدان الحالي في باب المعظم. ولعل أهم شعبة فيها هي "قلم الدائرة" أي مصدر الوثاق والملفات التي تعتمد الدائرة عليها في أوليات معاملات أفراد الشرطة.. كان "القلم" يضم مئات الملفات القديمة الرطبة مصفوفة على رفوف حتى السقف يعلوها الغبار والتراب. "القلم" هو صالة مستطيلة طويلة على جانبيها طاولات يعمل خلفها في حدود الخمسة والعشرين كاتبا من الشرطة يترأسهم موظف بدرجة ملاحظ يراقب عملهم وحضورهم ومسؤول عنهم أمام مدير الحسابات على الصعيد المدني..
 هنا كنا نسجل حضورنا أمام المفوضين والضابط كوننا شرطة ونوقع على السجل اليومي.. ثم يذهب كل منا لشأنه. كنا نحن الشرطة الكتبة جميعاً في ظروف اجتماعية واقتصادية ونفسية صعبة جدا بضمننا مسؤولنا "نجم الكروي" أبو صباح طيب الله ثراه. كنا متضامنين فيما بيننا في السراء والضراء تجمعنا هموم واحدة ولكن كل منا له خصوصياته وتطلعاته وهواياته وعمله خارج الدائرة ولكن ضمن الدوام بسب الحاجة, فالمسؤول نجم الكروي أبو صباح يخرج من الدائرة من حين لآخر لكسب الرزق باستعمال سيارته الخاصة للأجرة "تاكسي" وإن كان حال المسؤول هكذا فكيف بنا ونحن الشرطة الكتبة! كان نصف عددنا خارج الدائرة والنصف الآخر يسد محلهم وبالتناوب فقد كان لكل منا شأن يغنيه فالذي يمضي إلى الجامعة والذي يعمل في سوق الهرج والذي يمضي لسباق الخيل بهدف المقامرة وكسب المال والمتمارض والمتكاسل والمزارع... إلخ كنا خليطا من الحرف والأهواء. منا التقي الورع ومنا الماجن المدمن مجتمعين في هذا "القلم" الذي يخضع لمحاسبة مدنية وسيطرة عسكرية ومع ذلك لم يكن يجدي نفعا معنا إذ كان يكفي أن يسبقنا زميل واحد في الحضور ليوقع عنا جميعا في سجل التواقيع لدى المسؤول العسكري!! كان هذا "القلم" مضيفا وسوقا مفتوحة لكل الباعة "سكائر، علج، بارد، صميط، بطاقات يانصيب، ملابس مستعملة، وجبات جاهزة من اللوبياء والبصل والطماطة أو الفلافل.. ومع ذلك كنا جميعا معرضين للتفتيش العسكري من حيث الالتزام باللباس العسكري الذي كان كل منا يضعه إلى جانبه في التعرض لمثل هذه الحالة! كان المعاون كريم من الانضباط العسكري حينذاك يرهبنا, كنا نخاف منه لئلا يعرضنا للسجن, كان عندما يدخل "القلم" نهرع إلى ارتداء الملابس العسكرية كيفما اتفق مستفيدين من الحاجز الخشبي أمامنا في ارتداء القسم الأعلى للجسم للقيافة فقط، ولما تكررت زيارته اكتشف هذا التهرب من الملابس العسكرية.. وفي إحدى المرات طلب مني القيام وإذا به يكتشف بأن النصف الأعلى شرطي والنصف الأسفل مدني فقال لي ما هذا؟ قلت له المهم النصف الأعلى أما النصف الأسفل من جسمي فهو خلف "الكاونتر" فضحك وضحكنا وهكذا كانت العلاقة بين اللين والشدة!

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

http://algardenia.com/ayamwathekreat/25529-2016-08-22-21-32-51.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

809 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع