مذكرات د. صادق عبد المطلب الموسوي مترجم اللغة الفرنسية لصدام حسين .. شــاهـد ورأى كــل شــيء / الحلقة الرابعة
الوالدُ تتكفله جدته لأمه..
بعدَ أن طلق السيد عزيز زوجته الثانية العلوية رحمة وترك أطفاله للأقدار وبما أنها أي "رحمة" كانت لما تزل في عز شبابها وحيويتها وجمالها فقد تزوجت من السيد حسين الحكيم في كربلاء وتركت أطفالها في حضانة والدتها أي جدتهم العلوية "رازقية", وبعد فترة قصيرة انتقلت حضانة البنت إلى النجف حسب طلب أهلها.. وبقي والدي الطفل المدلل عند جدته رازقية التي كانت ورعة وتقية وثرية إذ تملك الكثير من العقارات والبساتين وتجني ريعها ولا يشاركها في هذه الثروة سوى ابنتها العلوية "ملوك" ..وهنا مربط الفرس كما يقال فقد كرست العلوية رازقية كل وراداتها في الصرف والبذخ على حفيدها والدي عبد المطلب وعلى مدى ثلاثين عاما , كان الوالد يلبس أحسن وأرقى الملابس ويأكل أطيب المأكولات و كان على درجة من الترف بحيث لايأكل الفواكه إلاّ وهي مثلجة ومعطرة بماء الورد!!! ولما كبر واشتد عوده لم تتركه إلى البطالة , ففتحت له بالتتابع عدة دكاكين لبيع التبوغ والسكائر بتمويل منها وفي كل مرة كان والدي يأكل رأس المال.
ويخسر الدكان , هذه هي نتيجة الدلال؟ لم يذهب إلى المدرسة وإنما تعلم القراءة والكتابة في الكتاتيب عند الملالي ولم يتعلم أية صنعة سوى كيفية التعرف على أنواع التبوغ وكما يقال "صدر شرطي" أي يدخن كافة أنواع السكائر والتبوغ لمعرفة جودتها وتقييم سعرها وهذه ليست بالصنعة التي تضمن له المستقبل.. ولما بلغ السيد الوالد سن الزواج ولكي تحافظ عليه جدته وهو شاب يافع وجميل وميسور الحال حيث كانت الفتيات يتهافتن عليه, قررت تزويجه قبل أن يدركها الموت سيما وأنها كانت كبيرة السن, كان ذلك في عام 1935 أي عندما كان والدي في سن الثامنة والعشرين فهو من مواليد عام 1907. وقد أحسنت اختيار البنت للوالد فكانت "زهرة" اليافعة التي لم تتجأوز الخامسة عشرة عاما, لم تكن تعلم بما سيجري لها من حرمان وآلام وأحزان تنتظرها طوال سنين عمرها مع والدي, فقد جاهدت جهاد الأبطال وصبرت صبر القديسات وتحملت مرارة الحاجة وشظف العيش ولم تشك لأحد لأنها كانت عزيزة النفس..
بداية التشرد
لم يمض على زواج والدي إلاّ سنة واحدة حتى أنجبت والدتي طفلتها الاولى "أشرف" وبعد أيام من ولادتها انتقلت إلى رحمة الله جدته العلوية رازقية وما أن انتهت مراسيم الوفاة حتى حضر الورثة يطالبون بحصصهم من العقارات والأّموال التي تركتها المرحومة رازقية وكان من ضمن هذه العقارات الدار التي يسكنها والدي مع زوجته "العروس" وطفلته في محلة "الكبيس" ولما كانت العلوية رحمة والدة عبد المطلب أي جدتي قد تزوجت وأنجبت أطفالا من زوجها الثاني فلم يكن لها نصيب من الإرث والأمر والأدهى من ذلك أن العلوية "رازقية" جدته لم توص لوالدي بشيء من التركة لذا قام الورثة بتصفية الأموال المنقولة وغير المنقولة وخلال اسابيع خرج الوالد منها صفر اليدين, فقد بيعت جميعها, على عجل, بأسعار زهيدة وحسب سعر السوق آنذاك, من جهة ولكثرة الورثة أحفادها من العلوية "ملوك" من الجهة الأخرى, وهكذا أصبح والدي وعائلته الصغيرة في الشارع أي بدون غطاء أوسقف يلجؤون إليه ولم يكن لديه مال يحتمي به ولا علم ينتفع به سوى القراءة والكتابة التي تعلمها في الكتاتيب, وبدأت مأساة من المعاناة والتشرد استمرت قرابة نصف قرن بعد زواجه من "زهرة" العزيزة النفس. استأجر الوالد غرفة في دار قريبة من أهل "زهرة" والدتي, وبدأ يبحث عن عمل في كربلاء وبغداد والمسيب. في تلك الفترة بدأت بواكير الحرب العالمية الثأنية وآثارها على الناس من القحط والبطالة واستحصال المواد الغذائية بالبطاقة التموينية... إلخ كما يرويها كبار السن, ولما يئس من ايجاد العمل في كربلاء توجه إلى بغداد ليعمل في فندق ومطعم العلمين في شارع الرشيد بالقرب من "الحيدرخانة" تاركا "زهرة" وأطفالها يموتون ويتضورون جوعا في كربلاء. فقدت والدتي خلال تلك الفترة الطفلين اللذين ولدتهما بعد "أشرف" وهما "زكية" و"علي" ثم حملت بي والوالد يعاودها وهو يعمل في بغداد وكانت هذه السفرة إلى بغداد بمثابة الهجرة إلاولى.. ولذلك كانت "زهرة" وحيدة عندما جاءها المخاض, لم يكن معها في تلك الليلة من الثاني والعشرين من آذار عام 1942 إلاّ ابنتها الصغيرة "أشرف", في غرفة صغيرة مظلمة وباردة في دار المرحومة "أم نجم" في منطقة العباسية بكربلاء وكان يسكن إلى جانبها عمي وعمتي من العلوية "رحمة" من أبناء السيد حسين الحكيم, سمعوا صراخها وأنينها, فهرعوا إليها وإذ اشتد المخاض عليها في منتصف الليل البارد ولم يستطيعوا نقلها لمستشفى الولادة, تراكضوا في البحث عن قابلة وما أن وصلت كانت "زهرة" على وشك الولادة!! ثم جاء الوليد في فجر ذلك اليوم 22/3/1942 في غياب الوالد! حيث كان في بغداد عند شقيقاته..
تسمية الوليد
من المعروف أن اختيار اسم الوليد يتم من قبل الوالد أو الوالدة إلاّ هذا الوليد! ولما طالبت القابلة باسمه, انبرى عمي السيد صالح الحكيم نصف الشقيق لوالدي من أمه رحمة فأطلق علي اسم "صادق" تيمنا بالإمام الصادق "ع" وأنا حقا مدين لعمي صالح بهذا الاسم الجميل. ما أن سمع والدي خبر ولادتي حتى ترك بغداد على الفور وعاد إلى كربلاء لتقر عينه بولده الصغير "صادق" الذي اعتبره تعويضا من الله عن ولده "علي" وهكذا سنرى على طول هذا السفر أنه كلما فقد والداي طفلا يعوضهما الله بآخر! وهنا عاد الوالد إلى البطالة وشظف العيش والحاجة رغم محاولاته العديدة في إيجاد أي عمل في كربلاء لكن كل محاولاته باءت بالفشل! فاضطر أخيرا إلى ترك كربلاء والهجرة للمرة الثانية إلى المسيب للعمل كملاحظ في معمل للمشروبات الغازية, وبعد أن استأجروا له دارا صغيرة بالقرب من شاطئ الفرات انتقلنا إليه وكنت آنذاك بين الثالثة والرابعة من العمر.
الطفولة في المسيب
أنا الان في منتصف الأربعينات من القرن الماضي والمسيب بلدة صغيرة تطل على الفرات ولا تبعد عن كربلاء أكثر من خمسة وعشرين كيلومترا, كنت أتردد على الوالد في معمل المشروبات الغازية مع الموزع الحاج حسين في عربته التي يجرها حصان واحد, وكانت هذه الزيارات للوالد بهذه العربة بمثابة النزهة والترفيه. كانت دارنا تطل على شط الفرات وكان هناك بالقرب منا مقهى تستقبل زبائنها بعد الظهر وخاصة عندما ينحسر الحر وتبدأ الشمس في المغيب, ومع صغر سني كنت أذهب إلى هذه المقهى بصحبة أولاد الحارة وكنت أتأمل من بعيد حركة الزبائن, فهذا يدخن "نارجيلة" وذاك يحتسي الشاي وثالث يستمتع بقنينة مثلجة من الصودا وكان يطلق عليها "سيفون" ومجموعة أخرى من الزبائن يلعبون "الدومينو" وآخرون يلعبون "الطاولي" على أنغام الأغاني والموسيقى.. ولكني لم أكن أرى العازفين أو المغنين أو المطربين فدفعني الفضول إلى البحث عنهم!!
ومرت الأيام وأنا أسمع الموسيقى والأغاني دون أن أرى أيا منهم, وفي يوم ما لاحظت أن الصوت ينبعث من صندوق خشبي كبير واعتقدت أن هؤلاء المطربين والمغنين يختفون في هذا الصندوق! ولم أكن أعرف بعد "الراديو" إنها أحلام وتصورات الطفولة!! يبدو أن الوالد لم يكن مرتاحا في العمل حيث كان معبئ القناني "أبوسعد" يقوم باختلاس مبالغ من الصندوق ولا يريد لوالدي أن يبلغ عليه صاحب المعمل, ولما فعل ذلك من باب الأمانة ما كان من معبئ القناني إلاّ التهجم على الوالد باصقا في وجهه الكريم!! عندئذ اضطر والدي في نهاية الأمر إلى ترك المعمل وعاد إلى كربلاء ولكن لم تمض فترة طويلة إلاّ وسمعوا بأن "أبا سعد" معبئ القناني في المسيب قد توفي نتيجة انفجار فرن المصنع عليه واحتراقه مما أدى إلى وفاته!!...
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
http://www.algardenia.com/ayamwathekreat/20544-2015-12-07-20-41-34.html
813 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع