مذكرات د. صادق عبد المطلب الموسوي مترجم اللغة الفرنسية لصدام حسين .. شــاهـد ورأى كــل شــيء / الحلقة الثانية
أتكلمُ الآن وأنا صبي في بداية الخمسينات من القرن الماضي في كربلاء التي تضم مرقد الإمامين الحسين وأخيه العباس عليهما السلام تحيطها الأسواق والبيوت في رقعة جغرافية صغيرة لا تتجاوز الكيلو متر المربع الواحد ومع ذلك تستقبل في كل مناسبة دينية ملايين الزائرين بدءا من محرم وصفر مرورا بالزيارة الشعبانية وليالي الجمع وخاصة في شهر رمضان إلى زيارة عرفة وعيد الأضحى, كان الكسبة وأصحاب المطاعم والفنادق وتجار"البازار" ينتظرون هذه المناسبات بفارغ الصبر, كانت آلاف الدنانير تدخل جيوب المستثمرين في كل مناسبة مقابل إكرامية دينار أو دينارين لعمال الخدمات ومنهم والدي رحمه الله,,, لم نكن نملك دارا وإنما كان والدي يؤجر غرفة واحدة في إحدى الدور الكبيرة نتكدس فيها جميعا, لذلك لم نكن ننعم بالاستقرار حيث نضطر إلى ترك الغرفة والانتقال إلى أخرى في بيت آخر بسبب جشع أصحاب الدور وبمعدل "تحويلة" سنويا.
طلاب احدى المدارس في الخمسينيات من القرن الماضي
إلى المدرسة
ولما لم يكن لوالدي الوقت الكافي لمتابعتنا ورعايتنا ولم تعتد والدتي الخروج واصطحابنا وتسجيلنا في المدرسة لذا كان على شقيقتي "أشرف" أن تقوم بمتابعتي واصطحابي إلى المدرسة وأنا في السادسة من عمري وكان ذلك في مدرسة البارودية الابتدائية للبنين "في محلة الكبيس" على ما أتذكر, كانت شقيقتي حريصة كل الحرص على مواظبتي في الدوام في السنة الأولى لدرجة أنها حرضت والدي في أحد الأيام لاستدعاء حمال من السوق لحملي إلى المدرسة وتسليمي لمديرها! ومع ذلك رسبت تلك السنة بسبب النكاف الذي أصابني إثر الصعوبات التي واجهتها في تعلمي للكتابة وخاصة حرف ال "ي" التي تشبه "البطة" وأي بطة!!!!! وهكذا مضت تلك السنة الدراسية 1948 – 1949 لننتقل إلى محلة أخرى في كربلاء بالقرب من المخيم..... لا أتذكر أحداث تلك السنة جيدا سوى ذلك التشييع المهيب للمرجع الديني الكبير السيد أبو الحسن الأصفهاني الموسوي رحمة الله عليه, كانت جموع المشيعين في كربلاء تندب وتنحب وتهتف حزنا لفراق هذا المرجع الذي سمعت الكثير عنه فيما بعد, كانت له كرامات ومواقف سامية, على كل حال انتهت العطلة الصيفية واصطحبني والدي للمرة الأولى والأخيرة إلى مدرسة المخيم الابتدائية قرب المغتسل دون أن يحمل معه دفتر الأحوال المدنية وبما أن الاسم المختصر لوالدي عبد المطلب هو "عبود" سجلت في الصف الأول للسنة الدراسية 1949-1950 باسم "صادق عبود" واستمررت أحمل هذا الاسم حتى الصف الرابع الابتدائي في عام 1952-1953 دون أي متابعة من جانب والدي أو شقيقتي.
(مجزرة) الختان
في عام 953 أن لم تخنّي الذاكرة جرى حفل تتويج للملك فيصل الثاني وبهذه المناسبة "السعيدة" تكرم "جلالته" في التبرع بإقامة حفل ختان جماهيري وخاصة لطلاب المدارس, ومن سوء حظي وبسبب الإهمال والكسل لم يكن والدي قد ختنني وأنا طفل فبقيت من دون ختان حتى ذلك الحين ولما أعلنت إدارة مدرسة المخيم في كربلاء عن مبادرة الحكومة طلبت المشاركة فورا دون الرجوع للوالد لأنني أعلم أن والدي سيبقيني من دون ختان إلى ما قبل الزواج!! ولذلك فأني فاجأته بخبر المشاركة في حفلة الختان الجماعي مع بعض من زملائي الطلاب فرحب بالفكرة دون أية معارضة. في يوم الاحتفال اقتدنا كالخراف إلى "مصرفية" كربلاء (المحافظة حاليا) وقد أقامت فيها دائرة صحة كربلاء عددا من المراكز الطبية وجهزتها بمستلزمات الختان وكلفت عددا من الممرضين للقيام بهذه المهمة, وكانت أجورهم تحدد لكل منهم حسب عدد الطلاب الذين يختنونهم, وهذا يعني أنهم أدخلوا في سباق للمزيد من الكسب على حساب حياتنا وبذلك تحولوا إلى "جزارين" دون مراعاة لأبسط القواعد الطبية والصحية! وكنت بطبيعة الحال أحد الضحايا, كانت جموع الأهالي ينتظرون في باب المصرفية ومن ضمنهم والدي رحمه الله, كنا جميعا ننزف بسبب سرعة عملية الختان والإهمال وقد تكرموا علينا بهدايا بسيطة كانت حصتي منها "صندل" وردي اللون, ما أن رآني الوالد بهذا الحال من النزيف حتى هرع بي بواسطة عربة تجرها الخيول "كاليسكة" إلى المنزل, والله وحده يعلم بأي حال كنت! أمر والدي "بالزيطة والزمبليطة" حسب المثل المصري لكنها لم تجد نفعا في معالجة النزيف والجرح الذي كنت أعاني منه ثم مضى والدي إلى عمله, وهنا تدخلت العرافات من العجائز كل واحدة منهن تقترح على والدتي طريقة في العلاج! وأخيرا رست على مقترح "التبخير" وتتلخص في إشعال عدد من أقراص "روث" البهائم وما أن تحترق ويتصاعد دخانها, ما عليّ إلاّ تعريض الجرح لهذا الدخان العجيب الغريب الكريه الرائحة الأمر الذي زاد الطين بلّه كما يقولون, فقد التهب الجرح وامتزج الضماد بالدم واللحم في هذه المنطقة الحساسة وهل من منقذ أو منجد يسعفني؟ عندما علم والدي بهذه المضاعفات أرسل أحد زملائه من العمال في الفندق, الشيخ مهدي, لنجدتي وإيجاد وسيلة لمعالجتي ولما وصل مساء ولم يجد أحدا في المستشفى ليعرضني عليه حملني الرجل على كتفه وأخذ يجوب الشوارع والأسواق لعلي أنسى الألم! وكان يقوم بهذا العمل بطيب خاطر متوخيا الأجر والثواب. في اليوم التالي عاودني الشيخ مهدي لمتابعة علاجي وحملني إلى أحد الحلاقين بالقرب من سوق النجارين وقدمني إليه وقال له بأني أحد أبناء السادة في كربلاء وشرح له ما أعاني منه من جروح بسبب سوء عملية الختان, كان الرجل الحلاق تقيا ومؤمنا ويحب أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فقام على الفور بمعالجتي وأوصى بشراء المراهم الفعالة من بغداد ومن بينها البنسلين الحديث التسويق وكله على حسابه الخاص, رحمهم الله جميعا فأنا لا أنساهم ما حييت وهكذا التأم الجرح وشفيت وخرجت سالما من هذه المغامرة.
من صادق عبود إلى صادق عبدالمطلب
كانت نتائج "مغامرة الختان" وانقطاعي عن المدرسة في النصف الثاني من السنة الدراسية 1953-1954 الرسوب طبعا, وبما أن لنا "تحويلة" في كل عام, فقد انتقلنا هذه المرة إلى شقة صغيرة لأحد الملاكين من خدمة الإمام العباس بإيجار شهري لا يتجاوز الدينارين في منطقة باب العلوة أو باب بغداد, وبطبيعة الحال كان على عائلتي نقلي من مدرسة المخيم إلى مدرسة الهاشمية ولا أتذكر من الذي قام بهذا الإجراء من أفراد أسرتي, على كل حال باشرت الدوام في المدرسة وفي الصف الرابع, وجدت نفسي غريبا فيها, معظم تلاميذها هم من أبناء الذوات في كربلاء, أبناء السدنة والخدام والملاكين والتجار أما أنا فكان يبدو عليّ الفقر من مظهري في ملابسي وفي خجلي ومسكنتي, كنت أخاف الاختلاط بهم لا بل هم الذين كانوا يبتعدون عني وحتى أقربائي كانوا يتجاهلونني, آه من الفقر, ومع ذلك كنت عزيز النفس حزينا مكتئبا ومجدا حتى أني مثلت في الساحة العامة دور أبي عمارة مع الأعرابي الذي يقول له "أتذكر إذ لحافك جلد شاة وإذ نعلاك من جلد البعير......الخ" وقد أبدعت, وفي يوم من الأيام دخل علينا مدير المدرسة, الأستاذ صاحب حسون رحمه الله يبحث عني فدعاني أمام الطلاب إلى مكتبه, فانتابني الخوف من هذه الدعوة, وهناك في المكتب تلاشى هذا الخوف عندما علمت السبب, قال لي ما اسمك؟ فقلت له صادق عبود! قال لا! أنت لست صادق عبود وإنما صادق عبد المطلب! تصوروا يا ناس, مدير المدرسة يخبرني عن اسمي! قلت له كيف؟! قال هذه جنسية والدك اسمه عبد المطلب وليس عبود! فقلت له عذرا لم أكن أعلم! ومنذ ذلك الحين تحولت من صادق عبود إلى صادق عبد المطلب, سبحان مغير الأحوال من حال إلى حال.. وفي الواقع كان الناس ينادون والدي في العمل باسم عبود اختصارا واستخفافا وقد علمت فيما بعد أن أسرته هي الأخرى كانت تناديه باسم عبود للسهولة... إلاّ أن الأستاذ صاحب حسون اكتشف الحقيقة..
المصدر: المشرق
للراغبين الأطلاع على الحلقة الأولى:
http://www.algardenia.com/ayamwathekreat/20077-2015-11-12-13-08-43.html
913 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع