كلام عن بغداد... الحلقة الأولى
قولي لشمسك لاتغيب وتكبدي فلك القلوب
بغداد ياوطن الجهاد وموضع الادب الخصيب
غناك دجلة والفرات قصائد الزمن العجيب
بغداد ياشغف الجمال وملعب الغزل الطروب
بنت المكارم للعروبه فيك جامعة القلوب
بغداد عاصمة الدنيا وقبلة العالم ومينة العلم والخلافه التي جمعت مالم يكن لمدينة مثلها يوما ,, بغداد المدينة المنوره التي حكمت نصف الارض في ذلك الزمان وحوت كل العلوم والثراء والشعر والغناء ,, بغداد كانت مدينة الحب والتسامح والاخوه والسلام ..
في العهد القريب مع نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت بغداد كما هي تنقسم الى جانبين يمينها الكرخ وغالبية سكانه من المسلمين وقليل من الصابئه وقليل من المحلات والايسر رصافتها وفيه يسكن اليهود والنصاري والارمن مع المسلمين وكانت مساحة بغداد لاتزيد عن اربعة اميال مربعه ( ثمانية كيلومترات ) يشغل السكان فيها ربعها والباقي اطلال ومقابر وبساتين ويمر بين جناحيها نهر دجلة الخالد ويقع خمسها على دجله وهو الكرخ واربعة اخماسها على الرصافه ,,
كانت نفوسها تقدر تخمينا في بداية القرن العشرين وقبل اندلاع الحرب الالميه الاولى ( 200 ألف نسمه ) منهم 150 ألف من المسلمين و40 ألف من اليهود و10 ألاف نصراني كاثوليك وارمني وبعد دخول الانكليز بغداد وقد اذهل اهالي بغداد بالاحتلال وخاصة ماجاء به معه من مخترعات وانظمه ومؤسسات وقوانين وكان اكثريه من جاء مع الجيش البريطاني الهنود وعدد من الارمن والفرس او التبعيه الايرانيه ..
يغلب على اهالي بغداد البساطه ويستند المواطن فيها الى العشيره والفخد والبيوتات والحرفه او الالقاب الدينيه وعلى العموم فهم اناس بسطاء يغلب عليهم الفقر والجهل نتيجة الظروف التي مروا بها وبساطة الحياة الخاليه من التعقيدات واضافة الى الفقر والجهل فقد كان يغلب عليهم المرض التي تتناوب عليهم في كل موسم من المواسم ..
لم يكن في بغداد اغنياء بمعني الكلمه الا عدد صغير يعد على الاصابع وكان اكثر الناس اصحاب حرفه يدويه وكسبه,,
وبالرغم هذه الظروف فقد شاعت عادات وتقاليد جميله بينهم وروابط عائليه قويه وتعاون وتكافل وتآلف وظلت السلطه المركزيه في العائله للاب ,, وكانت تسود العلاقه بين فئات المجتمع البغدادي التضامن والمساعده والمحبه بين الناس على السواء بالرغم من تنوع المجتمع ىالبغدادي .
لقد كانت الاغلبيه الساحقه من سكان بغداد هم من المسلمين السنه اضافة الى وجود جاليه كبيره من اليهود ثم النصارى والصابئه اضافة الى العديد من الاجانب فقد اعترف الرحاله والمؤرخين بالتسامح الكبير والبعد عن التعصب والميل الى التسامح مع الاجانب من اصحاب الديانات ىالاخرى فقد كان اليهود والنصارى يعيشون في بغداد حياة اعتياديه وبيدهم التجاره وحركة الاسواق كما كانو يمارسون شعائرهم الدينيه بحريه تامه في اديرتهم وبيعهم ولقد ذكرت مجلة الجغرافيه العالميه لسنة 1914 ان رئيس الوقف الخاص بالاقليات كان من الطائفه اليهوديه ( عائلة حبرون ) وكانت احدى الطوائف المسلمه تدخل ضمن الوقف هذا وبشكل طبيعي وبدون اية حساسيه حتى كان يصدر لها اذونات الدفن خارج بغداد ..
وهناك الكثير من الحكايات التي يرويها من عاشوا تلك الحقبه الزمنيه منها في عهد الوالي مدحت باشا عندما تم عزله واضطربت الامور واراد مدحت باشا السفر فقد جاء الى الحاج مصطفى كبه في داره ليرهن ساعته لغرض تسديد نفقات السفر الا ان الحاج اعطاه الليرات والساعه ولم يقبل ضمان منه وقصة المس بيل التي كتبت الى والدها تقول انها احبت هذه البلاد وانها لاتريد ان تفارقها وعنما ماتت اوصت بدفنها في بغداد من حبها لهذه المدينه ..
وذكر بعض الرحاله في وصف البناء المعماري في بغداد على انه عباره عن صف من البيوت واسطه متجاوره ويستطيع اللص ان يقطع اميال من سطح الى سطح امام الشبابيك المظلله كما باستطاعه العاشقين ان يتقابلوا بدون ازعاج .. وهذه دلاله يراد بها ان البيوت وواجهاتها متقابله وتكاد تلتقي مع بعض ..
لقد ظهرت الطائرات لاول مره في بغداد عام 1915 خلال الحرب العالميه الاولى وعندما كثرت في سماء بغداد ذهل سكانها ومن الطرائف ان المرحوم عبد الرحمن النقيب او رئيس وزراء لاول حكومه في دوله العراق الحديث قد امر نسائه بدون عباءه و الحجاب عند خروجهم الى باحة الدار خوفا من رؤيتهم من قبل الطيارين الانكليز مسفرات وعنما وقد قررت السيده ماجده الحيدري عقيلة السيد رؤوف الجادرجي وهي في المستشفى عام 1932 لاجراء عملية الزائده الدوديه اقسمت انها ستسفر اذا نجحت العمليه وفعلا اسفرت وخرجت سافره من المستشفى ..
هذه هي مآثر بغداد والبغداديين التي اكتسبوها من خلال استيطان العديد من الموجات البشريه وامتزجت فيها ايام العز ويام الانحطاط وخضعت على مر السنين لتجارب الانتقاء وللعديد من التحولات والتطور لتشكل نسيجا حضاريا مزخرف يتمثل فيه الخصائص التراثيه والبيئيه والانسانيه للشخصيه البغداديه العصريه
ولاننسى ولع البغدادي بحديقة داره ونخلته وشغفه بالطرب والمقام على وجه الخصوص وصفاته البارزه في بحسن المعشر والبساطه والانسجام مع الاخرين والثقه وتجد كل هذه الصفات من خلال تعامل الشخصيه البغداديه يوميا في الاسواق والمدارس والجوامع ودوائر الدوله ويقول الشاعر بحق البغداديين :
سافرت ابغي ببغداد وساكنها مثلا قد اخترت شيئا دونه اليأس
هيهات بغداد والدنيا بأجمعها عندي وسكان بغداد هم الناس
لقد اذهلت العلاقه القويه بين جميع مكونات البغداديين وبمختلف اديانهم وطوائفهم واشكالهم واصولهم وكانت سمة التعاون ظاهره محببه في المجتمع البغدادي حتى جاء التغيير في تموز 1958 وبدأ بغداد تنحرف نحو اخلاق جديده وسيطرة الريف والقريه وتبدلت الاخلاق وتنوعت الناس وكثر الدم واستباح الشقيق شقيقه والصديق صديقه وعمت الفوضى ومانراه اليوم هو البذره التي زرعت في ذلك اليوم من تاريخ العراق ...
يقول الشاعر جميل صدقي الزهاوي
اتعود بعد تصرم ونفاذ ايام بغداد الى بغداد
كانت محطا للعلوم واهلها وقرارة للمجد والامجاد
ايام بغداد تضيء جميلة فتلوح مثل الكوكب الوقاد
مع تحياتي
عبد الكريم الحسيني
817 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع