شعر وحدث ونهاية مأساوية .....

          

                 

                  

       

وعيت على الدنيا في قلعة كركوك منتصف الستينيات ،وكانت المدينة يومذاك صغيرة برقعتها الجغرافية ، وكانت الحوادث والاخبار تسري بين جنباتها بسرعة فور وقوعها ،وتتعرض في الغالب للتأويل والتهويل ،

وكانت العامة تتناقل هاتيك الحوادث لاسابيع وشهور بل لسنوات.. تبعا لاهمية الحدث والخبر ، وقصة صاحب هذه الصورة ( الجالس على الارض) واحدة من تلك القصص التي بقيت تتناقلها الالسن والشفاه لسنوات طويلة ،وكانت مدار حديث الاندية والديوخانات والمقاهي في كركوك..

              

واكتسبت قصة اعدام نقيب الشرطة ( السيد رؤوف افندي) الضابط في مركز السراي الذي كان الى بداية السبيعنيات يقوم على الارض التي اصبحت الان موقفا لوقوف السيارات قبالة مصرف الرافدين قرب جسر الشهداء من صوب القورية في قلب المدينة ،اكتسبت تلك القصة اهميتها لسببين مهمين ،برأيي ،

  

اولهما ان بطل القصة كان شخصا محبوبا من قبل العامة فهو الى جانب كونه مسؤولا حكوميا وضابطا في الشرطة ،كان دمث الاخلاق ، يعامل الاهالي بلطف واحترام وكان الكثيرون من اهل كركوك يروون في مجالسهم ومنتدياتهم قصصا عن شهامته ومواقفه الرجولية ، اما السبب الثاني والأهم لذيوع وانتشار تلك القصة فهو بلاشك تلك الابيات الشعرية التي ضل يسردها الشاعر التركماني الكبير(هجري ده ده) والتي الفها صديقه ( النقيب سيد رؤوف افندي) واصفا بها نفسه و قد كانت تربطه بهجري علاقة اخوة وصداقة وسنأتي لسرد هذه الابيات المؤثرة لاحقا...، والمعروف عن اهل كركوك شغفهم بالشعر والخوريات ، وولعهم بنظمه وروايته .!! وتبدأ القصة حسبما سمعتها من كبار السن والشيوخ ، من حيث الملهى الليلي الذي افتتح بداية الثلاثينيات من القرن الماضي بمباركة من قوات الاحتلال البريطاني التي كانت صاحبة نفوذ وسطوة في البلاد على الرغم من ان الدولة العراقية كانت قائمة حينذاك ،وكان الملهى الانف الذكر والذي كان يسمى ايضا ( تياترو ) يقع مقابل نادي الموظفين الحالي وهو بذلك ليس ببعيد عن الدوائر الحكومية في المنطقة بما في فيها سراي الحكومة والشرطة والذي كان النقيب رؤوف افندي ضابطا فيه ،

       

كان بعض الشباب وقسما من موظفي الحكومة يرتادون الملهى بعد غروب الشمس حيث كانت الكؤوس تدار به على أنغام غناء المطربات اللائي تم استقدامهن من مصر والشام ،وكان اسم ( رازقية ) الراقصة اليهودية السورية مثار اعجاب الشباب ، لجمالها وخفة حركاتها الراقصة ،

    

والقصة تبدأ من هناك ، مثلما سمعتها ، وهي ان احد ضباط الجيش كان قد دعا شلة من زملائه واصدقائه بمناسبة ترقيته لرتبة اعلى ، ودارت كؤوس الخمر وابتدأت الليلة الحمراء على انغام اصوات الغناء ورقص ( رازقية ) ولم يكن احد يدري ما يخبيء تلك الليلة من هول حدث مأساوي سيظل يشغل بال وذاكرة اهل كركوك لحين من الدهر ،وستظل احداث تلك القصة تتواردها العامة جيلا بعد جيل !!

           


عند منتصف الليل بدأت شكاوى المواطنين من زعيق اصوات الطلقات والاعيرة النارية التي كان يطلقها المدعوون في الملهى ترد الى الضابط الخافر في سراي الشرطة تلك الليلة النقيب (سيد رؤوف افندي) الذي لم يعد هو الاخر يتحمل تلك التصرفات المنافية للاداب والذوق اللعام ،وتتعارض مع التعليمات التي كانت تقضي بان تقفل البارات والملاهي ابوابها عند منتصف الليل ..
استدعى الضابط (سيد رؤوف) العريف اليهودي (ساسون جاووش) ليرافقه الى الملهى حيث ذلك الضابط النزق وشلته من السكارى الذين اخذتهم نشوة الخمرة وباتوا يطلقون الاعيرة النارية مثيرين بذلك راحة الاهالي وضاربين بالتعليمات الحكومية عرض الحائط ، ويبدو ان الامر بالكف عن الاحتفال والصادر من النقيب(سيد رؤوف ) لم يرق للضابط المخمور صاحب الدعوة، والذي اخذ يكيل السباب والشتائم لسيد رؤوف والعريف ( ساسون جاووش ) ويصفهما بانهما احط من شرف الراقصة ( رازقية )!!

 

وامام هذا التهكم والاحتقار لم يتمالك الضابط الشهم (سيد رؤوف ) نفسه ، فأخرج مسدسه وأفرغ رصاصتين في راسه الضابط المخمور واخرى في صدر الراقصة ( رازقية ) التي تطاولت هي الاخرى عليه واصيب جراء اطلاق النار أيضا نادل في الملهى ، وتحول هذا الحادث فور سماع الاهالي لحيثياته الى قصة مثيرة بل والى ملحمة بطولية بطلها النقيب الشاب ( سيد رؤوف افندي ) المعروف بمواقفه الشجاعة وبسمعته الطيبة في المدينة .

                          

ولكن الاحداث بعد ذلك لم تسر بالشكل الطبيعي بل تحول الى مأساة مفجعة بعد ان القي القبض على النقيب سيد رؤوف الذي كان في طريقه لتسليم نفسه ولكن اعترض طريقه احد اصدقائه ( والذي اتحفظ على اسمه )واخذه لمنزله بحجة مساعدته وايجاد حل له..

    


قيل ان القاء القبض على ( السيد رؤوف افندي ) تم بوشاية من هذا الصديق او من احد من مقربيه,،ثم تطور الامر بعده بشكل دراماتيكي وسريع ليتحول الى مأساة انتهت الى الحكم على النقيب (سيد رؤوف ) بالمؤبد ثم لسبب غير معروف الى الاعدام !، حيث نفذ حكم الاعدام بالضابط الشهم النقيب ( سيد رؤوف افندي ) الذي خلدته مواقفه الانسانية وبطولاته في ذاكرة اهالي كركوك، ليكمل الشاعر التركماني الكبير ( هجري ده ده ) القصة ببعد وجداني اخر حيث ضل بعد الحادث الاليم يردد الابيات الي سمعها من لسان صديقه (سيد رؤوف افندي) وهو يرددها عندما كان في السجن واصفا بها حاله, وتحولت في فترة وجيزة الى ملحمة شعرية وغنائية تجسد مأساة الضابط الشاب الذي كان يوما ما يلقي القبض على المجرمين والقتلة ولكن على حين غرة اصبح مجرما مكبلا بالسلاسل والاغلال .اعدم الضابط (سيد رؤوف)، ولكن ظلت تضحيته وموقفه النبيل مثار اعجاب وفخر من عرفوه .....

   

لابد من سرد الابيات التي قالها الشاعر التركماني الكبير هجري عن لسان (سيد رؤوف افندي) والتي اصبحت انشودة يتغنى بها كبار مطربي كركوك من أمثال رشيد كوله رضا وعزالدين نعمت وصديق بنده غفور قبل ان تنتشر اكثر حينما غناها المطرب الشعبي المرحوم ( هابه ) الشعر ...:

كاه دختور اهلي دردينه خوش دوا ترتيب ايدر..كيمنن درماني يوخ درد اونو تعذيب ايدر..بير زمان بوليسيدم مجرملري تعقيب ايدردم.. شيمدي مجرم
اولميشام بوليس بني تعقيب ايدر...!!!

                    

الگاردينيا: قصة مأساوية بحق..كان المرحوم(سيد رؤف)اثناء واجبه الرسمي ولكن على مايبدو وككل عراقي حر وشريف لم يستطيع ان يتحمل اهانة ذلك الضابط المخمور...

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

725 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع