"رحلة تعرفنا فيها على بساتين بلاد الرافدين وثمارها، كيف كانت، وما آلت اليه اليوم"

       

   

     

  

"رحلة تعرفنا فيها على بساتين بلاد الرافدين وثمارها، كيف كانت، وما آلت اليه اليوم"

استثمرالأنسان منذ بداية وجوده على الأرض هبات الطبيعة من ارض وماء التي منحها الله له لمعيشته وسكنه وانتقاله، لقد مر او عاصر إنسان بلاد الرافدين منذ القدم أنماط معاشيـة مختلفـة في عصور ما قبل التاريخ وهو في بداية تنازعه من اجل البقاء حياً على هذه الأرض وبيئتها القاسية، فبـدء بمرحلة جمع القوت، ثم تحول إلى مرحلة القنص والصيد للطيور والحيوانات الوحشية، ثم توصل إلى مرحلة الرعي البري، لقد اهتدى الى اكتشاف إنسان الرافدين للزراعة في حدود الألف التاسع ق.م.، وكانت الزراعـة فـي بدايـة مراحلهـا بسيطة وشبة منتقلة تعتمـد على خصوبة التربة وعلى نهري دجلة والفرات و مياه الإمطار، بحكم أرضه الفيضية الرخوة ونهراه العظيمين دجلـة والفرات والاهوار والبحيرات المتصلة بهما، وهذه ميزة فريدة تميزت بها بلاد الرافدين ومنذ أقـدم العصور، وكان من الطبيعي أن يختلف الباحثون حول المكان الأول الذي ظهرت فيه الزراعة، فذهب قسم منهم إلى أن ظهـور الزراعة بـدء في شمـال العراق حيـث المطـر الوفير والمنـاخ البارد اللـذان يساعـدان علـى نمـو الزراعة الطبيعية، وقسـم أخر ذهـب إلى أن كون الزراعة ظهـرت أول مرة في منطقة الاهوار في جنـوب العراق حيت المسطحات المائية والجو الملائم للزراعة، جاء في كـتاب "التوراة سفر التكوين:" كان هناك مكان جميل على كوكب الأرض ليس له نظير آخر حقًا.. إنه الجنة.. ويقع في مكان يطلَق عليه "عدن" 

       

ووصفت التوراة هذا المكان الجميل الذي بدأت فيه حياة البشرية على كوكب الأرض، بأنه "بستان عدن"، "كَانَ نهر يخرج من عدنٍ ليسقي الْجنةَ، ومن هناك ينقسم فيصير أَربعةَ رؤوسٍ: اِسم الواحد فيشون، وهو المحيطُ بِجمِيعِ ارض الحويلَة حيث الذهب. وذَهب تِلك الأرضِ جيد. هناك المقل وحجر الْجزعِ. واسم النَّهر الثانِى جيحون، وهو الْمحِيطُ بِجمِيعِ أَرضِ كوش. واسمُ النهْرِ الثالث حداقل، وهو الجارِي شرقِي أشور. النهر الرابع الفرات"، يقول الأستاذ ويليم ولكوكس أني عثرت على مكانين يتوفر فيهما شـروط جنة عدن المذكورة في التوراة، احدهما منطقة الشلالات الواقعة بين عانة وهيت وقد قررت أن هذه المنطقة كانت محلا ً لجنة عدن الساميـة أو الاكدية، والثانيـة هـي منطقة الاهـوار التي تبـدأ قـرب خرائب أور الكلدانيين وقـد ذهبت إلى أنها كانـت محلا ًلجنة عـدن السومريين، وقـد توصلت إلى تعييـن مكان هذه الجنة الأخيـرة بعد تجـوال طويـل في تلك المـنـطـقـة مستـرشـدا بالألـواح البـابلـية للخـلـيقـة والخرائـط التـي تبـيـن مسـتويـات الأراضـي هـنـاك، ومن هنا يتضح أن جنة عدن كانت في أرض العراق.. وهذا ما تؤكده عدة نقاط، منها:

أن العراق من البلاد قديمة التاريخ جدًا، وأن أراضي العراق من أخصب الأراضي في العالم وهو بلد زراعي من الدرجة الأولى ، فالوثائق الأثرية تشير أن سهول العراق الكائنة إلى جنوب غرب بابل كانت تدعى عدن، كما ان زارينس نب خلال فترة إقامته في الجزيرة العربية عن أصل اسم جنة "عدن" الواردة في الكتب المقدسة، ووجد أن هذه الكلمة استخدمها السومريون في البداية بمعنى "الأرض الخصبة الوفيرة المياه"، وأنها وردت في الألواح الطينية السومرية القديمة أيضا بمعنى "إنسان من التربة".

       

اهتدى انسان بلاد الرافدين للزراعة، عندما أراد استغـلال المياه العذبة المتدفقـة في نهري دجلة والفـرات والمسطحات المائية التابعة له، ومياه الامطار، ذلك الاهتداء غير حياته و نمط معيشته وفكره وعمله، وهذا يمثل أول ثورة اقتصادية قام بها الإنسان، إذ أنتقل بواسطتها من حياة جمع القوت إلى حياة أنتاج القوت، وكانت الزراعة في بداية مراحلها بسيطة وشبه متنقلة تعتمد على خصوبة التربة متى نفذت أنتقل إلى غيرها، وكان اعتماد الإنسان أول الأمر على الزراعة الديمية في سقي المزروعات التي انحسرت في المناطق الشمالية في بلاد الرافدين التي اعتمدت على سقوط الأمطار، وأن العائلة الواحدة أخذت تنتج قوتها بنفسها وتصنع الأدوات البدائية الخاصة بها، ولم يظهر التخصص الكامل بالعمل ويمكن الاستدلال على استخدام الحبوب في قرية جرمو، التي تم فيها العثور على الأدوات المستعملة في هذه العملية مثل المجارش والمطاحن وأواني الحجرية والفخارية كما عثر على نوع من الشعير فيها، كما كانت الزراعة محدودة والتنظيم قائم على أساس التعاون المشترك في توزيع المهام وأهم تلك المستوطنات الزراعية هي (كريم شهر – زاوي جمي - شانيدر) التي تقع شمال بلاد الرافدين، وكما هو معلوم أن الزراعة محددة بمساحات صغيرة تفي بحاجة الفرد أي الاكتفاء الذاتي، وعند بدايات العصر الحجري الحديث حدثت نقلات حضارية متطورة جداً أدت بالنتيجة إلى نشوء أولى القرى الزراعية في العصر الحجري الحديث".
وبعد إن استوطن السومريون جنوب العراق كانو قد عرفوا الزراعة التي تعود إلى بدايات الحضارة الإنسانية وإكتشاف الإنسان للزراعة منذ ما يقرب تسعة ألاف عام طبقاً للعلماء والإكتشافات الحفرية الأثرية لبلاد ما بين النهر،اعتمد السومريين على الري وزرعوا المناطق السهلية الممتدة على ضفاف الاهوار والفرات ومن هنا ابتدأ علم البساتين و البستنة، ثم تطور علم البساتين أو البستنة حوالي سنة 5500 ق.م.
ففي العصر السومري الذي يعد عصر الرخاء والازدهار الحضاري والاقتصادي، شهد تميزا وتفردا في المجال الزراعي، بدأ سكانه بزراعة البساتين لتجميل منشآتهم، ثم وصل حد اهتمامهم بالزراعة إلى تخصيص مساحات من الأراضي الفارغة التي أحاطت بالمدن التي استقروا بها، وكان الهدف من ذلك تثبيت أقدامهم في تلك المدن، خاصة بعدما لاقوا هجوما من كونهم سكانا غير أصليين لهذه المدن، وأنهم أتوا إليها هاربين من بطش الحكومات عليهم، كما أن هناك هدفا أصليا وراء اهتمامهم بالزراعة وهو أن يكون مدخلا لمجال التجارة، حيث كان السومريون يسعون إلى زراعة عدد من المحاصيل للإتجار فيها، شارك المعبد وكهنته والسلطة السياسية المتمثلة بالملك وحاشيته وكبار موظفي الدولة والأفراد في المساهمة في الزراعة وبإمكانيات متفاوتة، وقد أولوا اهتماماً كبيراً بأعمال الري وحفر القنوات وبناء السدود وعرفوا مواسم الفيضان والسبل الكفيلة لدرء أخطارها كما أتقنوا عمليات مسح الأراضي وتحديد الحقول فكانت لهم أوزان ومقاييس ومكاييل محدودة وعرفوا التقويم وحساب الدورة الزراعية وصنعوا عدد من الآلات الزراعية، أظهرت إحدى الرسوم المنقوشة على الحجر محراثاً مثبتاً خلف عموده، أنبوباً ذا فوهة علوية واسعة توضع فيه البذور فيصل قعر الشق الذي يحدثه المحراث في الأرض، وهذا هو الأساس العلمي نفسه للمبذر الحدي، واثمر الطقس الحار والرطب لبلد سومر بيئة ملائمة جداً لنمو أشجار النخيل، وتبين النصوص المسمارية وجود غابات النخيل الشاسعة في بلاد سومر منذ وقت مبكر جداً يعود إلى الألف الثالث ق.م، رغم صعوبة معرفة مكانها الأصلي وتاريخ بداية وجودها،

    

وكانت النخلة أهم شجرة ومحور الحياة الاقتصادية، ومع وجود الخبز والتمر ويمتلك الأخير قيمة حرارية عالية غذاء متكامل، عندئذ يكون قد توفر الغذاء الرئيس للسكان، ومع أنهم كانوا يربون الماشية، فإِن القنوات والبحيرات (الأهوار) والخليج كانت تزودهم بالسمك الوفير، وزرعت الفواكه في ظلال أشجار النخيل، علاوة على زراعة الخضروات،

     

كما أتقنوا زراعة التين والتفاح، كذلك قاموا بتجربة زراعة بعض المحاصيل الأخرى مثل الرمان، ولكن لم ينجحوا في ذلك، وهكذا توفرت عدا أزمنة المجاعات الاستثنائية الناجمة عن الحروب والكوارث الطبيعية، غذاءً غنياً متنوعاً، وكان السكان عموماً في هذا المضمار أفضل بكثير من جيرانهم في إيران وآسيا الصغرى وسوريا، وأقاموا الاحتفالات الخاصة بالزراعة ومواسمها وقدموا الأضاحي والقرابين إلى الآلهة لتحمي المحاصيل من الآفات الزراعية، وقد عرفوا زراعة العديد من الحبوب والثمار والخضراوات في الحقول، وذلك لخصوبة اراضيها ومياها الوفيرة ومناخها المتنوع مع ابداع العقل الرجل السومري في استغلال الموارد بكفاءة عالية مكنها على انتاج مختلف انواع المحاصيل الزراعية.

             

   
والبابليون اهتموا أيضا بالزراعة وضبط نهر الفرات ومواسم فيضانه واعدوا جداول للزراعة، فقد كانـت مزروعاتهم الغذائيـة الرئيسية في الأراضي المرويـة هي الشعـير والتمور والثـوم الذي يشكل الغذاء الرئيس للسكان والحنطة والقمح الرومـي ومختلف الخضار من العـدس والبصل والخـس والباقلاء والخيار والفاصوليا

   

وكذلك الفواكه مثل التفاح والرمان واللوز والتين والعنب والخوخ والسفرجل، وكانت حراثـة الأرض للبذار تبـدأ في تشرين الثاني مع موسـم الإمطـار، وكانت الحقول البابلية تخلوا مـن الدغل والطفيليات فما كاد الدغل يخرج حتى يبادر الفلاحون بقطعة مرتين ومن ثم يسحقونه بالماشية وهكذا كي تظهر البراعم وتنمو إلى سنابل ولا تتعفن وهي خضراء، واهتم حامورابي بمشاريع الري وفي عهده أقيم سدا ترابيا ضخما على نهر دجلة قبل 3500 سنة، حيث يعد هذا السد أضخم مشروع إروائي في التاريخ، واستخرج البابليون الزيت من السمسم لفقر بلادهم بأشجار الزيتون٬ وصنعوا الأنسجة من الكتان، وكان تمر النخيل من أكثر المواد الغذائية أهمية٬ كما كان لخشب النخيل استخدامات مختلفة في مجال البناء مع سوء نوعيتها، ومن أشجار الفاكهة المعروفة التين والرمان والتفاح٬ ولم تكن الحمضيات معروفة في بابل، وكثيرا ما استخدم البابليون النباتات والأعشاب للتداوي، أضاف البابليين إلى البستنة نظام ري المدرجات وإنشاء الحدائق والمنتزهات.
اهتم الكلدانيين بالزراعة والري، حيث أقام نبوخذنصر بمشروع إنشاء بحيرة في منطقة بالقرب من عقرقوف وتغذيها مياه نهري دجلة والفرات واستغلال هذه البحيرة لإرواء أولا وكتحصين دفاعي ثانيا، وما الجنائن المعلقة إلا دليل واضح على اهتمام الإنسان العراقي بالزراعة والحدائق والبساتين حتى عدت من عجائب الدنيا السبع.، كانت بلاد الرافدين المركز الجغرافي لدول آسيا الصغرى، وكانت بابل محورية في بلاد الرافدين نفسه.
إما الاكديون فقد استوطنوا في أخصب بقعة زراعية في وسط بلاد الرافدين بين نهري دجلة والفرات نزولا إلى هور الحمار، فاستغلوها في زراعة كافة المحاصيل والحبوب الزراعية .

           

وفي العصر الأشـوري أقام الملك سنحاريب مشروع لإيصال المياه للعاصمة نينوى وذلك بحفر قناة مائية وعلى جانبيها تقام البساتين والحقول الزراعية، و كـان مولعـا ًبالبستنة والتشجيـر وشغوفا بالطبيعة والرياض والمنتزهات، وانشـأ رياضا وحدائق واسعة حـول عاصمته نينوى وغرس فيها أنواع من الأشجار والكروم التي جلبها معـه في حملاته الحربية الكثيرة فـي البلدان، وقد عبر عن ارتياحـه لذلك وقال وبقدرة الإلهة أصبحت الكروم والسرو والإعشاب تزهو في تلك الحدائق أكثر مما كانت عليـة في موطنها الأصلي ونما التوت وغيرة و الأشجار بكثرة، ان البستنة منتشرة على نطاق واسع في بلاد آشور, تم تقسيم حدائق واسعة حول القصر الملكي, كما هو مبين في العديد من النقوش الآشورية.

     

كانت نينوى محاطة بحديقة كبيرة حيث تم بالإضافة إلى النباتات المحلية وأشجار الفاكهة والخضروات بذل محاولات لزراعة النباتات من بلدان أخرى (خاصة القطن من الهند) وزراعة أصناف العنب القيمة من المناطق الجبلية وتأقلمها، كما اهتم الاشوريين كالبابليين بانشاء نظام الري لمدرجات الحدائق والمتنزهات حيث وجدت موسوعات عن النباتات في عهد الأشوريين منذ ما يقرب 700 عام قبل الميلاد على ما يزيد عن 900 صنف من النباتات المتنوعة.
وفي هذه العصور كان عمل الزراعة مقدسا، وعلى المزارعين أثناء حرثهم للحقـول وتجميع المحاصيل أن يكونوا فـي حالة نقاء روحي وحيـن شاهـدوا المزارعـون نـزول البذور إلى أعماق الأرض ولا حظـوا اختراقهـا للظلمـات لتجلـب بشكـل مدهــش أشكال حيـاة جديـدة ، أدركوا أن هـنـاك قـوة خفـية تعمـل، وكـان المحصول بمثابة تجل وظهور للطاقة الإلهية فادى إلى ظهور عبادة آلهة الزراعة.

         

وفي العصور الإسلامية افتتح العـرب العراق في عهد عمر بن الخطاب وأطلقوا علية تسمية ارض السواد بسبب سوادها بالزروع والنخيل والأشجار وقسم ابن خرداذبة مناطق السواد إلى ثلاثة مناطق : الأولى مناطق شرق نهر دجلة والنهروان، والثانية جنوب العراق إلى الخليج، والثالثة وتقع بين النهرين من الانبار على الفرات و الدور على دجلة إلى البطيحة في الجنوب، من الأقوال المأثورة التي ذكرها أحد المؤرخين الغربيين عن العرب المسلمين الفاتحين، أنهم يهتمون عند فتح البلاد بشيئين في وقت واحد هما: «بناء المسجد وتنظيم الحقل». و قال آخر: «العرب عمال زراعة ورجال براعة، برعوا في سقي الجنان واخترعوا النواعير العجيبة، بل ووطنوا النباتات والأشجار الأفريقية والآسيوية في أوربا». لذلك فإن كل بلد فتحها العرب المسلمون اهتم فيها ولاتها بالزراعة والاقتصاد، وليس عجباً أن نرى تقدم هذه البلاد وتحولها من خراب وفقر إلى حدائق غنّاء.
ابدى خلفاء وأمراء وولاة العصر العباسي عنايتهم إلى تشجيع الزراعة، فنشطوا في حفر الترع والمصارف وإقامة الجسور والقناطر، وكانت الأراضي الواقعة بين نهري دجلة والفرات من أخصب بقاع الدولة العباسية. وكانت الدولة تشرف على إدارتها إشرافاً مباشراً، وتعمل على تحسين زراعتها وتنمية مواردها. وأنشأت في هذه الأراضي شبكة من القنوات والمصارف، حتى أصبحت قوية الخصب، تكثر فيها المزارع والبساتين، وكانت تعرف بأرض السواد لكثرة ما عليها من الشجر والزرع والخضرة. كذلك مد المنصور قناة من نهر دجيل وقناة أخرى من كرخايا، ووصلهما بمدينة بغداد في عقود محكمة بالصاروج (وهو حجر كلسي) والآجر. وفي عهد هارون الرشيد قام وزراؤه بتحقيق رغباته في الإصلاح الزراعي، فاحتفر وزيره يحيى نهر القاطول، واستخرج نهراً دعاه أبا الجند، وأمر بإجراء القمح على الحرمين، وبنى الحياضات والرباطات. ومن مظاهر اهتمام العباسيين بالزراعة كثرة الضياع، فكانت الضياع الخاصة، والضياع العباسية، والضياع الفراتية، والضياع المستحدثة.
وقد اعتمد خلفاء بني العباس في الزراعة وفلاحة البساتين على دراسة عملية، بفضل انتشار المدارس الزراعية، فتوسعوا في البحثين النظري والتطبيقي ودرسوا أنواع النباتات وصلاحية التربة لزراعتها، واستعملوا الأسمدة المختلفة لأنواع النبات، واتبعوا سياسة حكيمة ترمي إلى عدم إرهاق المزارعين بالضرائب، وإلى وضع قواعد ثابتة لأنواع الخراج بحسب نوع المحصول وجودة الأرض.

          

في بداية نشوء الدولة العراقية عام 1921 كانت بغداد، محصورة بين الميدان والشورجة والغزل والفضل وباب الشيخ الى فضوة عرب، وينقطع البناء لتبدأ جنات وبساتين وأعنابًا وفواكه وجميع الثمرات من كلا الجانبين، فمن أراد الوصول من باب المعظم إلى الأعظمية فهو يمر ببساتين غَناء كثيفة، ومن باب الشرقي إلى الكرادة التي لم تكن إلا بساتين وقصور على الشط يملكها الأغنياء من أهل بغداد، وفي الكرخ ومناطق الصالحية والسليمانية والرحمانية وسوق الجديد والكاظمية، فكل ما حول تلك المناطق تعد اراض تغطيها البساتين، في الكرخ بستان الارضروملي وبستان عباس طعمة في الجعيفر اضافة الى بساتين كرادة مريم البساتين التي يطلق عليها الكرود وتحاذي نهر دجلة من جهة الكرخ وصولا الى الصالحية، وبستان عباس العص التي أنشئت عليه دار الاذاعة العراقية ثم توسعت فشملت كل مساحة البستان، وبساتين الدورة ومنها بستان احمد الملا حسين الجبوري في الدورة وبساتين هور رجب والبوعيثة، وفي الرصافة بستان الخس وبستان المتولية العائدة الى حنينة عباس حفيدة المصارع غني، وبستان مامو في الكرادة وبستان رخيتة وبستان حمدي الباججي، وبستان الوجيه ناجي الخضيري، وبمحاذات نهر دجلة "كرادة سيد ادريس" او ما يسمى اليوم بالكرادة الشرقية التي تضم مجموعة كبيرة من البساتين المحيطة بمرقد السيد ادريس، وبستان الترمجية في منطقة معسكر الرشيد والذي ويعود الى بيت النقيب مشاركة مع بيت حافظ القاضي، وبساتين الرستمية والزعفرانية وسلمان باك، كانت المساحة المحصورة بين الاعظمية حتى باب المعظم عبارة عن بساتين كثيفة مكتظة باشجار النخيل والفواكه ومزارع الخضراوات، اهمها بستان الخفاجي وبستان ال نجيب باشا وبستان الدفاعي وبستان الدركزلي وبستان الرزنلي وبستان البغدادي وبستان ال رئيس الكتاب وبستان الجوربجي وبستان مراد سليمان، وفي الكاظمية كان بستان الجلبي وبستان شاكر الوادي وبستان العبسلي، وفي شمال شرقي بغداد هناك بساتين واسعة وعامرة على الضفاف الشرقية لنهر دجلة تسمى كرادة الكريعات وسبع ابكار والتي تعتبر بساتين واسعة لانتاج اشجار الحمضيات والنفضيات، والتي كانت تحوي انواعا عديدة من الرمان وانواع البرتقال واللالنكي والنارنج والنومي حامض والحلو والنفطي والاطرنج والسندي والكريب فروت والمشمش والتفاح والخوخ والالو والعنجاص والتين والسفرجل والجوافة والعرموط الى جانب انواع متعددة من العنب وانواع كثيرة من التمور، كتب عنها زميلنا اللواء فوزي البرزنجي مقالة شاملة ومهمة والتي نشرتها مجلة الگاردينيا وكانت تحت عنوان :"زِراعَةُ أشْجارُ الْحِمْضِياتِ والْنَفْضِياتِ في ضَواحي بَغْدادْ أَيْامْ زَمْانْ"

وهي جديرة بالقراءة، وكان اهل بغداد يقومون بالاستمتاع بزيارة بعض البساتين التي تكون مفتوحة للعامة ايام الربيع والاعياد والمناسبات.
بعد نشوء الدولة المدنية وما بعدها، ونتيجة التطور الحضاري والاقتصادي وزيادة في عدد السكان، اقدمت الدولة على شق الطرق وتشييد الجسوروزيادة مساحات بناء المساكن، وبعد السبعينات في زمن الحكم الوطني جرى توزيع اراضي السكن على الموظفين واعضاء النقابات، واشنرطت ان تحوي حدائق المنازل الى زراعة نخلة وشجرة من الحمضيات او الزيتون، فظهرت مناطق على اسم الوزارات، مثل الصناعة والشرطة والإعلام والإسكان والمهندسين والأطباء والقضاة والسكك والصحة والتربية والبنوك وغيرها، وكذلك في الكرخ ظهرت مناطق العامرية والسيدية وغيرها مما ادى الى اختفاء بعض البساتين، فانحصرت بغداد بين الكريعات والأعظمية شمالا إلى جسر ديالى القائم على طريق الكوت جنوبا، ومن مدينة الثورة شرقا إلى ابو غريب في الكرخ غربا، ومع ذلك فقد وزعت الدولة اراضي بمساحة خمس دونمات للزراع والبستنة بحزام بغداد بغية الحفاظ على البيئة، بمثابة “رئة خضراء” لبغداد بعد ان توسعت وزاد البناء بها.

        

ديالى تشتهر في العراق باسم مدينة البرتقال لكثرة بساتين البرتقال حولها كما تنتشر فيها زراعة أنواع أخرى من الحمضيات بالإضافة لاحتفاظها بالنخيل في أغلب الأماكن برونقه، وبقي باسقاً يانع الخضرة يظلل بساتين الحمضيات التي تميّز هذا الجزء من أرض الرافدين،

     

وضرب بها المثل في خصوبة ارضها وجودة انتاجها وخبرة مزارعيها، فكان يقال لقياس جودة المحصول انه بمثابة (رمان شهربان) او (برتقال بعقوبة) او (نومي المخيسة)،او (رطب مندلي)،او (عنب بهرزي)، معارك الحرب العراقية الإيرانية في هذه المنطقة أهلكت بعض بساتين منطقة مندلي،

   

فيما احتفظت البساتين الأخرى البعيدة عن خط التماس برونقها وثمارها، ومنها بساتين منطقة شهربان، حيث حافظ توفر المياه على البساتين، تضم بساتين الحمضيات والنارنج وأشجار البرتقال، والليمون الحلو، والليمون الحامض، واللالنكي والسندي والعنب، التي كانت الى عهد قريب اشبه بغابات من النخيل والبرتقال والتوت والتين والرمان والعنب والتفاح والزيتون

      

الى جانب حقول القمح والقطن والخضراوات كالرقي والبطيخ والطماطم والباقلاء والبصل والسمسم والحمص والفستق، اسباب عديدة تكالبت على المحافظة لتحولها من بستان مثمر الى ارض قاحلة جرداء، منها التطهير الطائفي والوضع الامني وشحة المياه والبناء السكني غير المصرح به، وضعف الاجراءات الحكومية للنهوض بالواقع الزراعي.

   

مدينة كربلاء، التي تتميز بوجود البساتين، فيها نهراً صغيراً يمتد طويلاً وماؤه عذب، هو نهر الحسينية، فالبساتين على جانبيه، فأشجار النخيل تعلو شامخة لتداعب الشمس، حيث الزهدي، والخستاوي والبربن وام البلاليز والخضراوي وغيرها، واشجار البرتقال التي تتواجد بأنواع مختلفة وهي البرتقال العادي والبرتقال الدموي (أي ان لون الثمرة من الداخل احمر) والسكري، والذي يعطي طعم الليمون الحلو و اشجار الليمون والنارنج والرمان والمشمش والسندي، فهذه الاشجار تزرع كلها في ظلال النخيل، الذي يوفر لها المناخ الملائم، وبعض الناس يعتقدون بأن البرتقال الكربلائي يفوق الانواع، إذ ان برتقال كربلاء يمتاز بحلاوته، وكثرة مائه، وقلة سمك قشره، أما برتقال ديالى فهو ذو قشر سميك، وقليل الماء، اصاب كربلاء وباء تجريف البساتين، فمئات الدونمات من البساتين التي كانت مزروعة بأصناف من أشجار الفاكهة والنخيل قد تم تجريفها خلال السنوات السبع الماضية، لتتحول إلى أراض سكنية من بيوت وقصور وورش، بالرغم من الأنتقادات والتحذيرات التي اطلقها نشطاء بيئيين، لا توجد إحصاءات رسمية دقيقة حول ذلك.

           

تعرف مدينة البصرة بـ"فينيسيا الشرق"، بسبب انهارها الجميلة وقنواتها المائية العذبة، وملتقى نهري دجلة والفرات، هي احدى الجنائن في الأرض التي تتميز بروعة الاشجار، وكثرة النخيل والتنوع في النباتات، اشتهرت البصرة بنخيلها وتمورها كـ "البرحى والحلاوي و الساير والخضراوي التحسيني و الأمجدي ودكلة والبريم الاحمروالخلاص وغيرها من الاصناف"، واشجار التين والتفاح والنبق،

      

إلا أن واقع الحال قد تغير، فالحرب العراقية - الإيرانية في عقد الثمانينات من القرن الماضي التي امتدت لثماني سنوات متتالية، اصابت نخيل العراق وخصوصا قضاء ابو الخصيب والمناطق المحيطة به من مدينة البصرة، بخسائر فادحة حيث احترقت مئات الالوف من اشجار النخيل المحاذية لشط العرب بسبب القصف المدفعي الايراني حتى بدت اشجارالنخيل حسناوات احترقت جدائلهن، وبعد غزو الكويت، شهد عام 1991 قصفا امريكيا على المنشئات المدنية ومحطات الكهرباء والطاقة والجسور وحتى على بساتين النخيل في مناطق مختلفة من العراق، ولكون مدينة البصرة ولقربها من الكويت، شهدت اقسى موجات القصف من قبل القوات الأمريكية والبريطانية، هذه البقعة الجميلة التي كانت خصبة في يوم من الأيام تحولت الى أراض جرداء خالية من الخضرة.
مجرى نهر دجلة من دخوله العراق حتى التقائه بالفرات العذب عند القرنة ليشكلا شط العرب رحلة بأكملها كانها لوحة متشابكة، ملونة ترمز الى انواع الثمار، هي الجنان والبساتين الكثيفة العامرة بالشجر من الحمضيات والفواكه كأنها سجادة تطيف بها الوان الثمار، التي كانت قائمة في هذه البقعة الساحرة بجمالها وموقعها، المنتشرة في اطرافها المتعددة المطلة على شاطئها، ضفتي دجلة التي اشعر لها الشاعر العملاق محمد مهدي الجواهري
"حييتُ سفحكِ عن بعدٍ فحَييني*** يادجلة الخير يا أم البساتين
حييت سفحك ظمآناً ألوذ به*** لوذ الحمائِم بين الماءِ والطين"
والعصافير والبلابل والطيور المتنوعة على الأشجار وسياج البساتين التي تسود المكان، إذ تزقزق كلها في وقت واحد، وتنطلق نحو أعشاشها، وروافد دجلة من الزاب الكبير والزاب الصغير والعظيم كلها شامخات باشجارها الباسقة، من دهوك وبساتين العنب والتفاح الى الموصل ام الربيعين وثمارها المتنوع بما فيها الرقي وتكريت والدور وسامراء منبع زراعة الرقي وبلد والطارمية والتاجي مرورا ببغداد وسلمان باك والصويرة والكوت والعمارة، فبساتين العمارة من اكبر البساتين واجملها في جنوبي العراق فهي تسير مع امواج نهر دجلة من مدخله حتى دخوله في حدود محافظة البصرة.
على امتداد نهر الفرات من دخوله العراق حتى التقائه بدجلة الخير تسحرك الانغام وظلال اشجار النخيل والبساتين، جمالية الحياة الهادئة في محافظة الرمادي وطبيعتها الجميلة ونهرها الفرات الخالد، وهي هيت والبغدادي وحديثة وعانة وراوة وحصيبة،

       

تستعين بالنواعير بطريقة فريدة من نوعها لنقل الماء من الفرات لإرواء البساتين التي تزرع فيها النخيل والفواكه والحمضيات والمزارع الممتدة على سهولها واوديتها، والمسيب والهندية والحلة والديوانية والناصرية وسوق الشيوخ المطرزة ببساتينها وكثافة نخيلها واشجارها المثمرة.
المزارع والبساتين هي المكان الذي تقدم راحة نفسية وعلى ميزات الاسترخاء غير المحدودة والهدوء والشفاء لزوارها، إذ يطلق عليها مجازاً "جنة الله على الأرض"، فاللون الاخضر المتدرج للاشجار المختلفة وتلون الثمار واختلاف انواعها، وتدفق المياه واصوات الطيور المتنوعة، تجعل الانسان يشعر وكأن«الجنة» قد وجدت على الأرض، فضلا عن انها تمثل حدائق ومناظر طبيعية خلابة خصوصا وان اغلبها تمتد مع ضفاف الانهار وتمتزج معها بحيث اصبحت اليوم تمثل لوحة متكاملة، ويمكن القول إن البستنة هي الممارسة المرتبطة بالصحة العقلية، والعديد من الفوائد الجسدية في جسم الإنسان فهي تعزز الصحة البدنية، وتقليل الأجهاد وزدياد التنفس بالأوكسجين، علاوة على انشغالها به عن الضغوط اليومية التي ترفع نسب القلق عند الإنسان، وتحجيم ردود الأفعال الغاضبة، ورفع قوة الملاحظة، وقدرات الذاكرة.
شهدت بغداد بعد الحصار بعض التجاوزات من خلال البناء لبعض من مناطق حزامها الاخضر، فكتبت مقالة علمية حول البيئة وتطوير المساحات الخضراء للاقلال من ظاهرة الاتربة، ولحرص الدولة على جعل حزام يتوسع بالمساحات الخضراء وعدم السماح لتجاوزعدم تحويل الملكية الزراعية الى اراضي سكنية وللحفاظ على البيئة عممت رئاسة ديوان الرئاسة المقالة للوزارات المختصة للعمل بموجبه.

      

بساتين نخيل الدورة في قلب بغداد تتزايد اثرعمليات تجريف البساتين وتحويلها إلى مشاريع سكنية، يسكن معظمها فلاحون هجروا أراضيهم واتجهوا نحو المدينة، رغم وجود قوانين تمنع تجريف البساتين وتحاسب من يقومون بذلك.
طريق مطار بغداد الدولي الذي كانت تزينه اشجار النخيل والفواكه الباسقات من الجانبين، ولم تكتف القوات الامريكية بما احرقته آلتها العسكرية من النخيل، بل عمدت على تسخير ماكنتها من بلدوزرات وشفلات الى تسوية الاراضي المحيطة بالمطار ومافيها، بات طريقا اجرد، تلفه جذوع النخيل المحترقة الداكنة، واخيرا بعد سنوات جرى تشجير الشارع ولكن ليس بكثافة ونوعية ما كان سابقاً.
وهبت تربة ومياه بلاد الرافدين طعما متميزا لكل مانبت فيها: من تمر ومن فاكهة ومن حمضياتها ومن خضارها، وفي غربتنا نفتقد عبق ونكهة فاكهة بلدنا التي كانت تتميز برائحة عطرة وطعم مميز، اقتبس ما كتبه استاذنا العزيز الدكتور مجبد القيسي عندما ارسل لنا فديو عن البساتين وفاكهتها وحمضياتها وتمرها قائلاً:

من غير تردد وبلا غرور أقول: شربت من مشارب دول المهجر. وأكلت من فواكهها وخضراواتها فلم دول المهجر. وأكلت من فواكهها وخضراواتها فلم
أجد أحلى وأطيب وأزهى مما تنبتُ أرضُ بلاددي. وسنقرأ هنا كيف تتحدث (طيبات) أرض الرافدين، وسنقرأ هنا كيف تتحدث (طيبات) أرض الرافدين، وانا اضيف ويشاركني الكثير:

          

بأن افضل البرتقال هو البرتقال العراقي لاتحيزا كونه سهل التقشير غير ملتصق حلو المذاق، النومي حامض العراقي وهو حامض ولكن غير لاذع، وعندما كنا صغاراً نعصر النومي باليد ونعمل ثقب صغير فيه ونضع داخله شويه ملح ونبدأ بتذوقه،

        

النومي حلو من الحمضيات التي لا يعرفها الاوربيين، اللالنگي والتفاح الصغير والكوجة ووالتين الوزيري، يا محلا طعمها وريحتها الطيبة.

            

كانت بلاد الرافدين العراق ارض السواد حيث كانت تغطي معظم اراضيه في الوسط والجنوب بساتين النخيل وما يزرع فيها من محاصيل اخرى، وبعد أن كان العراق أحد الدول التي تنتج وتصدر أصنافا مختلفة من المحاصيل الزراعية، بات اليوم رهنا بالمنتوج المستورد الرخيص في ظل تجريف البساتين والمزارع وفقدان الدعم الحكومي، اضافة ال غياب سياسة حماية المنتوج الوطني، وهو ما انعكس سلبا على الإنتاج الزراعي في مناطق عرفت طويلا بوفرة ذلك الإنتاج وتعدد أنواعه ومصادره، برتقال ديالى وكربلاء وتمر البصرة والناصرية وديالى وكربلاء وأعناب بلد

     

ورگي سامراء وبطيخ الموصل وطماطة الزبير وربيعة"، منتجات كانت تزين المائدة العراقية لفترات طويلة قبل أن تقضي عليها المحاصيل المستوردة، اما الحزام الاخضر الذي يحيط بالعاصمة بغداد فهو الآخر شهد ولا يزال يشهد ابادة جماعية لبساتين النخيل ابتدأتها القوات الامريكية المحتلة، ثم بعدها عن طريق ميليشيات الاحزاب الحاكمة بغية التطهير الطائفي المقيت على تجريفها دون ان تراعي ما تشكله المناطق الخضراء المحيطه بالعاصمة من اهمية في درء العواصف الرملية التي عادة ما تغزو المدينة هذا فضلا عن دورها في حماية البيئة من التلوث، في عراقنا الجديد، فإن المساحات الخضراء التي كانت تحيط بالمدن باتت تتقلص يوما بعد آخر بسبب تحويلها إلى مشاريع سكنية، أو جفاف محاصيلها وهجرتها من قبل أصحابها، او تطهيرها العرقي، فالارقام الاحصائية مخيفة وهائلة، فارقام اشجار النخيل والفواكه والحمضيات تبقى مجهولة، كما انه لايمـــــــكن ان يتخيل اي وطني غيور على بلاده بمشاهدة ضفاف نهــــري دجلة والفرات بدون بساتين النخيل وحمضياتها التي تزين جوانبها، ومن الله التوفيق
سرور ميرزا محمود

          

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

652 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع