حضارة حوض قضاء شهر باژار (محافظة السليمانية)

    

   حضارة حوض قضاء شهر باژار (محافظة السليمانية)

   

   

          (صياح الديك أنقذ سكان القرية)

كان اتجاهنا نحو قضاء شهر باژار (أي مدينة السوق) بالفارسية والكردية، ومركز هذا القضاء ناحية چوارتا ويتكون القضاء من (ناحيتي چوارتا وماوت والقرى التابعة لهما).
في البداية علينا صعود جبل أزمر، الذي يحرس مدينة السليمانية الجاثمة على سفحه، كمعشوقة في حضن حبيبها ويشاركه جبل گويژة، يلمسانها بكل حنان ودفء، ويصبان فيها فيضا من حبهما، وينعم الناظر بجمال فريد ويحتل جبل أزمر موقعًا مثاليًا، يقدم إطلالة بانوراميه على مدينة السليمانية، حينما يصل المرء قمة الجبل، ومن الجهة الثانية ينحدر الشارع نحو وادي فيه حكاية الاقدمين،

  

ما أجمل الطبيعة في هذا الوادي العميق صفاء جو ونقاء هواء، وإشراق شمس يتمتع الناظر بجمال الأشجار الباسقات، ويحركها النسيم فتتمايل الأغصان كراقصة الباليه بجسمها الرشيق وتوازنها العجيب.
يقع جبل أزمر على بعد خمسة كيلومتر من المدينة، في الشتاء يكسوه الثلج وفي المواسم الأخرى حديقة جنات عدن، فيها كل ما تشتهي النفوس وتروق العيون، قبلة المصطافين للتمتع بمناخه المعتدل وجماله الفريد وصلنا إلى قمة الجبل، ووقفنا عند مطعم صغير، تناولنا طعام الفطور، ويطل المطعم على وادي كبير وعميق، يأخذننا نحو (قلعة جوالان) القرية التاريخية التي كانت مركز الحكم الباباني، قبل أن يهاجر منها إبراهيم باشا بابان إلى (السليمانية) عام 1784 م.

   

بعد تناولنا طعام الفطور اللبن مع خبز الصاج والشاي، ركبنا السيارة وعلينا أن ننحدر نحو منطقة سيتك وهي منطقة سياحية ساحرة، تقع خلف جبل أزمر على بعد حوالي عشرين كيلومتر شمال مدينة السليمانية، يتوافد اليها المصطافين بكثرة في فصلي الربيع والصيف.
(قلعة چوالان) وصلنا إلى منطقة كانت للبابانيون إمارة تدعى (إمارة بابان الكردية)، وعاصمتها مدينة (قلعة چوالان) وتشير بعض المصادر إن أصول البابانيون ترجع إلى قبائل كردية كانت تقطن منطقة پشْدَرْ في شمال العراق، تأسست الإمارة عام 1649 ونمت الحركة الثقافية في الإمارة، وتوسع نفوذ البابانيون، وأصبحت مدينة قلعه چوالان عاصمة الإمارة، وكانت صغيرة، وكما أن موقعها في بقعة منزوية خلف جبلي كويژة وأزمر، ولقربها من الحدود الإيرانية، كانت تتعرض الإمارة (العاصمة) لهجمات مستمرة، وأصبحت ساحة لمعركة الصراعات الصفوية والعثمانية، وأصبحت ضيقة لا تكفي لطموح أمراء بابان، وأحتاج البابانيون لإنشاء
مدينة كبيرة كي تصبح عاصمة جديدة لإماراتهم ومركزا لسلطتهم ورمزا للثقافة.
عقدت معاهدة ارضروم الأخيرة بين إيران والدولة العثمانية، فلم تبق حاجة لبقاء استمرار الإمارة البابانية، والتي كهلت هي بدورها، وحملت معها أسباب زوالها، وانتقلت المؤسساتُ الحكوميةُ البابانيةُ إلى العاصمة الجديدة، وبعد أن استولى ابراهيم باشا السلطة عام 1783 م، بنى البابانيون مدينة السليمانية، وسميت نسبة إلى اسم والده سليمان باشا أحد أمراء سلالة بابان، وأستغرق مشروع بناء المدينة سنة واحدة.

           

نقل البابانيون عاصمة إمبراطورتيهم من قلعة چوالان إلى مدينة السليمانية عام 1784، التي فتحتْ أبوابها لكل قادم، وكان قد أستقر فيها أغلب العمال الذين عملوا في بنائها، اضافة للنزوح الهائل إليها من قبل سكان الأرياف المجاورة والبعيدة.
أما المكان الذي انتقلت اليه عاصمة البابانيون فكانت على الجهة الثانية لجبل گويژة وأزمر، كانت في حينها قرية تسمى ملكدني (حاليا احدى محلات السليمانية)، وبقربها منطقة كاني إسكان (بالعربية ـ عين الغزال) وهي بقعة جميلة خضراء، تمتاز بكثافة الغابات والأحراش، وفيها وديان كثيرة بحيث جعلتها الغزلان موضعاً لتواجدها، وكان الأمراء البابانيون وحاشيتهم اتخذوا القرية موضعا لاصطياد الغزلان، ولكثرة ارتيادهم إلى هذا المكان قاموا ببناء أماكن ومنازل للاستراحة والنزهة، إلى أن توسعت وأصبحت المدينة الجديدة.

                               


ظلت مدينة السليمانية عاصمة الأمارة البابانية حتى عام 1851 م وأصبحت بعد الحرب العالمية الاولى بين السنوات 1922-1924 عاصمة حكومة لجنوب كردستان، برئاسة الملك محمود الحفيد.
ومحمود الحفيد سعيد كاكا احمد بن الشيخ معروف البرزنجي ولد في مدينة السليمانية سنة 1881م درس علوم الشريعة والفقه والمبادئ الصوفية على يد علماء السليمانية، اتقن العربية والفارسية والتركية إلى جانب الكردية، اغتيل والده الشيخ سعيد غدراً في مدينة الموصل، وألقي القبض عليه ووضع في سجن الموصل بتحريض من قادة الاتحاديين الأتراك، اثار اعتقاله غضب جموع الناس ضد السلطة العثمانية الحاكمة مما أرغمها على إطلاق سراحه فعاد سنة 1910 الى السليمانية، وحل محل والده زعيماً لها وصمم على انشاء دولة كردية مستقلة.
بدخول القوات البريطانية واقترابها من كردستان خلال الحرب العالمية الأولى، اخذ يعمل علنا ضد السيطرة العثمانية على كردستان، وطالب بحكم ذاتي للكرد، تحت الأشراف البريطاني وتم تعينه حاكما (حاكم دار) على كردستان، ولكن بريطانيا لم تفي بوعده ثار ضدها، واشتبك مع الجيش البريطاني بعدة معارك، ألقى القبض عليه ونفيا إلى الهند.

            

تحركنا باتجاه (قضاء شهر باژار) القضاء يجثم على سفح جبل (سرسير)، في موضع يبعد ثمانية وثلاثون كيلو مترا من السليمانية، شمال شرق وفيها بعض المعالم المعمارية، منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين للإدارات العراقية، لكنها تتصف بأجواء قروية ولأهل (جوارتا) ولع خاص بتربية الماشية، لكثرة ما يحيط بقريتهم من المراعي والمروج أما ماؤها فعذب لأنه ينبع من عيون غزيرة، وأما هواؤها فصحي مفيد، وجبل سرسير يقع في منطقة تحيطها الأشجار، ويتدفق فيها العديد من العيون تم أنشاء العديد من أماكن الراحة والاستجمام فيها.
توجهت لزيارة جامع جوارتا الكبير، فهو معلم تاريخي، كان الجامع خالي من المصلين لان الوقت العاشرة صباحاً، هو من مساجد العراق التاريخية الأثرية، شيد مبناه عام 1757 م، وتقام فيه صلاة العيدين وصلاة الجمعة والصلوات الخمس المكتوبة، وتبلغ مساحته حوالي الف متر مربع، ويحتوي على مدرسة دينية تعد من أهم مدارس المنطقة، وتبلغ مساحة المصلى اربعمائة متر مربع، ويتوسط محراب وعن يمين المحراب منبر للأمام والخطيب، صنع من مادة الخشب الصاج ويقوم المبنى على أربعة أعمدة خرسانية، ولقد تم صيانته وتجديده حديثاً، ووضعت له سقوف ثانوية، وتم بناء منارتين مخروطية الشكل ذات حوض واحد أمام واجهة الجامع بتصميم هندسي ومعماري إسلامي جميل.

    

اتجهنا نحو ناحية ماوت نحن بالطريق وقفنا عند قرية كاني ماسي، مجموعة من عيون الماء فياضة وعلى بعد ثلاثة كيلو متر شمال قصبة ماوت أهم هذه العيون هي كاني ماسي التي تنبع من سفح الجبل والموقع غني بالأشجار ويبهر بجماله مما جعل الموقع موقعاً سياحياً يرتاده الناس بكثرة.
تحركنا نحو ناحية ماوت وهي قرية واسعة العمران، كثيرة السكان بالقياس إلى عمران مركز ناحية جوارتا. وتبعد عن المركز المذكور ثلاثين كيلومترا عن جوارتا.

      

ونحن خارجون من بناية الناحية سألت السائق: ماذا تعرف عن ماوت؟
قال مبتسما: أهالي ماوت يعتزون بالديك.
سألته مستغربا: تقصد الديك ذكر الدجاج.
أجاب: نعم، يعتز الأهالي بديوكهم تقول حكايته الشعبية المتوارثة أن صياحه أنقذ سكان القرية الواقعة على الحدود العراقية الإيرانية من موت محقق على يد جيوش معادية هاجمت القرية قبل أكثر من ثلاثة قرون. وتروي الأسطورة أن جنوداً غزاة وفي أحد أعوام القرن السابع عشر، هاجموا قرية (ماوت) الواقعة على الحدود العراقية الإيرانية بغية السيطرة عليها، وكان لصياح الديك ساعتها فعل المحذر للسكان من الخطر الداهم،فانتبهوا وأخذوا حذرهم وحملوا الأسلحة وقاتلوا القادمين.
منذ ذلك الوقت والسكان في (ماوت) التي لم تعد قرية بل نمت وتحولت إلى بلدة صغيرة، تجمعهم علاقة غير اعتيادية بالديك، يربونه من دون أن يذبحوه أو يأكلوا لحمه، كما يحتفظ بعض الأهالي صورة للديك في بيوتهم باعتباره رمزاً لهم.
قلت له: تمثال للديك يوضع على سقوف الكنائس لدى الاخوة المسيحيون. وهو علامة انكار أحد صحابة عيسى (ع)، حيث صاح الديك وذكره بنكرانه لعيسى(ع).
قال: توجد عدة روايات (ديك في مواجهة الجيوش الرومانية والروسية والمغولية إن قصة هجوم الرومان والديك) حقيقية لأن أجدادنا تناقلوها جيلاً بعد آخر، وتقول رواية ثانية إن جنوداً من الجيش الروماني هاجموا قرية ماوت القديمة الواقعة على سفح الجبل، وان ديكاً صاح حينها وتم تنبيه الأهالي من الخطر القادم وهرب بعض السكان فيما ظل قسم للدفاع عن القرية، ومنذ ذلك الزمان ساد اعتقاد يجري توارثه للآن وهو أن الديك أنقذهم من موت محتم.
ويقال أيضاً تروى الحكاية بشكل مختلف، مشيراً إلى الديكة هربت أثناء الهجوم باتجاه الجبل ثم تبعها عدد من الأهالي، وقد نجا من تبع الديك ومن بقي في القرية قتل.
قلت له: هل تأكل لحم الديك.
قال بتردد: فأنا لا أذبح الديك، بل اترك الآخرين يذبحونه وأشاركهم أكله. أما المعمرين مازالوا متمسكين بتلك الرواية ونحن نحترم تلك العادة أمامهم.
للحديث تكملة

  

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

497 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع