ذاكرة المديـنة / نهير الليل .. مقامات المكان

                

ذاكرة المديـنة/ نهير الليل .. مقامات المكان

 

    

           الدكتورعبد الجبار الحلفي (*)

1ـ/ في عام 1957 حدث امر غريب فقد رست باخرة صينية وسط الشط قبالة فم النهر وعرض البحارة على الاهالي شراء ما يمتلكون من سلاحف / 

2ـ / في نهاية الخمسينات كانت الحرائق تهب فجأة في الصرائف الهاجعة على الجهة الجنوبية من النهر ممتدة الى مسافة كيلومتر طولا محيلة اياها الى رماد /

تخفق سراجيف القلب وتبتل ثنياتها لرؤية النهر كما تفعل لمشهد الحبيب ولقياه . هو كالدون الهادئ والدانوب والسين ، لكن الفقر استنبت على ضفتيه الكالحتين المزدحمتين ببيوت الطين والقصب والاكواخ .حفر الدهر اخاديد على وجوه ساكنيها المصفرة ، عمال الغرابيل في قصر الشيخ خزعل وبائعون متجولون للحلوى والخضار.
بقعة مكانية صغيرة مغلقة ، كأنما تكبحها عوازل عن الأمكنة المجاورة لها ، كأنها حدود محروسة بمخافر ومراصد ومدافع لمقاطعة عثمانية نائية . نهير الليل هو رابع مجرى مائي يخترق المدينة ابتداء من نهر العشار صعودا نحو شمالها . تحد نهير الليل من الجنوب منطقة الرباط وجسرها الدوار ومن الشرق شط العرب ومن الغرب الحكيمية والدورة . ومن الجنوب الشرقي قصر الشيخ خزعل وسميت محلة نهير الليل باسم ذلك المجرى . قيل سمي هكذا لأن المهربين كانوا يختبئون مع بضاعتهم ليلا في جنبات النهر عندما تطاردهم شرطة الكمارك وقيل ان لصوص الاخشاب التي تحملها السفن التجارية الاجنبية في شط العرب كانوا يندفعون نحو النهر بزوارق الصفيح محملة بما سرقوه بحثا عن مخبأ وفي كلتا الحالتين هو مخبأ شق النهر فيه في العهد العثماني .
عمال الغرابيل

يسكن المحلة بعض المواطنين غالبيتهم من عشائر العمارة والناصرية وبيوتات من البصرة . هم اول من استوطن المنطقة كفلاحين لدى المالك آنذاك يوسف جميل حمزة وهم ايضا اصحاب محال وبقالون ومنهم العمال والحرفيون . اما الآخرون فهم عمال موسميون ينشطون في موسم التمر ومنهم فيما بعد عمال الغرابيل الذين يعملون في سيف الشيخ خزعل منذ اواخر الاربعينات .ينهضون قبل ان ينهض فجر المدينة وعندما يسفر الصباح عن وجهه ، نسمع نحن الصبية اصوات دوي الغرابيل الرتيب حين ينحدر قرص الشمس الذهبي نحو الغروب ، يعودون الى اكواخهم مثلما تعود الطيور الى اعشاشها .

         

في الليل عندما تستيقظ النجوم كحبات الماس في الظلام ويهجع الناس ، كنا نسمع صوت ماكنة الطحين في ( الخندق ) تعلن عن نفسها في الريح الجنوبية ممتزجا بغناء البحارة الخليجيين في الابوام الراسية على كورنيش شط العرب ( هوليا .. هوليا ) . كان بيت الصديق الشاعر كاظم الحجاج قبالة بيتنا . كنا تلميذين في الصف الاول بمدرسة التميمية . وكان ذلك في السنوات ( 1952ــ 1954) .حيث كنا نذهب الى المدرسة سيرا على الاقدام لمسافة تزيد عن الستة كيلومترات.و فيما بعد غادر بيت الحجاج الى محلة الفيصلية ـ الجمهورية الان وانتقلنا نحن الى الجهة الشمالية من النهر .
سلاحف للبيع
في عام 1957 حدث امر غريب في نهير الليل ، فقد رست باخرة صينية وسط الشط قبالة فم النهر وعرض بحارتها على الاهالي شراء ما يمتلكون من سلاحف بـ 10 فلوس لكل سلحفاة ، وكان ذلك ثمنا مغريا . هرع الناس صغارا وكبارا الى النهر بحثا عن السلاحف التي يزخر بها النهر غير مبالين في بداية الحملة بما ينتظر ارجلهم من بقايا زجاج وعيدان قصب سميك وشظايا صفيح واشياء اخرى جارحة .عشرات الالاف من السلاحف استقرت في الزنابيل وخلال ثلاثة ايام كان ابناء المنطقة يمسكون السلاحف ويتحاشون السمك الخشني والحمري . بعد ذلك بأشهر مات عدد من الاهالي بالكزاز وتعوق آخرون ولم تظهر السلاحف في النهر بعد ذلك الحدث الا بعد شهورعدة .
سنوات الحرائق
في نهاية الخمسينات كانت الحرائق تشب فجأة في الصرائف الهاجعة على الجهة الجنوبية من النهر ممتدة الى مسافة كيلومتر طولا محيلة اياها رمادا . ومن غريب الامر انها موقوتة مع هبوب الريح الشمالية السريعة في كثير من الأحيان عندها تأتي سيارات الإطفاء مفرقعة بأجراسها آنذاك يقف بعضها عاجزا عن اخماد الحريق بسبب عصف اللهب . ولا احد يعرف بالضبط مسببي الحرائق فاليهود كانوا يشيعون ان اللاجئين الفلسطينيين بالذات هم الذين يشعلون الحرائق نكاية بهم ولزرع البغضاء في نفوس الاهالي . وأستمر اشعال الحرائق لمدة عام تقريبا جعل ذلك من الضفة الجنوبية لـ ( نهير الليل ) مسرحا لكارثة بشرية وقودها الفقراء .
نهير الليل اليوم مجرد حكاية سردت في ليلة شتائية وبقيت في ذاكرة الكبار ممن سكنوا احياء الحيانية فالنهر قد طمر والنخل اختفى والشارع الطويل تلاشت معالمه وحدوده .
لم تدخل سيارة نقل الى المحلة الا في عام 1958 عندما استبدل المرحوم الحاج يوسف جميل حمزة سيارته الدوج طراز 1941 بسيارة بونتيك جديدة واوعز لمسؤول مكتبه ان يستخدمها لنقل الاهالي من نهير الليل الى الخضارة مقابل مدرسة المربد الابتدائية ( الدبة ) في العشار مقابل عشرة فلوس للراكب .
نهير الليل الذي كان لسنين طوال يتمايل بين المد والجزر وتتجذل فيه الاحياء المائية ،انطفأ في زمن ما وخبت توهجاته كما تخبو النجيمات في سماء البصرة .
-----------
(*) الدكتور عبد الجبار الحلفي من مواليد البصرة ، من قصاصي المدينة وله اسهامات ملموسة في المشهد الثقافي البصري . خبير اقتصادي له عشرات المقالات حول ازمات البترول وموضوعات اقتصادية اخرى

              

الگاردينيا: نرحب بالدكتور عبدالجبار الحلفي ، نورتم حدائقنا ، ننتظر جديدكم .. نقول لكم:

             

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

677 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع