امام وزير الداخلية سعيد قزاز وجها لوجه

             

     امام وزير الداخلية سعيد قزاز وجها لوجه

عزمت على مغادرة العراق، لغرض إكمال دراستي في القاهرة، مُدركاً أهمية هذا الأمر وضرورته، بعد فقداني لسنين دراسية عديدة (تمردت) عليها كان ذلك في أواخر شهر آذار/ مارس من عام 1957، وكانت الأسرة قد تجمعت في مطار بغداد لتوديعي، برفقتهم العديد من أصدقائي.

انتظرنا قرابة الساعة من الزمن بعد الموعد المحدد لإقلاع طائرة (الخطوط الجوية العراقية)، المتوجهة الى بيروت، والتي كانت تحافظ على مواعيدها لكن هذه المرة تأخرت، وحال مناداتنا ودعت الجميع لتأشير جواز سفري ثم صعدت الى الطائرة مع بقية المسافرين، وسارت بنا على أرض مدرج المطار مسرعة لمسافة غير قليلة لكنها توقفت فجأة وفتح بابها ليدخل مفوض شرطة. وقف وسط ممر الطائرة منادياً على اسمي طالباً مني النزول من الطائرة والذهاب برفقته لاجراء استفسار بسيط!.

نزلت معه بهدوء دون أن أبدي أية ردة فعل، لكن حقيبتي ملابسي وما تحويانه من أغراض بقيتا في الطائرة، وبعد أن أكملت مسيري بإتجاه الصالة فوجئت بسير الطائرة ومن ثم تحليقها مرة ثانية لأراها ترتفع لتشق عنان السماء معها حقيبتاي!.
أدخلني ذلك الشرطي الى أحدى غرف المطار، ثم تقدم نحوي ضابط أمن، وطلب مني رؤية جواز سفري، وحال تسليمي له أخذه مني وأبلغني بأنه تم احتجازه، وأضاف قائلا:

لقد صدر أمر يقضي بمنعك من السفر الى خارج العراق بأمر من السلطات، وعليك مراجعة الجهات الأمنية.
فعدت الى المنزل مع افراد أسرتي الذين شهدوا ما حدث من عودة الطائرة ونزولي منها.
كنت ممتعضاً مما جرى لي في ذلك اليوم، ولم أنم ليلتي حينها، وفي صبيحة اليوم الثاني سارعت بالذهاب الى وزارة الداخلية، التي كان وزيرها آنذاك السيد (سعيد قزاز).
وصلت الى مكتبه لأجد سكرتيره الأديب والصحفي المعروف السيد (فؤاد الونداوي) جالساً في مكتبه خلف الطاولة.
بعد أن استقبلني أخبرته بما جرى لي (يوم أمس)، طالباً منه مقابلة معالي الوزير، ثم دخل الى غرفة الوزير وخرج منها آذناً لي بالدخول إليه.

          

حين دخلت الى مكتب وزير الداخلية السيد (سعيد قزاز)، شاهدته واضعاً قدميه على صندوق صباغ يقوم بصبغ حذائه، لكن ما أن رآني حتى قام من مجلسه ماسكاً حافتي بنطاله بكلتا يديه كي لاتتسخان بالصبغ، وصافحني بحرارة طالباً مني الجلوس.
في بداية حديثه أبدى اعتذاره لي عن وجوده بهذا الموقف، وقد أذن لي بالدخول فوراً وهو بهذا الوضع كي لا يؤخرني. أدركت من خلال نبرته بالكلام أنه على علم بما حصل لي في المطار ومنعي من المغادرة وسحب جواز سفري.
قبل أن انطق بأية كلمة قال لي: ألم يخجلوا هؤلاء من فعلتهم؟!
أجبته قائلاً: أنها حكومتك يا استاذ... فأنا أملك جواز سفر رسمياً وسليم وفيه تأشيرة المغادرة، فعلى أي أساس تقوم (الحكومة) بهذا الإجراء مع أحد مواطنيها؟!.
لم يدعني أكمل الحديث، فقال:
لاحظ يا (نصير)، أنكم تثرثرون علينا كثيراً في الصحافة وفي مجالسكم.. بل وتتظاهرون ضدنا أيضاً.
قاطعته قائلاً:
وهل هناك من هو معكم؟!.... فالدنيا كلها ضدكم الآن، بما فيها البرلمان والصحافة البريطانية... فما الضير من وجود فرد مثلي لن يضيف شيئاً لو تظاهر ضدكم.
ثم قال: لكن هذا عمل خاطىء.
قلت له:
أو لم تقل في إحدى جلسات البرلمان، بأن العراق يتمتع بأقوى حكم ديمقراطي في المنطقة؟!..
ضحك واستدرك الموقف سائلاً إياي:
وهل تؤمن بكلامي؟!.
أجبته:
لاطبعا!.

                                    


قال: إذاً دعك من هذا الكلام، واذهب الى السيد (بهجت العطية) مدير التحقيقات الجنائية وحدثه بما جرى لك، عله يجد لك حلاً.. وإن وافق على سفرك فأعتبرني موافقاً.
قلت له: أظن أنك مسؤوله والأمر يصدر منكم.
قال: لا..بل من الافضل أن تذهب اليه بنفسك.
قلت: لن أذهب الى العطية، إذ لم يمضِ إسبوع على خروجي من الموقف، سمعت بأن هنالك أمراً صادراً بحقي يقضي بسوقي الى (نقرة السلمان)، ولو ذهبت اليه سينفذه بالتأكيد!.
سألني ضاحكاً: وهل تخشى (نقرة السلمان)؟!.
قلت له: إننا في فصل الربيع ومن الممتع أن أقضي أيامي هناك، لأنني قد سمعت عنها الكثير!.
ثم قال: لسانك هذا هو من جنى عليك.. ثم استدرك قائلا:
اخرج الان يا ابني واسترح خارجاً عند السيد فؤاد لحين مناداتي عليك..
بعد جلوسي في الغرفة نادى على سكرتيره (فؤاد) آمراً إياه بأن يتصل له بالعطية..ثم نادى علي وقال:
اذهب الى السيد (بهجت العطية)، إن وافق فخير على خير وستسافر، لكن اطمئن فلن يقوم بتوقيفك لكوني كفيلك.
قبل أن أهم بالخروج قال لي:
أمامك ساعة فقط لتذهب الى بهجت العطية، بإمكانك شتمنا فيها وفعل ماتشاء والتحدث بما شئت.. لكن بعد انقضاء تلك الساعة لن اضمن لك ماسيحدث.. ثم كرر قائلا: بعد الساعة ها....
أبديت تفهما لشرطه، ثم حدثته عن حقيبتي اللتين بقيتا في الطائرة.
فقال لي: راجع اليوم مقر الخطوط الجوية وأخبرهم عن أمر الحقيبتين، وإن لم تعودا اليك في هذا الاسبوع عُد الي لأدفع لك ثمنهما فوراً والتقدير من قبلك، وبطاقة السفر كذلك.
بعد هذا اللقاء ذهبت الى مقر (التحقيقات الجنائية)، لالتقي بمديرها السيد (بهجت العطية)..
حال دخولي للدائرة المذكورة طلبت مقابلة المدير، فأدخلوني الى غرفة معاونه السيد (نائل عيسى) الذي رحب بي ترحيباً كبيراً وطلب مني الجلوس.
بنبرة هادئة قال لي (معاون مدير التحقيقات الجنائية):
ابني (نصير) لا مانع لدينا من سفرك، لكن هناك شيء عليك الأخذ به بنظر الاعتبار كونك لاتزال موظفاً حكومياً وعليك أخذ الإذن من دائرتك لغرض الاجازة والسماح بالسفر.
(رغم أنه موجود في الأنظمة والتعليمات "على الورق" لكن ذلك الأمر لم يكن متبعاً في العراق، ففي حينها كان الموظف يسافر ويعود بحريته دون أن يأخذ موافقة بالسفر خارج العراق من وزارته).

          

قلت له: ثق أنني لو جئت لكم بما تطلبوه أقسم بالله أنكم لن تعيدوا جوازي.
حلف أغلظ الأيمان وقال: بل أنا من يُقسم بالله، لو جئت لي من دائرتك بإذن السفر سأعيد لك جوازك.
كررت قسمي وكرر قسمه حالفاً هذه المرة بالمصحف.
كان يتكلم بثقة من جانب اطمئنانه بتبليغ دائرتي بعدم منحي موافقة بالسفر فيما لو طلبتها منها، كي يضعني في موقف محرج.
كنت حينها قد اخذت (موافقة بالسفر الى خارج العراق) من دائرتي، وقد كنت أضعها في جيبي بتلك اللحظة!.
وبعد أن أنهى كلامه وحلف يمينه، أخرجت ورقة (موافقة السفر) اليه من جيبي ولوحت بها بوجهه قائلا: تفضل هذه الاجازة مع موافقة السفر!.
مسك رأسه بكف يده وقرأها.. ثم قال لي بوضع مرتبك من دون أن ينظر بوجهي:
تفضل وادخل على (أبو غسان) "قاصداً به السيد بهجت العطية".. دخلت عليه فوراً كي لايسبقني بتبليغ ما فعلته معه!.
المدى / نصير الجادرجي

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

660 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع