هكذا ادركت مقهى الزهاوي.. مفارقات الشاعر الزهاوي في مقهاه!!

      

  هكذا ادركت مقهى الزهاوي.. مفارقات الشاعر الزهاوي في مقهاه!!

       

في اوائل القرن العشرين تزايد عدد المقاهي. لم يكن السهر في الاماكن العامة ميسورا بسبب بدائية طرق المواصلات في بغداد.
كان  لكل محلة ـ حارة ـ مقهى او اكثـر حسب حجمها وكثافة سكانها.. كان رجال  كل  محلة يمضون الامسيات حوالي الساعتين يتناولون خلالها اقداح القهوة  المرة،  ويتسلون بلعب الطاولي والدومينة وما اشبه، وفي الصباح قد يتوجه البعض الى المقاهي ايضا لشرب «القنداغ” اي الماء المغلي بالسكر، وربما لنفث «النرجيلة”وذلك قبل الذهاب الى اعمالهم، ولم يكن الشاي قد شاع استعماله انذاك كان مقهى (امين) في محلة (البولنجية) في رصافة بغداد احد هذه المقاهي.

بولان: اسم المحلة فارسي، يعني: اكاف الحمير والبغال ويقال لصانعه بولنجي. كان صانعو الاكاف يتعاطون عملهم فيها.. وهي تحتوي الان على سوق الهرج ومستجدي باتا كركر واسماء خاتون واللذين هدما، ومقهى”البولنجية”وحمام البتلخانة، ويجتاز هذه المحلة الشارع المسمى بشارع حسان بن ثابت.
وبعد فتح الشارع الجديد (916م) في بغداد والذي عرف لاحقا باسم الرشيد اضحى المقهى يطل على شارعي حسان بن ثابت والرشيد فزادت اهميته.

                         

في تلك الفترة كان (جميل صدقي الزهاوي) يتردد على مقهى يقع في منطقة الباب الشرقي وكان يعرف في العصر العباسي باسم باب كلواذا ـ حمل اسمه، وتحول الى منتدى ادبي.
اقيم المقهى ضمن البقعة التي تضم قبر (غولج باشا) القائد الالماني الذي توفي في العراق في الحرب العالمية الاولى، ودار (كورنواليس) المستشار الانجليزي لوزارة الداخلية العراقية.

                    

كان المقهى بسيطا، يضم بضع اشجار من التين والكرز وفونغراف (حاكي) يقدم الاغاني الشائعة في ذلك الوقت.
وصفه (رفائيل بطي) ـ احد رواده ـ في مذكراته غير المنشورة، فقال:”كنا نجلس ـ بضعة افراد ـ منتحين زوايا وواسطة عقدنا الشيخ الزهاوي وقد حسر رأسه، وجلس ينشدنا احيانا من جديد شعره، وغالبا ما يحدثنا عن مقامه العظيم في عالم الفلسفة وبحوثه وآرائه.. ثم يطرفنا بما جاءه من الرسائل التي تنشد فضله وتنثر المديح حواليه وهو يتحدث بلهجة المقتنع بصحة ما يقول .. اما انا فكان اكبر موقفي التأمين على صحة ما يقول او السكوت في استغراقه لحظة من لحظات الدهر".

                                        

وفي اوائل الثلاثينات دعاه نوري السعيد ـ السياسي العراقي البارز ـ وعندما استفسر عن مكان اللقاء اجابه:
ـ مقهى امين.. البولنجية.
كان المقهى يحتل موقعا”استراتيجيا”فهو يقع قرب سراي الحكومة وكانت المنطقة تضم بيوت الشخصيات المتنفذة في ادارة العراق.. بينها بيت السعيد، الذي تولى رئاسة الوزارة بعد ذلك نحو ثلاث عشرة مرة!

               

اعجب (الزهاوي) بالمقهى، واكتشف انه لا يبعد كثيرا عن داره.. فاتخذه مقرا، فنسي الناس اسم صاحبه واضحى منذ ذلك يحمل اسم الزهاوي.
كان المقهى يؤلف جانبا من تفاصيل المجتمع البغدادي، فهو المكان الذي ترتاده شرائح اجتماعية متنوعة ـ وبينها فئة”الافندية”التي لعبت دورا في حركة التنوير والنهضة والوعي الاجتماعي يمتاز مقهى الزهاوي بان معظم رواده من اهل الادب والثقافة والسياسة والفن.
ولكل من هؤلاء زاوية يعرفها عمال المقهى ورواده.

                                        

يذكر(عمران موسى) احد المعمرين المعاصرين، انه كان يشاهد رجلا حنطاويا نحيفا، متعب العينين، ذا شعر ابيض، يراه كل صباح يجلس في مقهاه، وهو يتأبط حزمة من الصحف والكتب يعرفه الرواد باسم (جميل صدقي الزهاوي) وكثيرا ما كان ينام وهو يطالع كتابا داخل المقهى.
حدثني احمد حامد الصراف (1985-1909م) ـ الاديب والمحامي وامين سر الزهاوي ـ ان صاحب مقهى الباب الشرقي جاء الى الشاعر وعاتبه لهجره مقهاه، وعرض عليه ما يشاء من الليرات العثمانية الذهبية لكن الزهاوي رفض العودة الى مقهاه الاول.

            

كان الرصافي من رواد المقهى قبل القطيعة النهائية بينه وبين الزهاوي، حيث تحول الرصافي الى مقهى”عارف آغا”المقابل لمقهى استاذه.
في مقهى الزهاوي جرت المصالحة الشهيرة بين الشاعرين الكبيرين بوساطة ابراهيم الحيدري ـ شيخ الاسلام ـ وعبد العزيز الثعالبي ـ الزعيم التونسي ـ ومنه انتقل الجميع الى دار محمود صبحي الدفتري القريبة من المقهى حيث جرت معجزة الصلح، والذي تحول الى حدث تناولته الصحافة الادبية بالتعليق والتحليل!
طاغور والزهاوي
وعندما زار رابندرانات طاغور العراق (1932م) كان مقهى الزهاوي بين الاماكن التي زارها.
كانت زيارة طاغور من اعراس بغداد، فلقد سبقته شهرته، كونه اول شرقي ينال جائزة نوبل (1913) وكجزء من تكريمه اختير الزهاوي لرئاسة الاستقبال والتكريم.. وعندما تعانق الشاعران العملاقان في مدينة خانقين الواقعة قرب الحدود العراقية ـ الايرانية رحب احدهما بالآخر.
قال الزهاوي:
اهلا بشاعر الهند الملهم وحكيمها العظيم!
فأجابه طاغور:
واهلا بشاعر العرب الغرّيد وفيلسوفهم الحكيم!
ومن هناك استقل الموكب القطار الى بغداد.. لتبدأ المهرجانات الادبية احتفاء بطاغور حيث اتيحت الفرصة للجمهور العراقي للاستماع الى قصائده الرائعة يلقيها بالبنغالية ـ لغته الوطنية ـ ويشفعها بترجمة انجليزية.
اقام طاغور اسبوعا كاملا في بغداد، كان حافلا بالنشاط الثقافي.
وصف انور شاؤول ـ الاديب العراقي الذي كان احد اعضاء لجنة الاستقبال، طاغور بانه كان طويل القامة، ممتلئ الجسم، يلفه جلباب قمحي اللون، فضفاض، تسترسل على صدره لحية بيضاء عريضة وهو ماد الينا يديه، يتطلع بعينين شهلاوين واسعتين يشع منهما بريق ساحر. اعجب الضيف بمقهى الزهاوي العابق بالجو الشرقي وازيز النرجيلات وقرقراتها وسحره”الحامض”الذي يفضله العراقيون على الشاي.
واحتفاء به قدم محمد القبانجي حفلة من المقامات العراقية، ازدحم الجمهور لسماعها، ومشاهد شاعر الهند.
في مقهى الزهاوي كتب طاغور بعض قصائده الرقيقة، بينها القطعة الآتية:
ايها الرحالة، اينبغي ان ترحل؟
الليل ساج، والظلمة تمحي فوق الغابة.
المصابيح تشع في شرفتنا والزهر كله ترقرق ريان غضا، والعيون الفتية تستيقظ هادئة.
هل ان وقت الظعن؟
ايها الرحالة اينبغي ان ترحل؟
لم نحط بايدينا الضارعة قدميك.
ان ابوابك مشرعة وجوادك المسرج قائم امام الباب.
لئن حاولنا ان نعيق مرورك، لم نعمد الى ذلك بغير اغنياتنا.
لئن حاولنا ان نثنيك عن الرحيل، لقد توسلنا الى ذلك بعيوننا فحسب.
ايها الرحالة اننا عاجزون عن استبقائك، وليس لدينا سوى الرحيل.
اي لهب لا ينطفئ البتة، يتألق في عينيك!
اي حمى قلقة تعدو في دمك
اي نداء من الظلمات يدفعك
ان كنت لا تحفل بالمجالس الهازجة بالسرور، وكنت تتشوف الى الهدوء، واهن القلب، فلسوف نطفئ مصابيحنا ونسكت معازفنا.
ايه ايها الرحالة، اي روح مؤرقة تناهت اليك من جوف الليل ثم لامستك.
كان للزهاوي تقاليده وعاداته في مقهاه.
وكان كريما خاصة مع الادباء، فاذا لمح احدهم يدخل نادى صاحب المقهى بصوت عال، متحشرج:
ـ امين..امين.. وير.. لاتاخذ فلوس الشاي!
وكلمة وير تعني على حسابي!
كان الزهاوي يرتجل الشعر ويبتكر الطرائف، وقد سجل النقاد والادباء الذين اعتنوا به ـ وبينهم: د. يوسف عز الدين، بعد الرزاق الهلالي، د. ماهر حسن فهمي، وعبد الحميد الرشودي، طائفة من هذه النوادر.
يروى انه تلفت يوما في مقهاه، فلمح تلميذه عبد القادر المميز صاحب جريدة”أبو حمد”الفكاهية فقال على البديهة:
قد جاءنا”ابو حمد"
يمشي كمشية الاسد
قد طابت القهوة لي
صب يا ولد! صب يا ولد!
ويروي العارفون ان احد اسباب القطيعة بين الزهاوي والرصافي ان الاخير كان يلقي احدى قصائده الجديدة في هذا المقهى وسط حماس انصاره، مما اثار غيظ استاذه، فما كان من الزهاوي الا ان نادي صبيا دخل المقهى حاملاً المكسرات في طبق ليسأله بصوت مرتفع.
ـ عندك قميص شبابي، على حجمي؟
تضاحك الحاضرون ونهض الرصافي غاضبا، بعد ان قطع انشاده، ليغادر المقهى بلا رجعة!
مسرح الزبانية
بعد رحيل الزهاوي ظل المقهى محتفظا باسم الشاعر، والطريف ان ابراهيم ادهم الزهاوي (1900-1960) ـ ابن اخ الشاعر ـ وهو شاعر ايضا له ديوان طبع بعد رحيله بعناية د. عبد الله الجبوري (القاهرة 1969)ـ ظل مواظبا في التردد على المقهى، وكان قد ساجل عمه عبر الصحف خلال العشرينات لاعتراضه على بعض افكاره.
وبقي المقهى منتدى وساحة للندوات والنقاشات الادبية والثقافية.. وفي اواخر الاربعينات والخمسينات اتخذته فرقة الزبانية للتمثيل مقرا..
كانت الفرقة تضم رواد المسرح العراقي وبينهم حقي الشبلي، ناجي الراوي، حميد المحل، محمد القيسي، جميل الخاصكي، ناظم الغزالي ـ المغني الشهير ـ كامل القيسي غازي التكريتي.
حدثني حميد المحل ان الفرقة كانت تقوم بتجاربها (بروفاتها) داخل المقهى، بعد ان تضع ستارة بسيطة، غير ان عددا من الفضوليين، كانوا يبذلون المستحيل من اجل مشاهدة تلك العروض التي كانت تقدم في ثانويات الرصافة المختلفة.
زاوية لكل فئة
واتخذ الخطاطون زاوية لهم في المقهى، فكان يتردد عليها هاشم محمد، سلمان الخطاط، نبيل نور الشريف، صبري مهدي وغيرهم.
كان الخطاطون يتبادلون الآراء ويعرضون جديدهم ومشكلاتهم على”صبري”و”هاشم".
ولرواد المقام العراقي زاوية ايضا، ارتادها شيوخهم امثال: الملا حسين البابوجي، شلتاغ، احمد زيدان، محمد القبانجي، يوسف عمر، عبد القادر النجار، وعبد الرحمن خضر.
ولقراء المناقب النبوية الشريفة زاوية يرتادها: حافظ مهدي، الحاج محمود عبد الوهاب، وعبد الرحمن توفيق، محيي الدين الخطيب، علاء القيسي، وملا بدر الاعظمي.
ومن الشعراء والعلماء ارتادها: محمد بهجة الاثري، خيري الهنداوي، خضر الطائي، كمال الجبوري، كمال الدين الطائي، علي الفراتي، انورعبد الحميد السامرائي، واكرم فاضل.
ومن رجال السياسة كان من روادها: جعفر ابو التمن، سعيد فهمي، صادق البصام، حسين جميل، وعبد الفتاح ابراهيم.
ومن الصحافيين نوري ثابت الملقب بحبزبوز، عبد الستار القرغولي، ثابت نعمان، توفيق السمعاني صاحب جريدة”الزمان”عادل عوني صاحب جريدة”الحوادث”زكي السلامي الشاعر ورئيس تحرير مجلة الاذاعة والتلفزيون، عبود الكرخي الشاعر الصحافي.
الجواهري والزهاوي
قال الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، وكان من رواد المقهى: ان الزهاوي التفت الي ذات يوم ليقول لي بلهجة التحدي:
ـ افندم تتراهن؟
ـ علي ان اقطع نفسي، وتقطع نفسك والساعة حكم بيننا.
الشيخ الزهاوي على وقاره ومكانته، والجواهري الشاب وفي مقهى حافل، وعلى منضدة تتوسطهما، وقد وضعت ساعة في وسطها، وكلاهما يبدأ باشارة ليقطع نفسه، وتطلعت العيون اليهما، وحبست الانفاس وانتفخت الاوداج والعروق واحمرت الوجنات وجحظت العيون، وابتدأت ثواني الساعة تمر بطيئة متكاسلة، واخيرا يستسلم الشاب ابن السابعة والعشرين بكل حيويته وقوة قلبه ويأخذ النفس وهو يثب على كرسيه ويقول:
ـ يا أستاذ كفاية!
لقد كسب الزهاوي ابن السبعين الرهان وخسر الجواهري الشاب!
استأذن الزهاوي في الانصراف، ونادى على النادل”يا ولد تعال خذ فلوسك". واسرع النادل وكان الحساب بالانات الهندية، فعد الجالسين واحدا واحدا ليدفع عنهم انة، انة مستثنيا من يكرههم او يكرهونه، صنع ذلك بتحد، يبين في ومضات عينيه وفي خلجات وجهه، ولم يستطع واحد من هؤلاء المساكين ان يعترض، ولماذا يعترض؟ انه رجل يدفع حسابه، ويا لفظاعة المنظر حين يدخل كل منهم يده في جيبه ويدفع عن نفسه.
حكاية قصيدة للسياب
في وائل الخمسينات اتخذه بدر شكر السياب واحة. فيه كتب العديد من القصائد والردود والمناقشات التي كان ينشرها على صفحات مجلة”الآداب”وغيرها من المجلات.
على هذه الطاولة كتبت”المومس العمياء"!
قال لي السياب وهو يستعيد ذكرياته في مقهى الزهاوي.
كانت المنطقة ـ سيئة السمعة ـ تقع على مرمى السياب الى المقهى، واثناء مرور السياب الى المقهى، لفتت نظره”عمياء يقودها صبي”تقف على الرصيف.. وبعد ان جمع شيئا من المعلومات عن مأساتها خلدها في قصيدته الشهيرة”المومس العمياء".
وفي الستينات كان للشاعر عبد الامير الحصيري (1942ـ 1978) حلقة يرتادها مجموعة من الشباب بينهم طارق ياسين، قتيبة عبد الله، خالد يوسف وفالح عبد الجبار.
كان الحصيري ينفث النارجيلة ويتحدث ويسخر من موجة الشعر الجديد الذي كان انصاره قد اتخذوا من مقهى البلدية ـ القريب مقراً لهم.. لكن هذه الحلقة لم تدم طويلا، فلقد انتقل الحصيري بعدها الى مقهى الشابندر (بشارع المتنبي) ولم يقتصر الجلوس في هذا المقهى على العراقيين، فلقد احتضنت كراسيه: احمد حسن الزيات (صاحب مجلة الرسالة)، ود. زكي مبارك، ود.عبد الرزاق السنهوري ـ القانوني المصري الشهير، وعبد الله المشنوق ـ الاديب اللبناني اللامع، وعلي الطنطاوي وغيرهم.
حدثني د. اكرم فاضل (ت1987م) ان اديبا فرنسيا يدعى ليكي كان من رواد هذا المقهى وقد الف كتابا عنوانه”عالم واحد”اثناء جلساته الطويلة فيه!
وفي السبعينات والثمانينات اتخذه محمود العبطة ـ وهو محام واديب ـ مقرا له وكانت حلقته تضم مجموعة من اهل الادب والمقامات العراقية والقانون معا.
اهذا كل شيء؟!
يصعب اختزال مكان احد شهود قرن كامل حافل بالاحداث.. شاهد رأى وسمع الكثير.
آه لو نطقت جدرانه المتكاملة!!

الدكتور جليل العطية

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

873 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع