أزقة بـغــداد واسواقهـا .. كما يصفها امين الريحاني في اوائل الثلاثينيات

       

أزقة بـغــداد واسواقهـا .. كما يصفها امين الريحاني في اوائل الثلاثينيات

    

كأن الجسور في كل المدن مغناطيس  القلوب، أو كأنها شباك للغرام. وقد يكون فضلها أو إثمها في المياه الجارية  تحتها، في رائحة الأنهار القَرقفية أو رائحة البحار الزنجبيلية، فتبعث في  النفس نشوة يعقبها سكرة — سكرات!  وقد يكون فضلها او اثمها في دنوها من  الاجل المحتوم المقدر، أي من المكان الذي يصلح من الانتحار.. (واوله سقم وآخره قتل).

 إن كثيرًا من الأنهار عند الجسور بأوروبا تشهد بصحة قول ابن الفارض. أما دجلة فلست أدري إذا كان قد شهد مرةً هذا النوع من نهاية الحب. ولست أدري إذا كان أهل الغرام في أيام ابن جهم كانوا يؤثرون الجسور للمواعد على المتنزهات والبساتين. إنما كانت هناك مواعد، ولا ريب، واجتماعات.

   

وما فقدت بغداد هذه المزية الاجتماعية، الغزلية في الأقل، حتى في عهدها الأخير يوم أمَّها ابن جُبير. ولا عجب — وهو الأديب الأندلسي — إذا أشار إلى ما للماء من الفعل بالقلوب في قوله :
والحسن الحريمي بين هوائها  
هواء بغداد  ومائها ينشأ
هي من ذلك على شهرة في البلاد معروفة موصوفة ولكنه على غير عادة الاندلسي يتخوف من فتنة الهوى (إلا أن يعصم لله منها). إلا أن يعصم لله منها. وفي بيت ابن جهم؛ إذ يقول : من حيث أدري ولا أدري، أن أمره الآن لا يجلب همٍّا، أو يستوجب اهتمامًا. إنما هناك سؤال لا بد في هذا الموقف منه

              

ما الذي أكسب بيت ابن جهم الشهرة وضمن له الخلود؟ المكان بين الرصافة والجسر أم عيون المها؟ وهل كانت حِسان بغداد يسفِرن عند الجسر يا ترى؟ وهل كانت مجازفة ابن جهم شعرية خيالية أم واقعية؟ هذه المسائل جديرة بالنظر، وقد تدعو للمستحَب من البحث. وقد تثير الجدل.
ولكن هناك حقيقة لا تقبل الجدل والبحث، وهي أن الصوب الشرقي من بغداد لا يزال يُدعى باسمه القديم — الرُّصافة — المخلَّد في بيت ابن جهم، كما يُدعى الصوب الغربي بالكرخ. إن هاتين الناحيتين قديمتان اسمًا ورسمًا. أما النواحي الأخرى فهي حديثة في هندستها وفي أسمائها. كان عدد سكان بغداد في زمن العباسيين يبلغ ألفي ألف نفس؛ أي مليونين. وكانت المدينة مقسمة إلى سبع عشرة ناحية. إنما بغداد اليوم تختلف في تقسيمها، كما تختلف في إدارتها، وعدد سكانها لا يتجاوز الثلاثمائة ألف نفس.
والمدينتان — مدينة اليوم ومدينة الأمس — تتشابهان من هذا القبيل. فإذا استثنينا الشارع الجديد، شارع الرشيد، وبعض الأحياء الجديدة، يجوز أن نقول إن كل الجادَّات في الرصافة وفي الكرخ تفتقر إلى النور، والهواء النقي، والنظافة، والتفريج. « بيوت متراصَّة متعرِّجة، في جادات ضيقة متعوجة، ما رأيت مثلها في المدن العربية الأخرى التي زرتها. وهي تتعجج من القتام والأنام.

       

  والبغدادية العاملة السافرة هي في عنجَرتها مثل البغدادي. رأيتها وهي جالسة على الأرض، وأمامها بعض الخضر تبيعها، ورأيت أحد المارين يتعثر بطرف منديلها المفروش. وسمعتها تصيح به، وتصب عليه جام غضبها، بلغة ممتازة في علم المسبات. كأنها أخُذت من إحدى رسائل الخوارزمي إلى بديع الزمان الهمذاني. أين عينك،يا ملعون الوالدين؟ حرمك لله الرجلين! يا ابن الطريق، يا ابن البطريق، لله يضيق طريقك! لا أظن أن بين نساء العرب من هن أذرب لسانًا، وأمضى بيانًا من البغدادية.
ولا أظن أن ببغداد من يفوقها في بلاغتها الذابحة، إلا أن يكون الشحاذ البغدادي.سمعت أحد أولئك الشحاذين يردد آيات من الكتاب، وهو جالس على مزبلة في الجادة، ثم يسأل قائلًا: أين أهل الصلاح؟ أين الكرام وُلد الصباح؟ أين بحر الجود؟ نقطة منه يا معوِّد، نقطة ولا تزوِّد. وما كان ثمة، في ذاك الصباح، أحد من المعوِّدين، فقد رأيت شحاذًا آخر، في جادة أخرى جالسا عند الحائط وقد رفع يديه وفك عينيه ويصيح : اللعنة عليك يا بغداد وعلى ذكرك وعلى اهلك، الدود ياكل عظامك يا بغداد وعظام ابنائك! النار والشط والوبا عليك وعلى بنيك فلا يبقى منك ومنهم غير الرماد والتراب!

                 

وما استوقف مع ذلك أحد المارين، ولا استرعى نظر أحد السامعين.إنما هناك صنف آخر من المستجدين، ولهم في المهنة لغة غير اللغة التي أسمعتك أمثلة منها. ومع أن التقوى تتمشى بين أضلعهم، والورع يتساقط شِعرًا من أفواههم،فالناس قلما يقفون، وقلما يسمعون. هاكم درويشًا يرفع صوتًا كصوت ربابة في خابية، ويشدو الشعر شدوًا محزنًا،وفيه الغزل والحنين، وفيه أن كل شيء يزول، ولا يبقى غير وجه ربك القيوم.هو صوت سمعته ذات يوم في محلة الشيخ، فاستوقفني وأنا أكتب في غرفتي، فوقفت في الشرفة، فإذا بدرويش في قارعة الطريق يحمل عصًا طويلة، وصحنًا من التنك.

                  

ورأيت العربات تسير إلى يمينه وإلى يساره، دون أن تدنو منه، كأنه شرطي. وكان إذا سمع صوت بوق السيارة يرفع عصاه — هو درويش ضرير — فتميل السيارة عنه، ويستمر هو في طريقه وشدوه! إنه ليشجي هذا الصوت، وإنه ليُبهِج. هو يبهج أهل الحب؛ لأنه يردد من أصوات الماضي ذلك الصدى الخالد، صدى ما صفا من الروحيات والذكريات. وهو يشجي؛ لأنه يمثل طيفًا من الأطياف التي يرسلها الماضي شاديةً في شوارع بغداد المسيرة اليوم بأصوات — وقل بسياط — العمل المرهقة، بتكاليف الحياة المدنية المادية.
 إنما هناك، في قلب المدينة، الذي لا يمسُّه الشارع الجديد بعامل من عوامل المدنية الغربية، أصوات من الماضي يظهر أنها أبدية. هي الأصوات التي تُسمِعك إيَّاها المطارق تطرِّق النحاس، والمنافخ تنفخ في نار الصاغة والحدادين. وهناك في قلب بغداد، يمشي العمل الهوينا مشية الورع القَنوع، ولا يماشيه الهم، ولا يزاحمه التكالب. هناك يجري في عروق العامل والتاجر والصائغ والصانع؛ ذلك الدم الذي يجري في عروق الدرويش.وإن كان الشعر لا يجري على ألسنتهم كما يجري على لسانه، فإن لغة قلوبهم هي كلغة قلبه من قاموس واحد، هو قاموس القناعة والوداعة.
وهناك أيضًا تتجسم تلك الظاهرة العربية — الشرقية — التي تناقض العبارة الذهبية، وهي أن النظافة من الإيمان. ولعمري إن بين الإيمان والنظافة — إن كان في الدراويش أو في الصاغة — وهدة سحيقة. وهاكم في السوق المثال الحي النابض لما في العامل العربي من الصبر والمثابرة، ومن التجويد والجمود، ومن الذوق والإهمال، ومن الورع والوداعة والقناعة والقذارة.
تعال فأريك أجمل الأشياء من ذهب وفضة تُصنع أمام عينيك، تصاغ وتصقل في أماكن فُرشت بالغبار، وطُليت بالدخان، وازدانت بالعنكبوت. ليس الولد صاحب المنفخ من العبيد المناكيد. هو أسود الوجه واليدين، ولكنه عربي من الفتيان البيض، تراه مقرفصًا أمام النار ينفخ بها، ويمسح عينيه بطرف قميصه الدكناء، وترى سيده في ثياب الزيات يمسح العرق من جبينه بالمنديل الذي يستعمله لمسح جواهره، وهو ينقش سوارًا، أو يدق قطعة من الذهب على السندان.
وهذه امرأة في عباءة وحجاب تجلس على حافة الدكة، إلى جانب رُكمة من الفحم والرماد، ثم ترفع طرفًا من حجابها وتلقي السلام وتلوم، فيعتذر الصائغ إليها، ويقسم بالله إنه ما نسيها، ثم يفتح خزانة صغيرة، ويخرج منها صندوقًا جميلًا من النحاس المطعَّم، ثم يُخرج من الصندوق منديلًا أدكن كان في قديم الزمان أبيضأ و أحمر، فيفكه ويأخذ مما فيه قرطين من الذهب المنقوش مرصَّعين بالماس، فيرفعهما بالإبهام والبنصر أمام السيدة، ثم يمسحهما بطرف المنديل، ويقدمهما قائلًا: حلَّت البركة. فتتناولهما باسمة شاكرة، وتربطهما بطرف منديلها، ثم تفك الطرف الآخر وتدفع ثمنهما ذهبًا وفضة، ثم تنهض وتمشي، ولا تبالي بما قد يكون لصق بثوبها من وسخ المكان.

               

  قال رفيقي الأديب البغدادي، ونحن نمشي في تلك السوق المسقوفة ذات الدكاكين الدُّكن والجواهر الثمينة: إن المياه في الشتاء تجري فيها كالساقية، فتستمر الأشغال مع ذلك ولا أحد يبالي. وقد يكون هناك يومئذ الرجل الذي يحمل دكانه في عبِّه، وهو جالس — كما رأيته — على الأرض وظهره إلى الحائط، وأمامه منديل مفروش وميزان صغير.قد يكون هذا التاجر بالحي هناك في اليوم الماطر، إلى جانب الساقية، وهو ينتظر الرزق من كرم ربه.
أتقول، أيها القارئ: إن ما شاهدناه في سوق الصاغة أو سوق الصفارين، لا يُستغرب في مدينة شرقية قديمة كبغداد، تعال إذن! ليس في أحياء الفقراء بلندن أو نيويورك أو بمباي، على ازدحامها، وقذارتها، وظلماتها، وفساد الهواء، وفظاعة الحياة فيها، ما يفوق ما ستشاهده في الخان الذي نسير إليه هو خان تلْكَيف وهو من أوقاف بغداد. بناء مربع، ذو طابقين وصحن كبير مكشوف، حوله صفوف من الحجرات الصغيرة المظلمة، الشبيهة بالأكواخ. وفي كل كوخ عائلة لا تقل عن ثلاثة انفس او اكثر، وفي الصحن مرابط للدواب فيلعب الاولاد بين حوافرها وبين الحمالين والمكاين ويتلقنون منهم اللغة التي اسمعتك نموذجات منها من فم البائع والشحاذ.

                      

كان مستشار الأوقاف يومئذ الرفيق الدليل، فسارعت النساء إليه شاكيات متظلمات. وما شكون الازدحام والمقاذر، وما شكون صياح المكارين وروائح المرابط، ولا شكون دخان الجيران والأوساخ التي تُلقى في الإيوان؛ إنما لفتن نظر المستشار إلى جدار يتداعى أو إلى باب لا قفل له ولا مزلاج، أو إلى قسطل ماء مسدود أو مكسور، أو إلى سقف تتساقط أخشابه. وجاءت إحدى النساء تحمل ثلاث آجُرَّات، وتقول: إنها سقطت على أولادها وهم نيام، ثم كشفت رأس أحدهم تُرينا الجُرح فيه.
وكنا، ونحن نمشي في الإيوان، نرى النساء أمام أكواخهن يقمن بأشغالهن البيتية: يغسلن الثياب، يشببن النار، يخبزن، يطبخن، يرضعن أطفالهن.
إن مدخل الخان كمدخل القلاع عميق مظلم، وإلى جانبيه بضعة خروق لا يتجاوز الواحد عشر أقدام عرضًا، ومثلها طولًا، ومثلها علوٍّا. هي كذلك للسكن. وقد استوقفتنا امرأة هناك، جاءت تحمل طفلًا على صدرها وتقول للمستشار، وهي تومئ إلى أحد تلك المآوي، إن أجُرته ثماني روبيات كل شهر، وهي لا تستطيع أن تدفع أكثر من خمس،وترجوه أن يأمر بالتخفيض. فوعدها خيرًا.
قلت: خان تلكيف من الأوقاف. والوقف في التعريفات هو ومَن أجدرُ بالصدقة يا ترى من هؤلاء البؤساء. ولكن للأوقاف.« والتصدق بمنفعته إدارة هي على ما يظهر مثل إدارة الشركات المالية. لا روح لها، ولا قلب، ولا عين غير تلك التي ترى الأرقام، وتعد الأموال. ومن هذه الأموال ما هو مخصص بالمساجد فلا
يُصرف في غير سبيلها. وفي المساجد من فضل ربك ما لا يجده البائس الفقير في بيته، أو في حيه، أو مدينته. المساجد هي الملجأ اليقين، والميناء الأمين، ملجأ الأتقياء والأغنياء والأشقياء والمتشردين. وميناء كل ذي وزر ثقيل وأمل دفين. فالحمد لله أن في بغداد أوقافًا يُحبس بعضريعها، وإن كان من دم الفقراء، على هذه الأماكن المقدسة التي هي لجميع المؤمنين.

                                

وكان المؤذن في مأذنة جامع الحيدر خانة يؤذن الظُّهر، وكانت قباب الجامع في شمس الظهيرة تشع وتتلألأ، فيبدو الأصفر خلال زرقتها كالذهب على طبق من اللازورد. وكانت مياه الشاذروان في صحن الجامع تتناثر كالفضة. وكانت الرحبات الهادئة والظلال الناعمة تبدو من الباب كأنها من لدن الرحمن، وهي تلوح للمارين أن ادخلوا آمنين.
دخلنا فإذا نحن في الصحن المبارك، والهواء فيه نقي كالنور وكل ما فيه منعشكالهواء. مكان رحب نظيف شريف هو للغني والفقير على السواء. وهناك ما هو فوق ذلك في المكرمات. هناك داخل الصحن، في الجامع تحت القبة اللازوردية، عين السكينة وروح السلام. هناك البحر الإلهي الذي تغرق فيه — ولو إلى حين — دنيا الهموم والأحزان البشرية.
ما رأيت في جمال بغداد — وما أقله بعد نهر دجلة وضفتيه! — مثل ذاك الجمال الفني في قباب جوامعها، ومثل هذا الجمال الروحي تحت القباب. وليس الذهب في حاجة إلى التذهيب. سأمسك اليراع في الإفاضة إذن، وأكشف لك ناحية مجهولة من نواحي الفن في صناعة كادت تضمحل. أنت تسمع — وقد تكون عالمًا — بما يسمونه خزف الرقة. وقد لا تحتاج إلى من يزيدك علمًا بما كان للعرب في الأندلس من المهارة والذوق.
تعالَ ندخل المعمل في جامع الحيدر خانة، وذلك الجمال في القباب والمآذن إنما هو منه. ها هنا المدهشات، وخصوصًا لمن كان منذ ساعة في سوق النحاسين، وأول المدهشات النظافة التي لا نتوقعها في مَن يلعب بالتراب والأصباغ. النظافة ثم الترتيب ثم الإتقان. وربُّ المكان هو ربُّ هذه الفضائل كلها، التي ورثها، كما ورث الصناعة، عن أبيه، عن جده، إنما لا يذكر إلى كم جيل من آله تعود، وما يدريك! قد يكون الأستاذ من سلالة أحد أرباب هذه الصناعة في الرقة أو في الأندلس.
 هو شيخ في العقد السادس، ومعه ابنه يتعلم ويساعده ليحسن استخدام الإرث الثمين، وإنه على سنه يعمل مجدٍّا فيشرف على كل فرع من فروع هذه الصناعة التي تبدأ بخلط التراب والرمل، وتنتهي بالاستواء. وهو نفسه يصنع الأصباغ، وجلها من الأزرق اللازوردي والأصفر العصفري، وليس فيها شيء مجلوب. ليس فيها أصباغ كيماوية غير التي يصنعها من التنك والزجاج، إذا صح أن يُدعى هذا المزيج مزيجًا كيماويٍّا.

أذِن لنا بالدخول إلى غرفة الأصباغ، وفيها ركام من صناديق التنك، والقناني المكسرة، والرصاص. وفيها آلة هي كالجاروش من حجر، وأخرى من حديد، فبعد أن تُجرش المواد وتُطحَن، تُذاب بالماء، وتوضَع في مواعين فوق النار لتغلي، ثم تنقل إلى الشمس لتجف، فتُفَتت بعد ذلك وتُمزج بالزيت فتغدو صِباغًا.ومن مدهشات هذا المصنع أن رجلًا واحدًا يقوم فيه بالأعمال الأساسية كلها. فهو الطيان، وهو الصباغ، وهو الرسام الفنان. ولا بأس برسومه التي تشتمل على أشكال هندسية، وأخرى نباتية. وهاك السلَّم في عمله. فبعد أن تُصنع الآجُر وتُشوى، يصبغها، ويرسم عليها الرسوم، ثم يعيدها إلى النار، فيعمل اللهب بالألوان عمل الشمس بالغيوم المذهبة والمفضضة. فيُذيب اللون الواحد فتبدو في حواشيه ألوان منه فرعية ناعمة ناعسة. وبكلمة أخرى تتشبح الألوان فترق، فتظن، وأنت تعجب بها، أنها دُهنت بريشة فنان ماهر.
    
عن كتاب (قلب العراق) للريحاني

  

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

621 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع