دور السينما في بغداد (ذكريات وشجون)

           

    دور السينما في بغداد (ذكريات وشجون)

        

امتازت حقبة سنوات الاربعينات والخمسينات ولحد اواخر السبعينات من القرن المنصرم بوجود وانتشار العديد من دور عرض الافلام السينمائية في بغداد وبعض من ضواحيها ومعظم دور السينما كانت متواجدة في منطقة الباب الشرقي وشارعي السعدون والرشيد حيث كان العراقييون وبعض العوائل الكريمة ترتاد هذة الدور لقضاء اماس ممتعة وخاصة الدور التي كانت تعرض الافلام الهادفة والرصينة , وكان موزعو الافلام يتسابقون ويتنافسون فيما  بينهم لجلب احدث الافلام واجودها , وكل منا يتذكر في صباه بعض هذه الافلام.   وتعود بنا هذه الذاكرة الى سينمات بغداد وخاصة المتواجدة في قلب بغداد - الباب الشرقي - 

  

فهذه سينما الملك غازي كانت تعرض الافلام الاجنبية وقد شاهدت فيها فلم العبقري شارلي شابلن (اضواء المسرح) في الخمسينات وكذلك فلم (حرامي بغداد) وهو  فلم امريكي مستوحى من قصص الف ليلة وليلة من بطولة الممثل الهندي (سابو) وقد هدمت هذه الدار عند توسيع حديقة الامة قرب ساحة التحرير . وفي الجهة  المقابلة لها كانت تقع سينما تاج وقد هدمت هي الاخرى لتوسيع الشارع المحاذي لها , وعلى مقربة منها كانت تقع دار سينما النجوم وسينما ديانا وقد ازيلتا ايظا لتوسيع مراب وقوف حافلات منشاة نقل الركاب وبالقرب منها سينما الرصافي وكذلك سينما دار السلام التي سميت بعد ذلك سينما غرناطة بعد تحديثها,  وعلى بعد امتار منها تقع سينما الشرق الصيفي حيث كانت تعرض افلام  الموسيقار محمد عبد الوهاب .

  

ونذهب الى شارع السعدون حيث تتواجد  سينما السندباد وبعدها سينما اطلس وفي الجهة المقابلة من الشارع تقع سينما النصر وكانت تعرض فيها الافلام العربية والاجنبية الحديثة . علما ان الفنان الراحل عبد الحليم حافظ احيا على مسرح هذه السينما حفلة غنائية عند حضورة الى بغداد في السبعينات , وعلى مقربة من هذه الدار  تقع دار سينما بابل,  ونعرج الى شارع الرشيد حيث كانت تقع دار سينما الحمراء الصيفي على مقربة من تمثال الرصافي وكانت تعرض فيها الافلام العربية وقد عرض فيها اول فلم عراقي صميم هو فلم (فتنة وحسن) من تمثيل الرائد المرحوم ياس علي الناصر واخراج حيدر العمر وقد ازيلت هذه السينما وانشى ء مكانها عمارة لوقوف السيارات مع مكاتب تجارية , وعلى بعد امتار منها كانت سينما الحمراء الشتوي وقد ازيلت ايضا ومكانها اصبح ضمن بناية البنك المركزي العراقي

                     

وكانت تعرض فيها الافلام العربية الحديثة ومنها فلم لحن الخلود للموسيقار فريد الاطرش ومن الجدير بالذكر ان فلم (جعلوني مجرما) من تمثيل وانتاج الفنان الراحل فريد شوقي وقد منع عرضه في السينما من قبل لجنة فحص الافلام السينمائية التابعة لوزارة الارشاد في حينه , وقد حضر الفنان المذكور الى بغداد للتوسط لدى السلطات المعنية لعرض الفلم المذكور وقد نجح في مسعاه وقد تم عرض الفلم في دار السينما المذكوره اعلاة  بحضور الفنان فريد شوقي الذي داعب جمهور الحاضرين بدعابته المشهورة التي كان يطلقها في افلامه المتعددة  (وشرف امي) وو قف على مسرح السينما يحي الجمهور .

  

وفي يوم من ايام هذه الفترة الجميلة  كنت واقفا امام دار هذه السينما ومر موكب ملك العراق المغفور له (فيصل الثاني) وهو جالس في سيارته ((الرولز رايس))  السوداء يرفرف في مقدمتها علم العراق الخفاق وفي مقدمة الموكب راكبي الدراجات النارية من شرطة المرور وعددهم سته فقط وكان الملك الراحل يحيّ جمهور الواقفين على جانبي الشارع من نافذة السيارة بابتسامته المعهودة  و وجهه اللامع البراق ,  هكذا كان موكب ملك العراق بسيطا في كل شىء فليس هناك حماية له من حرس وسيارات مصفحة كما هو الحال في مواكب مسؤولينا عندما يخرجون نادرا الى الشوارع امامهم وخلفهم السيارات المصفحة تحمل عشرات الافراد من حرس الحماية مدججين بالسلاح ويطلقون العيارات النارية في الهواء لفسح الطريق وكانهم ذاهبون لتحرير فلسطين السليبة .

  

ونسير في هذا الشارع التراثي الجميل النظيف الى ان نصل الى اسواق  (اورزدي باك) كما كانت تسمى في ذلك الزمن الجميل وعبق الماضي الساحر , وكانت هذه الاسواق تتالف من طابقين تحوي كافة البضائع التي يحتاجها المواطن العراقي قبل ان تصبح تابعة الى لوزارة التجارة خاصة بتبضع موظفي الدولة فقط من الحاجات الضرورية كتوزيع الحصه التموينية لهم في زمن الحصار الظالم , وفي الاونة الاخيرة اصبحت مراب مظلم لتصليح السيارات ولك عزيزي القارئ ان تقارن اين اصبحت بغداد من ذلك الزمن الذي كان عمال النظافه واجهزة امانة بغداد يجوبون هذا الشارع مساء كل يوم لتنظيف  ارصفته ورشها بالماء بواسطة السيارات الحوضية حيث فقد هذا الشارع في الزمن الراهن جماليته ورونقه وبهجته واصبح مسرحا لعربات وصيحات الباعه المتجولون  وطفح مياه المجاري والامطار التي تغرقه طوال فصل الشتاء في (شبرمية) اضافة لتكدس النفايات . وتقع امام تلك الاسواق مارة الذكر دار سينما الوطني ذات الواجهة التراثية وزخرفتها الرائعة .

                   

واذكر اني شاهدت فيها الفلم العربي (قلبي دليلي) بطولة انور وجدي وليلى مراد وكذلك فلم (دموع الحب) للموسيقار محمد عبد الوهاب وفلم  (الازمنة الحديثة) لشابلن الذي يسخر فيه من تحكم الالة بمقدرات الانسان , وتجاورها سينما الرشيد التي كانت تعرض الافلام الاجنبية الطويلة ذات الواحد والثلاثون فصلا (مرة واحدة) والذي يستغرق عرض الفام منها اكثر من ساعتان ونصف ,

  

وعلى بعد امتار منها في الجهه المقابلة كانت سينما علاء الدين وتقع قرب (المقهى البرازيلية) ملتقى كبار الادباء والشعراء امثال عبد الوهاب البياتي والسياب وبلند الحيدري و سعدي يوسف و جبرا ابراهيم جبرا وغيرهم . وكانت تعرض الافلام الايطالية ومنها فلم  (سامحيني) و (سارق الدراجة) للمخرج فيتوريو دي سيكا  وفي الزقاق المقابل لها تقع سينما الرافدين الصيفي وعلى مبعدة منها تقع سينما الزوراء في منطقة المربعة ذات الواجهه الجميلة والزخرفة الرائعه وفي نهاية شارع الرشيد يقع مجمع سينما روكسي حيث يضم ثلاثة دور لعرض الافلام وهي سينما روكسي الشتوي و سينما ركس و سينما روكسي الصيفي اضافة الى كازينو جميل

     

وعلى مبعدة امتار في منطقة السنك تقع سينما الخيام وهي من احدث دور العرض وتمتاز بجدارياتها الفنية الرائعة تحاكي اشعار عمر الخيام , حيث تعرض فيها احدث الافلام الاجنبية التي تنال الاقبال الشديد وتعود بنا الذاكرة الى شارع الملك غازي الذي سمي في العهد الجمهوري بشارع الكفاح وفي ساحة (الوصي) نسبة الى الوصي عبد الاله والتي سميت لاحقا ساحة النهضة وفي ركن منها تقع سينما الفردوس الشتوي التي كانت  تعرض فلمان في ان واحد احدهما عربي والاخر اجنبي وبالاسعار نفسها وفي منطقة الصدرية تقع سينما الفردوس الصيفي وكانت تعرض فيها الافلام الهندية القديمة (الاسود والابيض) منها فلم (جابك والي) ونعرج الى منطقة الفضل ذات الطابع الشعبي حيث هناك سينما مترو بشقيها الشتوي و الصيفي يعرضان الافلام العربية و الاجنبية ويرتادها سكان تلك المنطقة بكثافة , كما كانت هناك في شارع الامين دار سينما تدعى (سينما دنيا) وقد هدمت في الخمسينات لتوسيع شارع الجمهورية (شارع الخلفاء)، وقد استحدثت بعض دور السينما في ضواحي بغداد في فترة لاحقة منها سينما المنصور و في الاعظمية دار سينما اصبحت فيما بعد مسرح لعرض المسرحيات خاصة مسرحيات الفنان سامي قفطان وكذلك في منطقة البياع لفترة من الزمن

      

ولا بد لنا ان نتحدث عن منهاج هذه الدور في الاعياد حيث كانت تعرض في الحفلات الصباحية افلام المغامرات و(الاكشن) وافلام رعاة البقر (الويسترن) وهرقل و طرزان وهذه الافلام كانت تستهوي وتروق لفئة الصغار حيث يهرعون لمشاهدتها . اما الحفلات المسائية فتعرض الافلام العربية و الاجنبية ذات المستوى الجيد  , وبالنسبة لاجور الدخول للسينما في ذلك الوقت فقد كانت زهيدة كما هو الحال في ( ايام الخير ) فقد كان الموقع امام الشاشة لا يتعدى الخمسون فلسا والمواقع الاخرى بسعر سبعون , وتسعون فلسا  كما كان سعر المقصورة  ذات الاربعة كراس وتسمى ( اللوج ) وهو خاص لجلوس العوائل (360 فلسا)  وكان باستطاعة الشخص ان يدخل الى السينما ويتناول وجبة سريعة مع اجور النقل من والى مسكنه ولا يتجاوز من صرف اكثر من ربع دينار ( 250 فلسا) فما احلى تلك الايام . والجدير بالذكر ان منهاج عرض الافلام في العهد الملكي (الخمسينات) كان يبدا بعزف السلام الملكي حيث تظهر صورة الملك الراحل (فيصل الثاني) يرفرف بجانبة علم العراق ويقف جمهور الحاضرين احترام وتحية للعلم وبعدها تعرض جريدة العراق الناطقة تستعرض انجازات الدولة في حينه وبعدها تعرض المقدمات للافلام المقبلة مع فلم كارتون (ميكي ماوس) وبعدها يعرض الفلم الرئيسي , هكذا كان حال دور السينما عزيزي القارئ في تلك الفترة الذهبية في بغداد ,  ودارت الايام  حيث عزف الجمهور عن ارتيادها واهملت تماما وهي الان في حال يرثى لها واصبح معظمها اماكن لخزن البضائع و مراءب لتصليح السيارات وبعضها اصبحت مسرحا لعرض بعض المسرحيات التجارية الهابطة بعد ان كانت تزدهي باضوائها ورونقها و روادها و متنفس للعوائل العراقية لقضاء اجمل الاماسي واحلاها ويذلك فقدت بغداد احد معالمها الثقافية فيا لسخرية القدر وقسوة الايام وغدر الزمان.

الكاتب: عبدالوهاب ناجي أحمد الجبوري

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

633 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع