شذرات من ذكريات سالم حسين الفنية

   

       شذرات من ذكريات سالم حسين الفنية

  

             


(1) مع عفيفة اسكندر

لقد رحلت عفيفة واستراحت من زمن المُهين الى عفيفة  في صيف 2005 حضرت السيدة الفنانة الكبيرة عفيفة اسكندر الى دمشق قادمة من بغداد في زيارة خاصة بها. وفي امسية وصولها رن تلفون شقتي في ضاحية القدسيا في دمشق واذا بالمتحدث الشاعر الكبير الاستاذ مظفر النواب امد الله في عمره وانعم عليه بالصحة التامة ليقول لي ان السيدة عفيفة تريد ان ترى الفنان سالم حسين (سلومي) فسررت لهذا النداء التلفوني واوعدته في غدٍ مساءً أنا فاستقبالكم جميعاً وفي مساء اليوم الثاني واذا بالسيدة عفيفة وهي تعانقني وتبكي زمانها فانطلقت مني هذه الابيات


 عبقت مرابعنااللطيفة......بأريج فنكِ يا عفيفة
 الشعر والفن الجميل.......وفيض الحانٍ خفيفة
 بغداد عاشت مثلها.........أيام هارون الخليفة
 اهلا وسهلا بالوجوه.........النيّرات وفي عفيفة

                     

وحين التفتُ الى الاستاذ مظفر النواب رأيته ينظر باستغراب الى الشاعر الغنائي السيد رياض النعماني الذي كان يرافق الشاعر الكبير دائماً في زياراتهما لي استدركت الأمر سريعاً واخذت في الاسترسال بالشعر فقلت
 وبصحبة الأدب الرفيع......وقائل الشعر البديع
 بمظفر النواب أكرم ..... بالرياض وبالجميع
 هناك صفق الجميع وصافحت من رافق السيدة عفيفة والاستاذ مظفر النواب وكان العدد كبير، وقد احضرت كامرة الفديو وما يمكن تحضيره لهذه السهرة الجميلة التي امتدت الى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، غنت بها عفيفة وغنى وعزف الفنان وعازف العود المبدع والملحن سليم سالم ومن حضر الامسية، وقبل تناول العشاء كانت لي اسئلة طرحتها على السيدة عفيفة كيف بدأت حياتك الفنية ومتى وكانت كامرة الفديو تسجل الحديث والكل يستمع الى هذا السفر الممتع..فذكرت:

ان اول ظهورها كطفلة تذهب مع والدتها (ماريكا دمتري) التي تعمل في ملهى كراقصة في مدينة اربيل، وكانت ترقص وتغني قبل ظهور والدتها على المسرح والاغنية المحببة لها هي اغنية لبنانية ظهرت في اوائل الثلاثينيات على اسطوانة باسم (زنوبة زنوبتنه راحت ماودعتنه يامصيبة يامصيبتنه على فراكك زنوبة) ولم تغني او تحفظ او تؤدي اي اغنية عراقية، إذ كانت الاغاني العراقية في ذلك الوقت تتطلب الصوت الكامل والمعرفة للغناء والمقام ومطربات قديرات على الغناء أمثال....

            

سليمة مراد اي سليمة باشا والمطربة زكية جورج والمطربة منيرة الهوزوز وجليلة ام سامي وبدرية انور وصديقة الملاية وغيرهم.
كان الفنان اسكندر عازف الكمان للفرقة التي ترافقها اثناء الرقص والغناء وكانت تظهر لاكعمل فني اذ ان عمرها لايسمح لها ان تكون فنانة تعمل في الملهى انذاك لكنها كطفلة تظهر احيانا بالحاح السيد اسكندر الذي اقترن بها اخيراً وتزوجها ولم تنجب منه اي طفل وان ابنة اسكندر الحقيقية هي الفنانة انطوانيت اسكندر التي عملت مغنية في ملهى الاوبرا في الباب المعظم جنب سوق هرج في بغداد هذا ما ذكرته لي السيدة انطوانيت ابنة السيد اسكندر عندما زرتها في بيروت بعد اعتزالها العمل الفني وطلبت مني ان تسجل اغنية عراقية من تلحيني على اسطوانة وفعلاً تم ذلك والاغنية (بوية محمد) ولكن المقام غير المقام الاساسي اذ غيرته الى مقام العجم لنعمل به موسيقى موزعة هارمونيا وشاركني في العزف مع الفرقة الموسيقية العازف الكمان الشهير الاستاذ عبود عبد العال وتم التسجيل باستوديو شلهوب في بيروت العام 1960م.

                       

انتقلت السيدة عفيفة الى بغداد بعد ان اكتمل عودها ونضجت فنيا واصبحت مغنية تلهب اكف من يستمع وينظر ويتذوق اللحن الجميل والخفيف اذ كان يطلق عليها المنلوجست الحسناء عفيفة اسكندر، وكانت تنتقي الشعر الجميل واللحن الخفيف والسريع في ايقاعه وموسيقاه والتف حولها كبار شعراء الغناء وكبار الملحنين وكانت بحق (فاتنة بغداد) كما جاء في المسلسل الذي تحدث عن حياة عفيفة اسكندر فظلمها واساء لهذه الفنانة التي ظهرت في زمن جميل برجاله وعلمائه وادبائه وشعراءه وفنانية ومجتمعه المتذوق اذ كان المسلسل بعيداً عن حياة عفيفة اسكندر من الناحية الفنية والناحية الاجتماعية ارجو المعذرة من السيد علي صبري فكانت مسلسل (فاتنة بغداد) ومن قام بالغناء ووضع الموسيقى لهذا المسلسل لاصلة بعفيفة بهذا اللون فهو للمطربة الكبيرة سليمة مراد.
هناك كتب ومجلات تكتب عن حياة الفنانات والفنانين في ذلك الوقت فالكتب التي صدرت في بغداد (قيان بغداد) وكتاب (الطرب عند العرب)  لمؤلفهما الشاعر القدير والشاعر الغنائي المعروف الاستاذ عبد الكريم العلاف الذي امتد به العمر وزامل الكثير والعديد من الفنانات في بغداد، والكتاب الاخر هو (مغنيات بغداد) للسيد كمال لطيف سالم وكلها تتحدث عن عفيفة اسكندر وكتاب (الموسيقى والغناء في بلاد الرافدين) لكاتب هذا المقال والذي يتحدث به من زمن السومرين الى هذا الزمن استحق عليه جائزة الابداع وقدمة رئيس اتحاد المؤرخين الاستاذ الدكتور حسين امين صدر العام 1999. وهناك مجلات كثيرة عراقية كمجلة (قرندل) للسيد صادق الأزدي، فكان على كاتب المسلسل ان يذهب الى تلك المصادر او ياخذ ممن يملك ويحفظ او من الصحف والمجلات الاخرى التي كانت تصدر في ذلك الوقت ولو ان اكثرها كانت ادبية وسياسية واخبارية وشعرية ففي الصفحات الاخيرة لبعض الصحف تكون هناك كتابات لبعض الكتاب عن الحياة الفنية كذلك كتب عن بعض الفنانين والفنانات في اواسط الاربعينيات في مجلة (أبولو) عندما توليت تحريرها وادارتها والتابعة الى شركة (سومر السينمائية) لصاحبها السيد حسن الشاوي.
عفيفة اسكندر من الشخصيات الفنية الكبيرة فهي تملك الجمال والتذوق والكمال في جميع مراحل حياتها الفنية وكانت محبوبة من جميع الناس سواء النساء أم الرجال، صريحة في حديثها وجريئة لم تركن الى شيء لاتحبه فكيف ينسب لها التجسس والعمالة وهي بعيدة عن ذلك،

           

نعم احبها الكثير من المسؤلين مثل السيد بكر صدقي وغيره لكنها لم تكن جاسوسة عليهم، فبغداد في الثلاثينيات لم تعد كبيرة في سعتها وسكانها كما هي الان فكل شخص فيها ومن له شهرة سواء كان سياسياً او عالماً او أديباً او شاعراً او فناناً او صاحب مطعم او مقهى او اي حرفة من المعروفين عند أهالي بغداد الذين لاتجد عندهم سراً يذكر فكل احد يعمل اي عمل تلقاه منتشراً في بغداد يتحدث فيه القاصي والداني وان السفارات الاجنبية لاتحتاج الى جواسيس فالكل مكشوفة باحاديثها وباعمالها لايخفى على احد شيء. كان الكثير من الفنانات يصادقن بعض رجالات الدولة او الضباط او رجال شرطة وهذا ليس بالغريب ولكن لم تجد من لها ارتباط في سفارة او جهة معينة.
كانت عفيفة تحب المطالعة والأدب والشعر وكان يوم الجمعة صباحاً هو يوم الندوة الثقافية في فيلتها الجميلة في بارك السعدون انذاك وقد حضرتُ احدى هذه الندواة التي تجمع العديد من رجال العلم والادب والشعر والحديث وكان يدير هذه الندوات السيد المحامي عباس بغدادي صاحب كتاب (بغداد في العشرينات)، وقد احبت عفيفة بغداد حباً لاحدود له وطرحت عليها الهجرة مراراً ورفضت عندما سافرت خارج العراق حتى في ايام خراب بغداد ولم تقنع رغم المغريات الكبيرة فأثرت البقاء في بغداد رغم ما بها من حروب ودمار وصواريخ حتى في زيارتها لي في سوريا عرضت عليها البقاء فاعتذرت وعادت الى بغداد والصيف الشديد الحرارة وتقول تعجبني بغداد وحرها الشديد وبردها القارس.
عفيفة كانت نبراس المسارح في بغداد وقدوة فناناتها علاوة على ماتملكه من جمال فهي انسانة رقيقة كريمة النفس عفيفة المنطق صاحبة نكتة ومقولة ضريفة كانت المساعدة الكبيرة لجميع الفنانين سواء كان ذلك ماليا او قضاء حاجة متعسرة فكأنها هي صاحبة الحاجة ولا تعتذر من احد بعدم مقدرتها على تلبية طلبه، اذا دخلت في بيت او حفلة رأيت المرح والابتسامة على شفتيها، هذه هي عفيفة عندما تغني تبعث النشوة في النفوس تملك الصوت المعبر والكلمة الطيبة..

(الله لو تسمع هلي .... واني بغرامك مبتلي الله)، (ياعاقد الحاجبين)، (حركت الروح لمن فاركتهم)، (يا حلو يا أسمر غنى بك السمر)، (هلك منعوك لو انت ابعدت عني..... هلك علموك كالولك تعذبني)، (جوز منهم لاتعاتبهم بعد جوز)، (يايمة انطيني الدربين لأنظر حبي واشوفه)، وغيرها وغيرها من الاغاني الجميلة كلاما ولحناً كثيراً ما شكنتني عند اصحابي والمعجبين بي وبالحاني وعزفي انها تكلفني في التلحين وعندما تسألني اين اللحن يجيبني (ولما اشوفك يروح مني الكلام وانساه) هذا هو سالم حسين معي دائماً مع انه ملحن كبير وقديروشاعر اغنية ايضاً رغم انه شاعر كبير ومعروف كلولي سأرد على كلامه هل صحيح ينسه كل شيئ عندما يراني، وهكذا نقضي ليلتنا او اي اجتماع لنا في الضحك والنكاة الحلوة الضريفة، وهكذا رحلت فنانة الزمن الجميل كما رحل قبلها من الفنانين الرواد الذين تركو بصمة فنية باقية على امتداد الزمن.

                                 

     


(2) سلمان شكر
قبل ان ندخل في وصف الليلة التاريخية والجميلة في حياة فنانا الكبير الاستاذ سلمان شكر.
ولد سلمان شكر في بغداد العام 1920 دخل معهد الفنون الجميلة في اول دورة له بعد ان انهى مرحلة دراسة الثانوية الاعدادية، وكما نعلم ان معهد الفنون كان يطلق عليه قبل ذلك المعهد الموسيقي، وقد افتتح هذا المعهد بدورته الدراسية الاولى العام 1936 وكان من الطلاب الاوائل الذين دخلوا هذا المعهد واهمهم من الذين استمروا في الدراسة والتدريس في المعهد المذكور بعد تخرجهم، هم الاساتذة جميل بشير ومنير بشير وغانم حداد وسلمان شكر، تتلمذوا على يد واشراف الموسيقار الكبير الاستاذ الشريف محي الدين حيدر ذلك الرجل الذي احدث ضجة في عالم العود بتطوير العزف على هذه الآلة الصغيرة الحجم والكبيرة العطاء في الموسيقى العربية.

التزم الاستاذ سلمان شكر بمنهاج دراسة الشريف محي الدين حيدر وحافظ عليها ولم ينهج الى مدرسة اخرى وكما يطلق عليها الطريقة التركية في العزف، وتخرج على يد الاستاذ سلمان شكر العديد من الطلبة مثل الاساتذة حسام الجلبي وعطا الحافظ والحاج معتز البياتي وعلي الامام وعبد الوهاب بلال وحمودي الوردي وغيرهم ممن لم تحضرني اسمائهم.
أسس فرقة خماسي العود البغدادي من كبار العازفين من خريجي معهد الفنون الجميلة الذي حمل هذا الاسم في العام 1940عندما فتحت في هذا المعهد فرع المسرح فرع الرسم والنحت، وقدم هذا الخماسي العديد من مؤلفات الاستاذ سلمان شكر مثل الغجرية الحسناء، وحورية الجبل، وكلكامش، وسماعي ماهور، كانت تقدم من الاذاعة العراقية موزعة هارمونيا واذكر من العازفين على آلة الكمان الاستاذ آرام تاجريان وعلى آلة الفيولنسيل (الجلو) الاستاذ حسين قدوري وغيرهم من الاساتذة، وفي منتصف السبعينات 1976 سافر الى لندن للتفرغ للبحث والدراسة عن كتاب الادوار لمؤلفة صفي الدين الارموي البغدادي (عاصر اوخر العصر العباسي واوائل احتلال بغداد من قبل هولاكو التتري) مع المستشرق البريطاني الموسيقار الاستاذ جون هايورد، وكان خلالها يقدم عزفاً منفرداً على العود في قاعات لندن الموسيقية وقد نال اعجاب الجمهور البريطاني ومن حضر من العرب والأجانب.
نعود الى ذكر تلك الليلة التاريخية في مسيرة هذا الفنان الكبير الاستاذ سلمان شكر وهي مشاركته بالعزف مع اوركسترا (لندن سمفوني) في قاعة (الملكة اليزابيث) في مساء 15/11/1983 كونسرت العود بمعزوفه موسيقية لموشح صوفي علق بأذن هذا الفنان الكبير فجعل منه معزوفة كبيرة قام بتوزيعها للفرقة السمفوني المستشرق البريطاني المستر جون هايورد، كنت انا مقيماً في لندن لوضع موسيقى لبعض الأفلام العلمية لأحدى الاستوديوهات المختصة بهذا الشأن كعلوم الطب وعلوم البحار وغيرها والتي استحسنت موسيقاي التي تجمع بين التأليف الموسيقي العربي الكلاسيكي والهيكلية العالمية. وبأشراف قائد الاوركسترا أي الفرقة الموسيقية التي تعمل مع هذه المؤسسة الفنية كنت انا وصديقيَ الحميمين رجل الأعمال المهندس والفنان السيد بطرس حنا بطرس ورجل الاعمال الوجيه السيد نزار الخضيري متحمسين لهذا العمل فكنا نشجع اصدقائنا من المقيمين في لندن على حضور هذه الحفلة الكبرى تشجيعاً لفناننا الكبير الاستاذ سلمان شكر، ولم يكن المطر أو الزحام الشديد يثنينا أو يعرقل وصولنا الى قاعة الملكة اليزابيث فكنا اول الداخلين الى هذه القاعة بعد ان استلمنا ورقة الاعلان والبرنامج الخاص لهذه الليلة الجميلة وقد ازددنا سروراً كبيراً عندما رأينا أسم الاستاذ سلمان شكر مدرج بهذا البرنامج الكبير مع عمالقة الموسيقى وكبارها أمثال بتهوفن وموزارت وشوبان وجون هايورد، ولم اتمكن من وصف شعوري عندما بدأت الفرقة بالعزف ونقرات العود الصغير الذي يحتضنه الاستاذ سلمان شكر بين هذا العدد من العازفين الكبار وقائدهم الذي يهتز منتشياً لهذه النغمات التي تنطلق من هذه الآلة الجميلة وكأن الكرسي لم يسعني ويسع فرحي ومن حضر الحفلة الجميلة، كان شعورنا بالفخر والمباهات من خلال العزف وما اعقبه من هتافات الحاضرين والأكف الملتهبة بالتصفيق الحاد وأريج الزهور الذي ملأ المسرح من المعجبين واكبرها حجماً باقة السفارة العراقية في لندن يقدمها سعادة السفير الدكتور وهبي القرغولي الرجل الذي يعشق الموسيقى والمقام العراقي، وعند فترة الاستراحة لم اتمكن من مصافحة الاستاذ سلمان شكر للزحام الذي احاط به الكثير من المعجبين العرب والعراقيين والأجانب الذين استحسنوا العزف وانتظرت طويلاً حتى اعلان الجرس لبدء الفاصل الثاني عندها تمكنت من الوصول والعناق مع الاستاذ سلمان شكر الذي كان يطير من الفرح كما يقال وهكذا كانت ليلة تاريخية في حياة هذا الفنان الكبير.
كان الفنان الرائد الكبير الاستاذ سلمان شكر مولعاً بقرائة الكتب القديمة وما فيها من نوادر وطرف واخبار فكنت ارتاح دائماً لأحاديثه وكان يرتاح لأحاديثي الضريفة المشبعة بالمرح وزياراتنا لبضنا ولقائاتنا مستمرة داخل معهد الفنون الجميلة وخارجه، كان يعشق اكلة السمك المطبوخ مع الصلصة (الصالونه) فكلما يشتاق لهذه الاكلة يذكرني بها قبل يومين او اكثر لاحضرها له ومن معه لزيارتي ، كنت قليل المشاركة في العزف معه لأوجه الخلاف الفني العلمي بيني وبينه فهو متشبع ومتطبع على طريقة استاذه الكبير الشريف محي الدين حيدر الذي احدث انقلاباً كبيراً في العزف على آلة العود الشرقية القديمة كما ذكر لي الاستاذ الموسيقار محمد القصبجي عند حضوري لمجلسه اليومي في حديقة المعهد الموسيقي في القاهره خلال زيارتي لها العام 1961 وكانت العقبة الوحيدة في عدم ارتياحنا في المشاركة (عربة السيكاه) اي (الكاربيمول) سواءً في عربة السيكاه او الاوج او العراق وبالأخص في المقام البياتي التي تعلقت بها أذني منذ طفولتي وانا استمع الى مطربي الريف في جنوب عراقنا الحبيب مثل ناصر حكيم حضيري ابو عزيز وداخل حسن ومسعود العمارتلي، ومقام الرست عندما استمع الى المطرب الكبير صالح عبد الحي والموسيقار محمد عبد الوهاب والسيدة ام كلثوم ، نعم الموسيقى التركية التذ بسماعها عزفاً وغناءً لعذوبتها وانسجامي معها كمستمع ينشد الراحة
والمتعة.
                     

مشاركاتي العزفيه مع الاستاذ الكبير سلمان شكر
اواخر صيف 1983 كنت في لندن وقانوني معي دائماً لايفارقني وكان الاستاذ الرائد سلمان شكر في لندن منهمكاً مع المستشرق البريطاني الموسيقار جون هايود في البحث عن كتاب الأدوار وموسيقى صفي الدين الارموي البغدادي كما ذكرت سابقاً وعلى التمارين بخصوص معزوفة لموشح ديني تعلق في ذهن الموسيقار سلمان شكر لوضع اصول الهارموني له واحضاره للمشاركة مع السمفوني من قبل المستر هايود.
وبدعوة لاقامة حفل موسيقي بمشاركة الاستاذ سلمان شكر تم ذلك في خريف عام 1983 بعد ان اجرينا تمارين كثيرة والاتفاق على المعزوفات المطلوبة والمرغوبة والتي صورها مركز البحوث البريطاني ليلتها ونحتفظ بنسخة منها الفيديو، وتبعتها دعوة العشاء من قبل السفارة العراقية في مطعم علاء الدين بلندن ولقائنا بالفنان العربي العالمي عمر الشريف واستمرار العزف من قبلنا نحن ومشاركة في الغناء من الدكتور سعدي الحديثي، والمشاركة الثانية في تلفزيون بغداد بعد عودتنا من لندن، اما المشاركة الكبيرة فكانت في مدينة المنامة عاصمة البحرين بدعوة من وزير الثقافة البحريني وحضور وزير الثقافة المغربي لزيارة البحرين السيد محمد بن عيسى وتوجيه الدعوة لنا لحضور مهرجان اصيلة الذي يقام في كل عام في العاشر من شهر آب (اغسطس) في مدينة اصيلة في المغرب ويحضر الكثير من مثقفي العالم سواء في الادب او الشعر او الفن ويستمر الى اكثر من عشرة ايام الا ان دعوتنا عُلّقت بسبب الاحداث التي مرت بالعراق صيف 1990 واعيدت الدعوة لنا ثانية في صيف 1991 وشاركنا بهذا المهرجان الجميل انا والاستاذ الرائد الكبير سلمان شكر وامضينا اياماً جميلة هناك متنقلين في مدن المغرب الجميلة والكبرى مثل مراكش،الرباط ،طنجة والدار البيضاء وفاس ومكناس، اغادير، جديدة، اسفي، تطوان وغيرها التي لم يحضرني اسمها برعاية وزارة الثقافة المغربية التي خصصت لنا سيارة خاصة وحجزت لنا السكن في الفنادق الكبرى انها الايام التي لاتنسى. واخر حضور لنا في حفلة اقامتها وزارة الخارجية ومديرية السياحة العامة في القاعة  الاشورية في المتحف العراقي في العام 1998. وبقية لقاءاتنا مستمرة في حضورنا اجتماعات اللجنة الوطنية العراقية للموسيقى. فرقتنا الاحداث التي مر بها عراقنا الحبيب في سفري خارج العراق.
رحم الله الاستاذ الكبير سلمان شكر الذي رحل جسمه عنا وبقيت آثاره ناطقة تشيد بفنه وأعماله الطيبة رحم الله من لبى نداء ربه وأطال الله عمر من بقي من الطيبين والعاملين بصدق وحب لبلدهم .

  

     

(3) مع لميعة توفيق
بعد غيبتي الطويلة التي أمضيتها في عواصم ومدن جميلة متنقلاً بين الاودية الخضراء والجبال الشماء ومياه الابيض المتوسط الزرقاء وبرامج بيروت المسائية , وسفري الميمون لأم الدنيا قاهرة المعز, وتجوالي على شواطئ نيلها وظرافة ناسها وشموخ أهراماتها وروعة أنغامها, وما قدمته من نشاط ونتاج فني وأدبي , عزز وثبت من حضوري الفني , في هاتين العاصمتين ( بيروت والقاهرة ) وبدعم وتأييد من عباقرة الفن والادب الذين احتضنوني بكل  التقدير الذي كان حافزا كبيراً لذلك النشاط المستمر .
عدت الى بغداد عاصمة الرشيد والامجاد وانا محمل بالكثير من الاعمال الفنية والابداعات التي لم يتسنى لنا القيام بها مسبقاً لفقدان المؤازرة من الدولة والافتقاد الى الخبرة الفنية ، واول ما قمت به بعد يومين من وصولي , وترحاب احبابي واصدقائي بي , هي دعوتي الى زيارة مبنى الاذاعة والتلفزيون واللقاء بزملائي الفنانين وبعض المسؤولين في هذا المبنى الكبير فاذا بصديقي الفنان (علاء كامل ) وعلي عبد الرزاق حسن مدير قسم الموسيقى في الاذاعة يسلمني امر تعييني عازفاً مع الفرقة المسائية الكبيرة ومسؤولا عن الانتاج الفني ورئيساً للفرقة الصباحية المنوط بها تسجيل الاغاني الريفية لمطربي الريف ، كوني من ابناء الريف ولي الحان ريفية جميلة , كما كنت قد سلمتهم بعضاً من تسجيلاتي التي تمكنت من الحصول عليها والتي سجلتها خارج العراق ، وقد اعجب الجميع بها عند الاستماع لها . وعند بدأ السنة الدراسية في معهد الفنون الجميلة طلب مني الحضور والتدريس في القسم المسائي لمعهد الفنون الجميلة حيث صدر أمر تعيني مدرساً في معهد الفنون الجميلة ابتداءأ من 12/11/1961 بوظيفة مدرسا لآلة القانون وتاريخ الموسيقى العربية والتراث الغنائي الشعبي  قد يكون ذلك بعضا مما كنت أتوقعه غير أني كنت منهمكا بما أحمله من أفكار ومشروعات في خدمة بلدي ومنها , فكرة تشكيل فرقه للفنون الشعبيه , والتي تشكلت من مجموعة من الهواة , اطلقت عليها اسم فرقة بغداد للفنون الشعبية ، اسوةً بفرقة الانوار للفنون الشعبية وفرقة الرحابنة في بيروت وفرقة رضا في القاهرة , التي كانت تشغلني عن أي شيء آخر.
رضيت بالدوام الصباحي في الاذاعة والتلفزيون وتسجيلاتهما وكذلك عازفاً في الفرقة المسائية في يومي الاحد والثلاثاء , ان لم يكن لي محاضرات في معهد الفنون الجميلة القسم المسائي . وبعد اسبوع تقريباً ( على ما اتذكر ) صادف تسجيل اغنية للمطربة الريفية الكبيرة لميعة توفيق مع الفرقة المسائية وكان دوام الفرقة يبدأ من الساعة 5 مساءاً حتى الساعة 8 مساءاً وكانت الفرقة الموسيقية والكورس والمطربة لميعة توفيق , كلنا بأنتظار الملحن المبدع محمد نوشي الذي تأخر عن الحضور بسبب نجهله , حيث كنا نتبادل الاحاديث والنكات الظريفة , انا والاستاذ الموسيقار روحي الخماش ، اذ قال لي :

" انا اليوم متنازل لك عن رئاسة الفرقة فشوف شغلك" ،

ولما عبرت الساعة 5.30 , علمنا ان الملحن لم يتمكن من الحضور بسبب وعكة صحية ألمت به ، مما دعاني الى الايعاز بأستراحة لمدة ربع ساعة  للفرقة والكورس , في الحانوت والعوده الى الاستوديو,( اذ لم تكن هناك لا كافتيريا ولا مطعم في هذا المبنى ) , كما طلبت من المطربة وشقيقتها حليمة توفيق التريث بعض الوقت في الاستوديو, فجلست اداعب اوتار قانوني بلحن ريفي خفيف , وعند اكماله اسرعت بنظم كلمات على ايقاعه السريع الجميل واخذت في تحفيظه الى كل من المطربة لميعة وشقيقتها حليمة التي سميت بعد ان قدمتها بلحن (ملايات الماي- أغنية حلوة وجميلة هالبلد) بأسم ( غاده سالم) فحفظ اللحن ونوطه الموسيقار روحي الخماش كمسودة يستند عليها بالعزف وطلبت من احد افراد الكورس ان يذهب الى المقهى القريب من مبنى الاذاعة ويأتيني بعازف الطبله الريفيه(الخشبه) عبد الرزاق طاهر هو وطبلته . وعندما حضر كنت قد اكملت الاغنية كلماتاً ولحناً (شوي شوي عيني شوي) فسألني ضارب الطبلة :" شلون ؟ "

فاشرت له مع تحريك يدي فقط واعني بها الفواصل من غير موسيقى او غناء لا كما استعملت بعد ذلك دون تنسيق ، وعند حضور الفرقة الموسيقية والكورس بدأنا بالبروفات وقد حفظت الاغنية من قبل المطربه لميعة توفيق ومن الفرقة الموسيقية والكورس والطبلة الريفية وكان مهندس الصوت في غرفته يوعز لنا بالتسجيل، واذا بالاغنية تسجل بدون توقف . فأثارت حينها ( لجمالها وسلاسة لحنها وكلماتها) , ضجة بين موظفي الاذاعة والعاملين ، فأذا بنا  نفاجأ بوجود المدير العام للأذاعة والتلفزيون بغرفة مهندس الصوت والتسجيل وبمعيته مدير قسم الموسيقى وبعض المذيعين يستمعون لهذا التسجيل.

وطلبت من المهندس فتح الصوت داخل الاستوديو لنستمع معا للأغنية .

وبعد الانتهاء من الاستماع منحت استراحة للفرقة وللفنيين , وطلبت منهم الحضور بعد 15 دقيقة الى الاستوديو اذ ان هناك لحناً اخر خفيفاً سنسجله ايضاً . كان لتفاعل الحضور ودعم المسؤولين وأهتمامهم , حافزا لي لأستثمار نشاط وحيوية الفرقة نتيجة لذلك , مما دعاني الى الطلب من المطربة لميعة , تسجيل لحن آخر , اذ قالت وعلامات الفرح والسرور بادية عليها " اني حاضرة للحفظ " . وفعلاً بدأت في وضع اغنية ثانية على طور السويحلي الذي تجيد غناءه المطربة لميعة توفيق , اذ انه غناء فالت بدون ايقاع , غير انني جعلته بنوعين البداية يغنى مع الموسيقى والايقاع الوحدة الكبيرة كلازمة واعادة الشعر في الكوبليه غناء على ايقاع الوحدة المقسومة ثم دخول الكورس بكلمات اخرى على نفس الايقاع (مشينا يمه مشينا نتلكا ساهي العين) . وبعد ان اتقنتها شعراً ولحناً وحضرت الفرقة الموسيقية والكورس فأذا بالاغنية تسجل بعد التمرين الاول عليها وكان التصفيق الحاد من قبل الكورس والمتواجدين في الاستوديو وغرفة التسجيل وقد علق الاستاذ روحي الخماش على ذلك الانجاز فقال :

" ان الاستاذ سالم حضر بغداد, مشحون الباتري بعبقرية ونشاط عباقرة الفن في القاهرة وبيروت ومندري شراح يتحفنا بعد " .

وبعدها علقت المطربة لميعة توفيق بأستغراب ولم تصدق نفسها انها تمكنت من تسجيل اغنيتين جميلتين بهذه السرعة كحفظ واداء وهي تقول :

" لم اكن اصدق نفسي ان هناك هكذا فنان ينظم ويلحن ويخرج في آن واحد وخلال ساعتين فقط ".
وانتهى الوقت والكل يتحدث عن هذا الانجاز الذي كانت نتيجته كتاب شكر في اليوم التالي من المدير العام للاذاعة , اذ لم يحصل ذلك من قبل في تاريخ الاذاعة , لا سيما وان مديرها عسكري . عندما كان في غرفة التسجيل قال بأعتزاز كبير " حصلنا على مكسبين كبيرين وجميلين هذا اليوم ، فشكراً لك ايها الشاعر والملحن والعازف والمخرج ايضاً" .
وما ان شاع الخبر حتى تلاقفته الصحافة  مرحبة بقدومي وعودتي من رحلتي الفنية الممتازة وما أثمرته من نتائج فنية مبهرة ,عبرت عنها بكلمات الاطراء والاشادة بما أنجزته . بعد ذلك تعاملت مع المطربة لميعة توفيق بأغنيتين ايضاً احداهما من كلماتي والحاني ( جنهم نسوني احبابك يا قلبي اليوم .. لا ودعوني ولا كالوا الله وياك ) وهي بمقطعين ومقامين من مقام الصبا والكورس مقام العجم واغنية رابعه من الحاني أغنية ( ماتكلي ماتكلي يا كلبي شبيك ما حد يحن ويداويك)
وهي من الحاني أيضا غير اني لم اجزم انها من كلماتي ، مع أني أمتلك ذاكرة أشادت بها الصحافة واخيراً في قناة البغدادية حيث ذكر الصحفي داود الفرحان في برنامجه يقول :" ضعف جسم الاستاذ سالم حسين إلا ذاكرته القوية والصادقة دائماً".
لميعة توفيق مطربة ريفية كبيرة من مواليد( 1931 - 1997 ) ،  تملك صوتاً جميلاً وحنجرة متمرسة ، كما انها تجيد غناء جميع الاطوار الريفية ، تعلمت الغناء من الموالد والافراح النسائية التي كانت تقام في المناسبات والاعراس عند النساء حتى نزحت الى المدينة ، أشتهرت بصوتها الجميل وأدائها الحسن بعد ان عملت في بغداد حتى اصبحت ربة عمل وصاحبة ملهى ، وكان روادها والمعجبين بصوتها يتلهفون لسماع صوتها الجميل عندما تغني في حفلة في احدى النوادي او المناسبات الوطنية او الموسمية ، قدمت عروضها في خارج العراق فعملت فترة من الزمن في لبنان وفي الكويت والخليج العربي وسجلت لها بعض الحاني في الكويت نسيت بعضاً منها ولكني أتذكر فقط أغنية ( ألوجن) بنغم يختلف عن نغمتها الاساسية ، لحن لها العديد من الملحنين ، وقد اشتهرت اغنياتها عربياً ، شاركت في الغناء بأفلام سينمائية ومسلسلات ريفية فهي احدى النجوم الغنائية العراقية الساطعة ( مثل زهور حسين ، ووحيدة خليل وغيرهن ) رفدت مكتبة الاذاعة والتلفزيون في العراق بمجموعة من اغنياتها ، كما أن لها في تلفزيون الكويت والوطن العربي أجمل الاغاني ولكافة الاطوار والالوان الغنائية ..... مما يوجب علينا ان نتذكر دائماً مبدعينا من النجوم اللامعة والساطعة في عالم الموسيقى والغناء والتأليف والتلحين والعزف ايضاً.
عن كتاب سيرتي وذكرياتي لسالم حسين
المصدر: المدى

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

951 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع