تلك هي - رواية للدكتور سعد العبيدي / الجزء الحادي عشر

       

تلك هي - رواية للدكتور سعد العبيدي / الجزء الحادي عشر

   

الظلام المخيف

يخيم على طريق الناصرية السريع سكون مريب، ظلام دامس ينتشر على طوله كرائحة مدبغة قديمه تهب عليها ريح، سماؤه تغلفها غيوم سوداء زادت من شدة الظلام والخوف، وجعلتها سماء كأنها لُفت بجناح طير عملاق، غطى منطقتها وما تبقى من العراق. 

القسم القريب من خطوط القتال التي خطها الاعداء القادمون من الغرب، تتجول في محيطه أشباح عسكرهم، لا يأبهون لمن يتخيلهم مدججين بسلاح فتاك.
كريم الأحسن حظاً من بقية أصدقاء ماتوا باسلحتهم كمداً لا يعير وجودهم أي أهتمام، بعد أن خَبرَ في المواجهة الميدانية، رغبة عند الزملاء في التوجه صوبهم طلباً للنجاة... وجودٌ بوجه عام لم يعد عائقاً لمسعاه في الوصول الى موطنه الناصرية، وإن آمن وزميله بالاشباح.
موحشٌ، خالية سماؤه من أسراب طيور، أعتادت التحليق مهاجرة من أواسط روسيا في مثل هذه الايام.
حُفرٌ متفرقة كونتها قنابل الحلفاء ...الاعداء، وحدها تؤخر المسير.
الحراس العراقيون لهذا الطريق الدولي السريع، ينسحبون شمالا، مشغولين بدعوى النجاة، وقائدهم الأعلى مشغول أيضا بكيفية النجاة، يخيمون بعيداً عن نصفه الاول، تحاشياً للاشباح، وربما استعداداً لجولات يقتصر رصاصها على الصدور العارية للابناء، يملأون نصفه الثاني مفارز مدججة بالسلاح، وما تبقى من دبابات الحرس الجمهوري الخاص، يقيمون على مساربه السيطرات، لا يَنفذُ منها كريم وزميله وان تسلحا بالجرأة والشجاعة ونباهة الاعذار.
العودة من حيث المجيئ، مع خيالات أشباح الاعداء، وأدعية الأمهات، خيار يحول دون تقديم أنفسهم لقماً سائغة لمن يريد تسجيل الانتصارات على الابناء، لانعاش معنويات الرئيس، والحصول على مكرمة منه قائداً لا يدانيه في مجالها رئيس.
لعبة حرب هذه، طرفاها الابناء والاسياد، مسرحها متعدد الادوار، مشاهدوها نزلاء سجن بلا اسوار، تزيد من الاصرار على الوصول الى الأهل، الأمل الباقي في حياة، ضاقت بها الخيارات والامال.
يقطع كريم فترة صمت عابرة بالقول:
- لا فائدة من الاستمرار بالسير في هذا الاتجاه، الطريق خطر، لا يمكن أن يفلت أحد من قوات الحرس الجهوري التي تمركزت على نصفه الثاني.
- تلك هي دبابة تي 72 يظهر ضياء السيارة العالي علامة لها حمراء تميز عائديتها للحرس الجمهوري.
يجيب سالم:
- والحل.
- العودة الى البصرة، ومنها أخذ الطريق العام الى العمارة فالناصرية، وان كانت المسافة أطول.
يؤيده سالم بالقول:
- صحيح، لنعد والله معنا.
المسلك الثاني الى الناصرية من البصرة، يمر عبر العمارة، يتبادل السيطرة على بعض أجزائه عسكر الجيش النظامي والمنتفضين، وقطاع طرق اختصوا بفن التسليب، يتقاسمونه حسب قوة السلاح الممسوك بأيادي سمراء، ونوايا مبيتة في عقول البسطاء. السائرون عليه، القادمون من شماله، يؤكدون تقاسمه انتصافاً بين الفرقاء، أخباره تنتشر سريعاً بين المتعطشين الى سماع الاخبار.
مدينة الهارثة القريبة من البصرة، يدخل اهلها سجل الانتفاضة الموسومة بشهر شعبان، سجلٌ عامرٌ بالاحداث فُتح رسمياً هذا الصباح، يخرجون الى الشارع، يتمردون على السلطان، يهتفون بسقوطه والحزب الداعم لوجوده، معهم أهالي الدير، يسيطرون سوية على ناقلات اشخاص مدرعة وثلاث دبابات من الرتل العسكري العائد من الكويت الى فرقته المدرعة السادسة في طريقها لأن تأخذ من المنطقة ثكنة لها، يستخدمونها لسد الطريق واقامة نقاط سيطرة بعد نفاذ عتادها، رمياً في الهواء، تُشعل اطارات قديمة في محيطها، علامة مميزة للتمرد وتدفئة بالمجان، يُفتش جميع المارين بها عنوة أو بالتراضي، فالأمر بالنسبة لهم سواء، يترجل المشكوك بهم، يحاكمون ميدانياً. وينفذ الحكم اعداماً في الحال لمن ينتسب الى الأجهزة الامنية وكبار البعثيين.
موقف حرج لمن يمر على هذا الطريق. النفاذ منه لثائر مثل كريم ليست مشكلة، وهو القادم من بصرة عدّها العالم هذا اليوم شرارة الانتفاضة ومنبعها الحصين. تحية ثوار يمسكون عصي وبنادق، وهراوات، واشادة بيومهم وجهدهم العظيم، يكفي لمرورٍ حافلٍ يصحبه هتاف، ورفع علم اخضر على باب سيارته كفيل بالتصفيق وتحميد السلامة، ومزيد من الهتاف.
المشكلة ما بعد الدير، الفرقة المدرعة السادسة تقيم نقاط سيطرة على الطريق، تشدد أجراءات العبور، تتسلم أوامر صريحة بالتعامل الميداني الفوري مع المشكوك بهم، أقله الاعدام، لكنها لم تعدم أحداً كما يشيع الثوار، تقوية لمعنويات زملائهم أو تورية لجر العسكر الى الانتفاض، لا أحد يُقر الحقيقة في مثل هذا الايام التي تحفظ كل دقيقة من زمنها سراً، ولا أحد يفرض أمراً على الثوار في هذا المكان الذي يعدونه ملكاً لهم وحدهم فيه يقررون المصير، يفرضون الأمر الواقع، هكذا هي قوانين الثورات بداية الحصول.
مجاهدو الهور لم يصلوا بعد، ليفرضوا رؤياهم وقوانينهم، وكبار القوم غير قادرين على فرض الانتظام، هم يقررون، جميعهم يقررون، يأمرون، يفتشون، يفعلون، يكرون ويفرون.
عسكر الفرقة المذكورة، يزيدون أجراءت التدقيق في أماكنهم، بعد مقتل مدير الهندسة العسكرية ومجموعة ضباط كبار قريباً من الجسر العسكري المنصوب لعبور الارتال إعداما من قبل مجهولين، لا أحد يستطيع الصاق تهمة القتل بثوار الانتفاضة ولا بمتسللين أو بمنتقمين.
آخر سيطرة للثوار تُحَذر سالكي هذا الطريق الاقرب الى مدينة العمارة بينهم كريم من ان الاستمرار بمواصلة السير على هذا الطريق مجازفة غير مضمونة، كلام يدفع كريماً الى التعليق:
- يعني لا أحد يتحرك عليه.
- هناك من يتحرك ذهاباً ومجيئاً، لكن على مسؤوليته.
- هل العسكر على الطريق من الجيش أو من الحرس الجمهوري.
- انهم من بقايا الفيلق الرابع، يتجنبون الاحتكاك بالجمهور، لكنهم يدققون بالهويات.
نقاش جاد عن سبل النفاذ المتاحة وتفادي المجازفة، يغلقه الثوار بالتأكيد على ضرورة عدم المرور على الطريق بهذه السيارة الحزبية، يفتحه خالد، الصبي ابن الرابعة عشرة من أهل الدير.
يتقدم خطوات من أصحاب النقاش، يقول بحماس:
- عمي ليس كل الطرق مغلقة، هناك طريق ترابي محاذي للنهر، جئت عليه قبل قليل بدراجتي هذه، لا يوجد فيه أي عسكري، وأزيدكم علم أن الجيش موجود على الطريق العام فقط، حول سيطرات نصبها حديثاً.
- (كفيلكم الله)، لا أحد من الجنود يبتعد عن الطريق العام لعدة أمتار، خاصة في الليل، أنا مستعد للسير أمامكم بعجلتي هذه، أوصلكم الى الشارع الذي تنتهي فيه السيطرات وأعود.
يلتفت كريم الى احد الثوار في نقطة السيطرة التي يديرها المنتفضون:
- هل ما يقوله صحيح؟.
- نعم صحيح.
- طيب، تعرفون هذا الولد، يعني أمين، لا يورطنا، نخشى أن نجد أنفسنا بحضن الرفاق.
- لا، أطمئنوا من هذه الناحية، فأبوه معروف، كان سجين الامن العامة قبل سنوات، هو في العادة لا يطيقهم.
- ما شي، لنتكل على الله.
- في أمان الله.
ينجح الصبي عبد الحسين في الاختبار الصعب، يوصل الحالم برغيف خبز حار وكوب شاي من يد الوالدة الحنون قبل انتصاف الليل الى ذاك الطريق ما بعد السيطرات، ينجح كذلك في العودة الى حضن الثورة سالماً على دراجته مع مسدس أهداه سالم، لأصغر منتفض أثبتت التجربة انه شجاع.

للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/43195-2020-02-11-11-00-44.html

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1358 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع