لابد لنا من فجر سيرة ذاتية في النضال القومي الاشتراكي / ح٦

   

 لابد لنا من فجر سيرة ذاتية في النضال القومي الاشتراكي /ح٦

           

        في عين الأحداث ١٩٧٠ - ١٩٧٤

    

(الصورة: في دعوة خاصة بيروت / 1972، من اليسار: أحمد، ضرغام، علي نادي، باقر ياسين )

مرات عديدة أعتورتني أسئلة رفاق أو مثقفين أو مهتمين بشؤون حزب البعث العربي الاشتراكي، فيما إذا كان الصراع جله أو بعضه طائفياً، والحق أقول إني لم أكن أتبين ذلك. لم أتبين الشأن الطائفي مطلقاً، فلم أكن منتبهاً لذلك، ربما كان كامناً ومستتراً، أو ربما انه كان أمر لم يخطر على بالي وأمثالي أبداً، فكما قلت في مكان سابق، أي أني لم أكن منتبهاً لمثل هذه الظاهرة. وبعض السياسيين في الشرق يعيش ويعمل داخل(Gulasch) كولاج (خلطة) من العوامل والعناصر، تختفي، بالاحرى تتراجع، ثم تتقدم، بل وتبرز وتصبح شأناً مهماً إذا وجدت الظروف المساعدة. وأنا أراجع الأحداث وأقيمها بعد مرور أكثر من خمسون عاماً عليها، لست في وضع يمكنني أن أدلي بإفادة تامة، ولكن من المؤكد أن حجم المنافسة الشخصية على القيادة كانت عنصراً مهماً وإن ارتدت ملبساً عقائدياً أو سياسياً يناسبها حيناً ويضيق عليها أغلب الأحيان !!!
نعم، كان هناك تفاوت في الموقف السياسي والنظري، ولكنه لم يكن الشأن الجوهري، بتقديري الشخصي. ولكن بموجب التطور اللاحق وحجم الأحداث والتطور التاريخي للوضع السياسي في سوريا وغيرها، أجد أن الإنحدار صوب هذه الأجواء يفسح المجال للتفسير، أن هذا العنصر (الطائفي) كان كامناً، وجرى أستخدامه بأنتهازية حقيقية، وإلا فأين البعثي من هذه السفاسف ؟ التي هي من الجراثيم المدمرة للمجتمعات العربية ويعرف ذلك كل بعثي ... فكيف حدث ذلك ؟ ولو لم تكن هناك بذرة لما نبتت هذه الشجرة الخبيثة السامة، أو أستعداد لتقبلها، ومن بين قناعاتي الراسخة اليوم أن هناك قوى وإرادات أجنبية (غير عربية) عملت على التحريض والتهييج ودفع الأمور إلى هذا المنحدر، وأستجاب لها ومن وجد في ركوبها مآرب ومنافع.

             

             (الرفيق الشهيد القائد محمد عبد الطائي)
من المؤلم القول، ولكن لابد من قوله ... أن مياه كثيرة جرت منذ المؤتمر القطري الأستكمالي العراقي 1963/11/11 عندما دخل العسكريون المؤتمر عنوة، الأمر الذي يشير إلى أهمية دور العسكريين في الحزب والذي سيتعاظم، بل وأكثر من ذلك بنظري، ألا وهو تمزق رباط كان مقدساً في الحزب، هتكت النواميس القانونية أولاً ثم الأخلاقية، للعمل الحزبي، يضاف إلى ذلك تطرف مبالغ به من كل من كان له رأي متميز، بأي أتجاه كان مخالف لرأي الأستاذ عفلق، وكان لابد من عقد مؤتمر يناقش المشكلات الأساسية في الحزب، ومنها تحديات نظرية وعملية ولكن لم يشأ كل طرف ذلك لانه لم يكن يريد أن يضع نفسه أمام التزامات جدية، فيدع الأمور تحتمل التسيب والتمدد ليأخذ حريته في التصرف، ويجري التصدي لكل رأي معارض للنظام الداخلي وتفسيرات يفضلها من يتحكم في الأمور، بل وأن آثار عمل الأجهزة (الأمنية والمخابراتية) تغلغلت حتى في الحزب. كل هذا إلى جانب أمراض قاتلة نوهت عنها أكثر من مرة، أبرزها الأستزلام والتكتلات والاتصالات الجانبية، وكان هناك في الحزب من يريد اصلاح ذات البين في الحزب، ولكن هذا الصوت بدا نشازاً أولاً، ثم مبالغاً ثانياً، وينطوي على خطرة فتح ملفات خطرة يفضل الجميع قفلها، وبالتالي فإن أي دعوى للنظر والرؤية الشاملة، كانت مدانة، ولكن الأخطاء تراكمت وتتراكم حتى يبدو لي أنها تزداد يوماً بعد يوم، حتى وقع المحذور مرة أخرى، وها نحن مرة أخرى نحتار بماذا نصف المحذور أو الأزمة: ثورة، انتفاضة، فرز، حركة تصحيحية !
حتى التسميات في الحزب أصبحت تصدر بمراسيم وقرارات، ومؤتمرات مركبة، تصاغ فيها القرارات سلفاً وكذلك الأسماء همساً ... من هم المرشحين ومن سيفوز. يا للأسف .. أين منها مؤتمراً مثل المؤتمر القومي السادس ..؟ والذي لم يعد أحد يقبل به، وتعرضت وثائقه للحك والشطب والحذف مرات عديدة وبدواع مختلفة، لم تبق من أصوله شيئاً يذكر ..!
نعم وقع المحذور، وها نحن في حيرة من أمرنا، مالعمل ؟

    

 (في حفل طلابي بدمشق 1971 من اليسار: ضرغام / ياسين، فوزي الراوي، حمادي الجميلي، أحمد صايل)

وأبتداء وقبل كل شيء: كان لابد من شجب الحركة بوصفها مخالفة للنظام الداخلي، وأن هذا الأسلوب لا يمكن القبول به مطلقاً، فهذا تصرف سوف يزيد في تعقيد مهمات الحزب ونضاله ومشاكله ولن يساعد على حل أي شيء، أن تأييد القيادة القومية والقطرية السورية ينطلق من هذه الاعتبارات قبل كل شيء.

كنا، الرفاق أحمد العزاوي وباقر ياسين وفوزي الراوي وأنا، نكثر من اللقاءات نقلب الأمر على جوانبه، كنا نعلم أن القيادة القومية والقطرية السورية الشرعيتان يصعب أن يكون لهما حظ في الصمود بوجه أحداث 18/ تشرين الثاني / 1970 وما أطلق عليها بالحركة التصحيحية، لا سيما بعد أعتقال أعضاء القيادة، وأن الرفيق الأسد يحكم قبضته القوية على القوى الضاربة في البلاد، وكانت القيادة قد ارتكبت أخطاء كثير منها ما هو متوارث في الحزب، ولم تكن مسئوله بصفة مباشرة عنه ولكنها لم تبذل جهدها لإصلاحه، بل تعمقت منها: الأستزلام كظاهرة فساد أنتشرت كآفة يصعب بترها أو أستئصالها سهلت بروز مواقع ومراكز قوى، وكذلك التكتلات، وظاهرة الاتصالات الجانبية، والانتفاع، وهي جميعها أمراض فتاكة في الأحزاب الثورية، ولكنها عشعشت في الحزب واستقرت للأسف، وهاهي ونحن نعاني من تلك الظواهر السلبية ..!!
أستقر رأينا في قيادة المكتب العسكري العراقي، على التحرك السريع لصيانة التنظيم ومستلزمات العمل، والرفاق الحزبيين, وكان لابد من إخراجهم من سوريا أولاً وترقب الموقف، وكانت قدراتنا المالية محدودة جداً، ثم إمكانات الخروج من سوريا صعبة، ولم يكن أمامنا سوى بيروت، هذه التطورات كانت متوقعة والتي على أثرها اتفقنا الرفيق أحمد وأنا نعمل على تسريب منظمة دمشق للمكتب العسكري إلى بيروت، كان موقفنا ضد الحركة قد يجر إلى ما لا نريد، وإلى ما لا تحمد نتائجه وربما تبلغ درجة ضرب منظمتنا الحزبية، أو إلزامها مغادرة دمشق، أو تسليمنا لبغداد في صفقة أو غيرها، لذلك أتخذنا هذا القرار.
كلفتي القيادة بهذه المهمات اعتماداً على علاقاتي النضالية مع رفاق وأصدقاء لنا في المنظمات الفلسطينية، فكان العمل الفدائي ومنظماته هم من التجئنا إليهم وبالفعل نجحت في تسريب أهم العناصر الحزبية، ولكن لا بد من الاعتراف هنا، أن العطب كان قد تسلل إلى العديد من الرفاق، فتحايلوا على قرار الحزب، البعض منهم كان قد دخل في علاقات(خاصة على الأغلب)، ولم يكن أن يقطعها، وكنا نحاول تفهم هذه الأوضاع الإنسانية، وإن كانت بعيدة ولو بدرجة بسيطة عن صرامة تقاليد العمل الحزبي. كان التواجد في بيروت لشهر كانون الأول / ديسمبر / 1970، وكانون الثاني / يناير، وشباط / فبراير / 1971 تجربة عميقة جداً على كافة الأصعدة، الشخصية والحزبية.

                             

(في حفل طلابي بدمشق، تكريم الرفيق الشهيد القائد عبد الودود عبد الجبار)

تمكنت من تنفيذ الواجب على أكمل وجه، ومكثنا في بيروت في ظروف تقشف خيالية، فقد كانت مخصصاتي الحزبية ليرتان ونصف يومياً، وكنا خمسه أو ستة من الأصدقاء ننزل في غرفة واحدة، وكانت صاحبة البانسيون تهوى أحد رفاقنا الفلسطينيين، وقبلت إيوائنا بثمن بسيط، وبدون تسجيل هويات أو جواز سفر الذي كان بالنسبة لنا ترفاً بورجوازياً، وكنا لا نملك شيئاً منها سوى ورقة من الكفاح المسلح الفلسطيني، ترى لولا هذا الهوى ... من يعرف ما كان يحدث ...؟
كنا هناك عراقيون وفلسطينيون وأردنيون، بعثيون وغير بعثيون، نعيش حياة جوع حقيقية، وكان هناك في ساحة البرج مطعم يقدم لفة الشاورما بخمسة وعشرين قرشاً في تلك الأيام، وكانت أقدامنا الرهيبة أفضل من أي سيارة في العالم، نقطع بيروت على أقدامنا سيراً، لأننا لا نملك ما ندفعه لركوب وسائط النقل. ولكننا نجد الوسائل لقراءة الصحف مجاناً، كما كان لابد من توفير خمسة وعشرون قرشاً للجلوس في المقهى، نصنع أحزاباً ونشعل ثورات، ونحدث انشقاقات، وكان الزمن زمن يسار، وكان أقل من ماركسي لينيني جيفاري، يعتبر يمينياً مأفوناً عليه اللعنة، وفي أفضل الأحوال إذا تكرَم عليك أحدهم فيعتبرك من البورجوازية الصغيرة(الوطنية)، المعادية للاستعمار والإمبريالية، واليسار أصبح كقميص يوسعه أحدهم أو يضيقه على مقاسه وكيفما يشاء .....!
كان هناك نجماً من نجوم اليسار (ع ـ خ) على مقاهي الرصيف البيروتية، بلغت درجة احمراره أن يصرح ذات مرة : أن لينين كان يمينياً لأنه قمع ثورة البحارة في كرونشتات ! (في مطلع ثورة أكتوبر الاشتراكية حدث تمرد أو انتفاضة، في القاعدة البحرية كرونشتات، قمعتها السلطة السوفيتية بالقوة والعنف)، نعم هكذا كان التطرف. ومن طرائف الحياة (اللي يعيش يشوف !) أن يطول بي العمر، أنني شاهدت بعيني وسمعت بأذني هذا الشخص مؤخراً (بعد احتلال العراق) في أحدى الفضائيات العربية من باريس، يمتدح العولمة والرأسمالية الجديدة وفضائل حروب العدوان الأمريكية فتأمل ! وإنني أذكر يوماً قال فيه الرفيق باقر ياسين في أحدى الاجتماعات متهكماً: لعلنا سنحتاج يوماً لإثبات أن هناك استعمار! " كما أذكر أبلغ تعليق قيل في سفرة الرئيس السادات إلى القدس المحتلة وكان للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري إذ قال:

لقد كبرت في العمر وليتني مت قبل هذا اليوم".
والآن وقد أصبحت الخيانة وجهة نظر يدافع عنها صاحبها دون خجل، بتأييد ومباركة من مجلس الأمن الدولي والولايات المتحدة الأمريكية، وربما قريباً ستصدر قرارات دولية تشرع للشذوذ الجنسي وحتى لتبادل الزوجات ..! وقد كتبت مرة : أن بعض البشر عندما كانوا يبتلون بقرون تنبت في رؤوسهم فيحاولون إخفاؤها بين طيات الشعر، ولكنهم الآن(أصحاب القرون) يصبغون قرونهم بألوان الطيف الشمسي تباهياً..! قال لي أحدهم، ويزعم هذا البائس أنه وطني وتقدمي، يقول لي بكل جد: صدقني لقد غيرت الإمبريالية أخلاقها ..!!! هكذا بسذاجة .. فدققت النظر في وجهه لدقائق لعله يخجل، قاومني لثوان، ولكني لمحت أخيراً انكسار الضوء في عينيه.

            

(القائد الكبيرعضو اللجنة التنفيذية للمقاومة الفلسطينية الشهيد محمد عباس، أبو العباس)
كنا إذن في بيروت الأنيقة الجميلة، وبيروت يمكن أن تتحملك على أي رأي ومذهب تكون، إلا أن تكون مفلساً.. فهذا أمر لا يطاق .. بيروت لا تقبلك، بل تضطهدك... كنا ندور في مخيمات الفلسطينيين وكانوا يمرون بأزمة لعينة بعد أيلول / 1970 الكل في أزمة، نحصل على سندويشة فول، أو صحن شوربة عدس، فنضحك في سرنا فرحاً بهذا المكسب العظيم. كنا نرتاد (كافي ضو) وصاحب هذا المقهى إنسان رائع، لم يكن يطالبنا أن نأكل أو نشرب شيئاً، ولكننا عن الحلال والحرام، كنا نتناول قدح من العصير(الجلاب) ولكن مقابل الجلوس من الصباح حتى الظهيرة، ثم نذهب للتمشي في شارع الحمرا.. ربما يدعونا أحدهم إلى أحدى المقاهي الجميلة ذات الطابع الباريسي، أو إلى منطقة الروشة، كنا نشاهد أبطال السياسة يجلسون في مقهى الدولتشي فيتا الشهير، يحلقون ويثرثرون في عالم البورصة السياسية. نشاهد كل شيئ مجاناً دون أن ندفع قرشاً واحداً، بشرط أن لا تمد يدك على شيئ ...!
ذات يوم كنا نريد الذهاب أنا والرفيق عدنان الأدلبي من بيروت إلى دمشق، وكلانا مفلس لا يملك ثمن الرحلة وقدرها خمس ليرات لبنانية، أي ستة ليرات ونصف سوري. فأوصلنا أحد الأخيار إلى بحمدون مجاناً، على أمل أن نحصل من هناك على امكانية سفر مجانية بواسطة (الأوتو ستوب) إلى دمشق. كان الوقت ظهراً ونحن متعبين وقد نال منا الجوع، فالتقيت بالصدفة المطلقة وما أجملها، بالعم والصديق عبد الرحمن حياوي الناشر والكتبي العراقي المعروف صاحب دار النهضة / بغداد، وكان يقضي الصيف يومها في مصيف بحمدون / لبنان. فشاهدني فتهلل وجهه للقائي ودعاني لأدخل كافية أرلكان، وهي مقهى أرستقراطية من الدرجة الأولى، فضحكنا أنا والرفيق عدنان، ودخلنا معه على أية حال، وطلب لنا شيئاً نشربه إلا أني صارحته بأننا نحتاج طعام، فطلب لنا أشهى الطعام، والمقبلات والحلويات، ثم طلبت منه ثمن السفرة إلى دمشق، فأعطاني أضعاف ذلك، ثم فجأة قال لي لماذا لا تذهبان اليوم لحفلة فريد الأطرش في مصيف عاليه ... فضحكنا كثيراً، فأستدرك أبو نجاح الحياوي فطلب لنا تذاكر الحفلة من المقهى، طاولة درجة أولى في الصف الأول مع العشاء .... أي ترف مجاني هذا ...؟ فذهبنا أنا وعدنان وقضينا ليلة فاخرة وجيوبنا عامرة بالمال، وأنتهى الحفل في الساعة الرابعة والنصف فجراً، فأخذنا تاكسي لمفردنا إلى دمشق، هكذا كانت الصدفة التاريخية للقاء العم عبد الرحمن الحياوي رحمه الله برحمته الواسعة، فهو من أصناف الناس الذين لا يتكررون، وعندما توفي (مطلع التسعينات) كنت في سجن أبو غريب، وزعت الطعام، ثم ختمت القرآن وأهديتها لروحه.
نعم كنا مفلسين وجياع، ولكننا ممتلئون كبرياء، وفخورين بمواقفنا النظيفة.
كنا نلتقي أنا وأحمد في بيروت وكان يتردد بين بيروت ودمشق (المسافة 90 كيلومتر) كما سافرت مرة أو مرتين إلى دمشق لبعض المهام الحزبية، كنا على علاقة بالقيادة القومية في بيروت وكان بعض أعضاءها ما يزال يختفي في دمشق. لم يطل الأمر على هذا النحو كثيراً (ستة أو سبعة شهور بمجموعها)عدنا إلى دمشق مع اتخاذ تدابير الحيطة. كنت متفرغاً للعمل الحزبي وأتقاضى مساعدة من الحزب (تنظيمنا العسكري) وهو أقل بكثير مما كان رفاقنا العسكريين يتقاضوه من وزارة الدفاع السورية.
الوضع السوري كان يتعامل معنا وكأننا مواطنين سوريين، ومن جهة أخرى كنا كبعثيين وقوميين لا نعترف بشيء أسمه القطرية، فسورية بالنسبة لي ولنا كبعثيين كالعراق، وليس سورية فقط، بل وسائر الأقطار العربية(طبعاً مع خصوصية مسؤوليتنا عن الوضع في العراق) وكانت القطرية تهمة كبيرة في الحزب، والشارع السوري قومي الأنفاس، لذلك كنا نشعر إلى حد كبير جداً، وكأننا في وطننا والشعب السوري شعبنا ونحن كنا بين أحضان أهلنا وشعبنا، ولم ألمس يوماً (ولا غيري) تحفظاً من أحد سواء كان مسئولا أو مواطناً سورياً، وما زلت أذكر تلك السنوات التي قضيتها في سورية بمحبة ووفاء حيال وطني وشعبي في سورية الوطن الحبيب.
أعدنا رفاقنا من التنظيم العسكري العراقي إلى دمشق، بعد أن استبعدنا الخطورة على أمن التنظيم، فقد اعتقدنا لفترة وجيزة أن الرفيق الأسد بوصفه محشوراً، سيضطر إلى التفاهم مع النظام في العراق، الأمر الذي سيعرض تنظيماتنا للخطر، ثم تأكدنا عبر وسائل عديدة، أن هذا الاحتمال مستبعد تماماً مهما كان الحال(علمت لاحقاً أن الأسد كان محكوماً بعدم اللقاء مع العراق، وأفهمها مثل ما بدك ...!). عدنا إلى دمشق وواصلنا عملنا الحزبي وكنا نهتم بشيء واحد، وهو شغلنا الشاغل، كنا لا نريد لهذه الأحداث أن تؤدي إلى هزة في تنظيمنا العسكري، وتفقدنا ولو رفيقاً واحداً، وكانت الأحداث تشير إلى أن الرفيق الأسد يسعى إلى أعادة هيكلة الحزب بخطوات وإيقاع بطيء ولكنه دقيق، فقد أستغرق العمل في التنظيم القومي حوالي عشرة شهور، حتى عقد المؤتمر القومي، وهي فترة طويلة، بل حتى المؤتمر القطري الخامس السوري، لم يعقد قبل ستة شهور من الحركة التصحيحية (أيار / ١٩٧١).
في مثل هذه الظروف كانت القيادة القطرية السورية قد خصصت رفيقين هما من خيرة الرفاق فعلاً، ولهما سمعة نضالية وفكرية جيدة، هما الرفيقان عبد الله الأحمر، وجبرالكفري، للعمل مع التنظيمات القومية، وفي أجواء كهذه، لابد من انبثاق تيارات شتى ومنها انتهازية بالطبع، ومنهم من اعتاد على الأستزلام وعلى الحياة الامنة، ولكن أيضاً مع وجود فحص دقيق للموقف !
يا للأسف كان العطب قد تغلغل عميقاً.
وبعد هذه الحادثة، بأسابيع، ذهبنا أنا وأحمد معاً إلى بيروت في تلك الأيام بمهام حزبية، وكان التفاهم والانسجام مع الرفيق أحمد في ذروته، كان يثق بي ثقة مطلقة، وهو الذي لم يكن يثق بأحد أبداً، وبدوري كنت وما زلت أحبه وأحترمه كمسئول وكصديق وأخ لي، وأحمد كان يعني بالنسبة لي الشيء الكثير، ولا أستطيع أن أذكره دون أن ينال مني الحزن بعمق، أقول ذهبنا أنا وأحمد إلى بيروت وكنا لا نسافر معاً إلا نادرا ً(لأسباب أمنية)، ذهبنا للاتصال بالقيادة وأعضائها وكانوا تقريباً في وضع الاختفاء (بسبب نشاط المخابرات السورية في لبنان).
التقينا أحد أعضاء القيادة وهو الرفيق (ف.ش) كنا نركب سيارة يقودها عضو القيادة، ويجلس الرفيق أحمد إلى جانبه، وأنا إلى الخلف، كنا في طريقنا إلى مكان آمن لعقد اجتماع القيادة مع المكتب العسكري، للاتفاق على العمل في المرحلة المقبلة، وقبل أن نصل إلى المكان المقرر، أبدى الرفيق عضو القيادة بضعة ملاحظات يستحيل تنفيذها حول شروط العمل، وكان الرفيق صلاح جديد المسئول المباشر للمكتب العسكري نفسه لا يدخل في تفاصيلها الحساسة. ولما أخبره الرفيق أحمد ذلك مع تدخلي لتأكيد هذه الحقيقة، باعتبار كنت قد قابلت الرفيق صلاح عدة مرات حول العمل، لم يكن الرفيق صلاح على رفعة مكانته كأمين عام مساعد للحزب، فحسب، بل وأيضاً كونه كان ضابطاً برتبة لواء ركن، وقد شغل منصب رئيس لأركان الجيش، وأمين سر المكتب العسكري السوري للحزب(اللجنة العسكرية)، وشخصية لا جدال حول كفاءتها، لم يكن يسأل هذه الأسئلة الحساسة.
لكن الرفيق (ف.ش)عضو القيادة أصر بما يفيد أنها الفقرة الأولى فيما يجب بحثه، فأجابه الرفيق أحمد، هذا يعني قطع الصلة مع القيادة إذ لا يمكنني مطلقاً إجابة هذا الطلب وتحديداً في هذه الظروف الصعبة للغاية التي يمر بها الحزب، وهو ما لم نكن نفعله في حتى في السابق مع الرفيق صلاح حيث كان العمل يجري بأمان (نسبياً). ولكن إصرار الرفيق عضو القيادة لم يبق مجالاً للشك، أما أن نسلم بما يريد أو لا عمل !! وقد فوجئت حقاً بهذا الموقف، ولو كان الرفيق أحمد قد أخبرني به، لصعب علي ربما تصديقه، ولمن لديه خبرة العمل القيادي، ولا سيما في ظروف العمل السري الصعب، يقدر أبداء الحرص من الرفيق المسئول على التنظيم وعلى أمنه، وعلى الرفاق المسئولين تقدير مخاطر العمل. ولما أخبره أحمد أن هذا يعني النهاية، صمت الرفيق دون إجابة، ولكنه كان صمت الرضا وفق القاعدة الفقهية القانونية المعروفة: "السكوت في معرض الحاجة بيان ".
ساد الصمت لدقائق طويلة، كنت في كل لحظة خلالها أتمنى أن يتراجع الرفيق عضو القيادة عن طلبه غير المعقول. ولكنه كان انتظار لا طائل منه، فطلب منه الرفيق أحمد إيقاف السيارة، وسألني أحمد إن كنت أريد إضافة شيء، فأجبت كلا ولكني آسف، فقد كنت أعاني ما يشبه الصدمة، وفتح أحمد باب السيارة وقال للرفيق عضو القيادة كلمة أخيرة: أنك أنت أيها الرفيق المسئول عن فشل هذا اللقاء، بل أنك أفشلته متعمداً، لأمر ما لا أتبينه الآن ولكنك تتحمل نتائجه. نزلنا من السيارة وكنا في منطقة بالقرب من وسط بيروت، ربما عشرات الأمتار من ساحة البرج، الشهداء، وسرنا باتجاه شارع رياض الصلح.
مضينا سائرين على الأقدام لبضعة دقائق صامتين، ونحن وإن كنا بحالة صدمة أو يأس من أن تستطيع بقايا القيادة أن تفعل شيئاً، ولكننا واحتراما للشرعية وللرفاق المعتقلين ولأننا كنا ندين الحركة العسكرية، وهي غير مقبولة بأي حال من الأحوال، وسوف لن تؤدي إلى خير أبداً.... ولكن كل شيء كان قد حدث وما يزال يحدث، مثل إناء كريستال جميل أو ثمين، سقط وتحطم، ونحن نقوم الآن بعمليات لصق وترقيع ربما سنتمكن من فعل شيء، ولكن ما هو هذا الشيء. لقد كان الحزب هو ضميرنا ووجداننا ويملاْ كل ذرة في كياننا، ويستحق منا كل جهد، والتضحية بكل شيء.
عدنا إلى دمشق، كنا نقلب الاحتمالات والبدائل، أما التسليم بالتفتت، أو العودة إلى العراق وأن نلقي بأنفسنا في أحضان النظام الذي سيستقبلنا على الأقل بشماتة، هذا إن لم نتوقع الأسوأ في انهيار جماعي للتنظيم لا يبقي ولا يذر.
في دمشق كانت الأمور تسير ببطء، ولكنها تسير. والرفيق الأسد ليس من ذلك النوع الذي يمارس التكتيك، أو يفعل شيئاً ويضمر شيئاً آخر، أو تبطين الأهداف والغايات، بل على العكس، فهو صريح إلى أبعد حدود الصراحة وواضح فيما يريد ويهدف بصرف النظر إن كان ذلك يناسبك أو لا!.. ذلك طبع لديه وليس بسبب تربيته العسكرية فقط، فاللواء صلاح كان أقدم منه عسكرياً وربما صفاته العسكرية كانت أعلى(كان الرفيق صلاح الأول على دورته في الكلية العسكرية، وفي كلية الأركان، والأول في دورات صنف المدفعية).

                            

       (القائد المناضل عوني القلمجي : أحد رموز المرحلة)

نعم كانت هناك ملامح مرحلة جديدة ترتسم في الأفاق، تختلف عن ملامح المرحلة السابقة، مرة نحو الأفضل ومرة نحو الأسوأ، وبالنسبة لنا كتنظيم عراقي، كان الأمر يعني لنا أما أن نترك الأمر ونعتزل السياسة، أو نعود إلى العراق منهارين كما أسلفت، أو محاولة أيجاد قنوات نظيفة للعمل والتعامل مع الأحداث. هذه كانت من جملة الاحتمالات والبدائل، ولكن هذا الاحتمال مضى يترسخ ويشتد بمرور الأيام، وكان هناك تجمع من المناضلين الذين كانت القيادة تنظر إليهم في السابق نظرة احترام ولكنها لا تقربهم لجذرية أرائهم ومواقفهم وابتعادهم عن الدوافع الفردية والشخصانية، فكان هؤلاء بالطبع هدف التحرك الجديد لمجموعات الرفيق الأسد.
أمضينا ليالي طويلة نجري فيها المناقشات السياسية والنظرية والعملية، الممكن وغير الممكن، الشأن الشخصي غير مهم، ومصائرنا والاعتبارات الشخصية لم تكن موضع اهتمام ولو لدقائق، كنا نفكر بعقلية مجردة، وسؤال واحد وحيد يقض مضاجعنا ..نمعن فيه التفكير .
ماذا عن الحزب، وماذا عن رفاقنا وتنظيمنا العراقي ؟ ماذا عن المستقبل ...؟
توصلنا إلى مجموعة قواعد (مجردة) عن الموقف واحتمالاته وهي:
• أن القيادة قد فقدت السيطرة على الموقف داخل القطر السوري وخارجه، بل وأن بعض ذلك قد حدث حتى قبل المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي وحركة الرفيق الأسد.
• أن أمكانية تصحيح الموقف حزبياً أو بعمل عسكري غير ممكن، بل هذا الاحتمال يبتعد تدريجياً إلى درجة المحال.
• أن القيادة لم تكن قيادة حزب عمال وفلاحين، وكذلك فأن حركة الأسد ليست حركة أقطاع، وبذلك نخلص إلى القول: أن كلا التيارين يسبحان في بركة واحدة، والفروق، إن وجدت فهي ليست جوهرية بدرجة حاسمة(حتى ذلك الوقت على الاقل).
• أمامنا قضية نضالنا في العراق وكنا متفقين على أنها جوهر نضالنا، وهي لها الأولوية على كل شيء، وفي هذا المجال لابد لنا من سورية كقاعدة عمل ضرورية.
• إن إبقاء الحركة معزولة سيجعلها وكراً لتجمع العناصر الانتهازية، وسيبقى هناك شيء أسمه حزب البعث العربي الاشتراكي، ولكن بتركيبية سيئة لا يرتجى منها خيراً. كنا نعلم وندرك أن هناك الكثير من القوى والحركات التي كانت تأمل من الحزب الشيء الكثير، ولكن هذه الآمال ستكون في مهب الريح، والدخول في القيادة سيكون موضع إطمئنان وقوه لهذه القوى والحركات وإشعارهم بأننا قادرين على إنقاذ الموقف أو إصلاحه أو تحسين أدائه أو إيقاف تدهوره، وترجيح الكفة الايجابية في الحزب، فقد كان ذلك مهماً بدرجة كبيرة، وكانت حركات وطنية وقومية وتقدمية، سورية وعربية كانت تتمنى وتلح علينا أن لا يغادر الحزب عناصره الجيدة والنزيهة.
• ينبغي علينا أن نضع العراق نصب أعيننا في كل خطوة

وبعد مناقشات كثيرة واستطلاع أراء الكادر الحزبي، أتفقت الآراء على العمل مع الحركة، وكان قراراً صعباً على الرغم من يأسنا من العمل مع القيادة التي كانت قد استقرت في بيروت، فقد كان ذلك الممكن الوحيد الذي يمكن أن يخطو بنا خطوة للإمام، وعدا ذلك فالاحتمالات كلها قد تبدو زاهية ولكنها خطوة بل خطوات إلى الوراء. وهكذا بدأنا العمل، وكان ذلك ربما في نيسان/1971 .
استلمت مهام حزبية ونضالية (سأضرب صفحاً عن الكثير منها، لجهتين: فليست الغاية إثارة الإعجاب بأعمالي، كما أريد الاحتفاظ إلى الأبد بأسرار الحزب والعمل النضالي) وفي هذا الإطار قابلت الرفيق الأسد للمرة الأولى ضمن مجموعة، وكان ذلك يدور عن كيفية إسناد المقاومة الفلسطينية، وكانت المقاومة تمر بنفق ضيق، وشراك أحكمت الولايات المتحدة والعدو الصهيوني نصبها لها. ولم يكن غير سوريا في وضع المساند للمقاومة. ضمت الجلسة شخصيات من اتجاهات مختلفة، وقد لمست فيه مواقف إيجابية، واضح في أفكاره ومتسلسل، دقيق التعبير فيما يريد أن يقول، دمث، لطيف المحيا، يظهر الود والاحترام، ولكنه لا يفتقر إلى الحزم، وهو وإن كان يحرص أن يسأل بدقة واهتمام عن رأي كل فرد من الجالسين، إلا أنك تشعر بأن ما يريده هو الغالب على الأرجح، إلا إذا نجحت في أقناعة بعكس ذلك، وإقناعه ليس بالأمر المستحيل، فهو منفتح ولا يقف عنيداً متشبثاً برأيه. كانت هذه انطباعات اللقاء الأول مع الرجل الذي سيصبح فيما بعد آخر مسئول حزبي لي.
عمل الرفاق السوريون على لملمة الوضع الحزبي في القطر السوري، فعقدوا مؤتمرهم القطري الخامس العادي في شهر نيسان أو أيار في قاعة المسرح العسكري بدمشق، وكنت حاضراً المؤتمر بصفة مراقب. وكانت لي مداخلة أو مداخلتين خلال المؤتمر. وقد تسنى لي محادثة الرفيق الأسد عدة مرات في فترات استراحة المؤتمر، وفي حوار منبسط ومفتوح وفي غمرة أحاديث عن الحركة وشجونها، قلت له وأنا أحاول أن أنتقي أفضل العبارات: أنني كنت ضد الحركة، بل وحتى أني عملت ضدها بما في ذلك احتمال العمل العسكري. أخلاصاً مني للحزب وليس لأفراد، أقول لك هذا أيها الرفيق لأن الوضوح مهم في العمل السياسي. وبهذا كنت من جهة قد أبلغته بنفسي فعلاً عن ما كنت عليه من موقف تجاه الحركة، وكذلك في محاولتي العمل ضدها ترجمة لموقفي منها، وتقبل الرفيق الأسد ما قلت، وقلت له بود: ها أنا أقول لك ما يمكن أن تقرأه في تقرير أمني، فضحك ولم يسيء ذلك للجو الودي للقاء، وقد أبلغت الرفيق أحمد ما فعلته، فأستحسن ذلك.
وأنقل هنا ما كنت شاهداً عليه في أحدى جلسات المؤتمر القطري السوري الخامس، عندما حدثت ثورة هاشم العطا في السودان، التي نجحت في البدء ثم أخفقت، وقد أتصل الرفيق الأسد بالعقيد القذافي هاتفياً خلال جلسات المؤتمر طالباً منه عدم تسليم النميري قادة الثورة، وقد تفاعل المؤتمر بشدة مع تلك الأحداث، وقد غادر الرفيق الأسد قاعة المؤتمر للأتصال هاتفياً بالنميري طالباً منه باسمه وأسم مؤتمر الحزب عدم تنفيذ أحكام الإعدام بعبد الخالق محجوب والشفيع أحمد بصفة خاصة باعتبارهم سياسيين وقادة فكر وعمل نقابي، لكن الرفيق الأسد عاد وأبلغ المؤتمر أن النميري كان قد نفذ أحكام الإعدام بعبد الخالق محجوب سكرتير عام الحزب الشيوعي السوداني والشفيع أحمد سكرتير عام نقابات العمال السودانية والشخصية العالمية المهمة.
في المؤتمر القطري هذا، نهض أحد الرفاق وكان مغموراً قبل الحركة، وطرح على الملأ منح الرفيق حافظ الأسد لقب قائد المسيرة، ومضى يفلسف بشكل بائس أهمية الرفيق الأسد وأهمية مقترحه الفذ. ورغم أن هذا المقترح أثار أشمئزاز بعض الحاضرين، منهم من تصدى علناً له، ولكن الحركة كانت بصدد أن تفرز شخصيات جديدة، وهذا الرفيق من هؤلاء الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف، وهكذا كان فأقر اللقب وأعتمد.
كان قبل ذلك بوقت قصير قد تشكلت اللجنة التحضيرية التي كانت تقوم مقام القيادة القومية، وكنت عضواً في هذه اللجنة التي كانت مهمتها الأساسية، الاتصال بالمنظمات القومية وإعادة تشكيلها، وأجراء الانتخابات الحزبية حيثما أمكن ذلك في منظمات الوطن وخارج الوطن (في البلاد الأجنبية) وقد عملت في هذه المنظمات في الوطن والخارج(خارج الوطن العربي) وساهمت في عقد مؤتمرات أفرزت قيادات جديدة وكنا في خلالها نسعى إلى ترسيخ التقاليد الحزبية الحقيقية، ودعم العناصر النزيهة والمخلصة واستبعاد العناصر الانتهازية، وإنني أعتقد أننا قمنا بجهد فعال.
أنجزنا مؤتمرات المنظمات القومية، أو لنقل معظمها، لأنه كان يستحيل أجراء انتخابات في بعض الأقطار العربية أو غيرها، وهي على الأغلب أسباب أمنية، أو لظروف تنظيمية تعيشها تلك المنظمات وليس بوسعي أن أذكر التفاصيل، وقد قمت شخصياً بأجراء الانتخابات في المنظمات التي أوفدت إليها، على مستوى الفرق والشعب والفروع، وفي بعض المنظمات جرت مؤتمرات موسعة للكادر المتقدم ليكون أقرب ما يمكن من المؤتمر الحزبي.
على أية حال، عقد المؤتمر القومي وهو الحادي عشر(بالنسبة للحزب في سوريا) في أيلول وحضر المندوبون من داخل الوطن وخارجه، في ظروف شبه سرية للحفاظ على أمن المندوبين القادمين من الأقطار، وفي غضون فترة اللجنة التحضيرية وهي حوالي أربعة شهور، كنا (الرفاق أحمد وباقر وأنا وعدد آخر من أعضاء اللجنة التحضيرية أو الشخصيات القريبة منها)، نتلقى اتصالات من أطراف سورية وعراقية (من بين الشخصيات الوطنية العراقية)وعربية، بعض تلك الاتصالات كانت مباشرة، وبعضها كان غير مباشر، عبر شخصيات وهيئات(أحزاب وقوى وحركات)، ومعظم هذه الحركات أو جلها كانت تقدمية ويسارية ووطنية، كانت تطالبنا بل وتلح علينا، أن نساهم وبأقصى قدر من الفاعلية في العمل الحزبي، بعد حركة الرفيق الأسد، من أجل أن نكون ضمانات لهذه القوى في الحزب، لاسيما أن المؤتمر القطري السوري أتاح صعود عناصر غير مرغوبة إلى القيادة القطرية كأعلى قيادة حزبية في البلاد، وكانت الأوضاع السورية بعد أحداث أيلول/1970، في الأردن ثم غلق الحدود معها بعد أحداث جرش مطلع 1971، ووفاة القائد جمال عبد الناصر ومجئ السادات، بالإضافة إلى مؤشرات أخرى، كانت مرتسمات للمرحلة المقبلة، مؤشرات لا ينفع معها الحرد والسخط وإعلان الخصام ومواقف ذات طابع فردي لماع.
نعم كان الأمر في غاية الحساسية والدقة.
دخلنا المؤتمر، المؤتمر القومي الحادي عشر العادي(أيلول 1971)، وهو من المؤتمرات القومية والحساسة إلى جانب السادس(1963) والتاسع(1966)، وكنا قد أعددنا تقارير المؤتمر، وهي عبارة عن تقرير تنظيمي ومجموعة التقارير التي تضم أبواباً وفصولاً، وكان هناك مشروع النظام الداخلي الجديد، ويضم مقدمة رائعة له أهمية بالغة. وكانت تقارير المؤتمر السياسية بصفة عامه والتي صدرت فيما بعد في كتاب، وكنا قد ساهمنا في كتابتها الرفاق أحمد وباقر وأنا.
كان المؤتمر يضم حوالي 75 عضواً أصيل إلى جانب عدد أقل من ذلك من المراقبين( حوالي 40). ومن المعروف أن المراقب يحضر جلسات المؤتمر كافة وله الحق في المناقشات والإدلاء برأيه (ومن هنا أهمية حضوره) ولكن لا يحق له التصويت أو أن يرشح نفسه أو ترشيح غيره، ولم أسمع أو ألمس طيلة أيام انعقاد المؤتمر(ربما ستة أيام) أي شكل من أشكال الضغوط، المباشرة أو غير المباشرة، بل كان مؤتمراً أقرب ما يكون إلى مؤتمرات الأيام الخوالي (تقريباً) حيث كان بوسع عضو المؤتمر أن يقول كل ما يجول في فكره ووجدانه، قلت أقرب ما يكون، كان أعضاء المؤتمر يجهرون بآرائهم ولكن مع اعتبار الظروف الحساسة التي تمر بها سورية والأمة العربية، مع تذكر حقيقة أنه مؤتمر ينعقد في أعقاب حركة عسكرية !! وبصفة عامة، فأن عضو مؤتمر كبير كهذا، كأعلى مؤتمر للحزب، ينبغي أن يكون على قدر المسؤولية وأن يزن كلماته وتصريحاته.
أشار المؤتمر في فاتحة أعماله، أن أسلوب التغير غير مقبول ولكنه كان ضرورياً !! والسبيل الأوحد لإصلاح ذات البين ! وتلك أشارات لابد من القبول بها، سواء كنت مقتنعاً بها أم لا، وبحسب رأي الشخصي، أن الغالبية العظمى لأعضاء المؤتمر لم يكونوا مقتنعين بأسلوب الحركة، ولكن مالعمل وقد وقع الفأس بالرأس كما يقول المثل العراقي.
مع أني كنت قد استمعت إلى خطاب كان الرفيق الأسد قد ارتجله في المؤتمر القطري الخامس السوري، دافع فيه عن نفسه وبرر قيام الحركة، وقد فوجئت بقدرة للرفيق الأسد في المحاورة والإقناع، فقد كان خطابه طويل جداً لا يقل عن سبعة ساعات. ومرة أخرى في المؤتمر القومي أستطرد الرفيق الأسد في خطابه يطرح أفكاره بشكل سلس ولا يكرر عباراته، بلغة عربية سليمة، وله مفردات وتشبيهات لطيفة، يترك انطباعا حسناً، ولا تشوب قدراته القيادية شائبة، وأني أعتقد أن الرفيق الأسد شأنه شأن بعض القادة الكبار، وهو ما يحدث غالباً أن يحيط القائد نفسه بمجموعة ليست بمستواه لا من حيث الكفاءة والقدرة ولا من حيث النزاهة الفردية والإخلاص، وقد يختارهم بنفسه في الواقع لسهولة قيادتهم ولسلاسة طباعهم ...! ولكن بالمقابل تحدث أخطاء كثيرة تتراكم وتسجل على رصيد القائد، كما أن هؤلاء الغير أكفاء يدفعون القائد أن يستخف بآرائهم(وله الحق في ذلك)، إما بسبب ضعفها أو لطعن في نزاهتها، وهكذا تتشكل بقصد أو بغير قصد بؤرة للتهريج والفساد السياسي، واستفراد وفردية تتحول إلى استبداد ولاحقاً تتطور إلى ديكتاتورية وطغيان.
وبرأي فأن الأمر قد حدث منذ الخرق الأول في جدار الشرعية والهيبة فقد كانت للحزب والقيادة هيبة وقدسية، ولكن هذه الستائر قد تمزقت واحدة أثر أخرى منذ 1963/ 11 / 11 في بغداد ثم حركة 23/ شباط (أقول ذلك برغم تأييدي لها) ثم حدثت حركة 18/ التصحيحية، وهكذا ضاعت القدسية والشرعية وهيبة الحزب، فماذا بقى ؟ بقي قادة أقوياء يقودون الدولة، وأصبح الحزب جزء من أدوات الدولة، يحاول أن يمنح لنفسه هيبة واحترام ولكن عبثاً، ونحن نقبل بهذا وذاك، ولكن في الواقع كان الحزب يدمر تدريجياً أمام أعيننا .....!!
هذا ما حصل للأسف... وأنا لا أقصد بالضبط توجيه النقد والاتهام لأحد، لا إلى من قام بالعمل الشائن جداً باقتحامهم المسلح للمؤتمر القطري المسلح في 1963/11/11 في بغداد وما أعقب ذلك، ثم حركة 23 / شباط1966 / التي كانت حركة يسارية طيبة الأهداف والتوجهات، وعندما أخفقت ولم تصنع يساراً بل ولا حزباً، ولكنها رغم ذلك أضرت بالحزب عندما أقدمت على عمل لم يكن بمقدورها، وأخيراً وليس آخراً حركة 18/ تشرين في دمشق.
أسهب الرفيق الأسد في خطابه، وحاول فيه أن يكون مقنعاً قدر الإمكان، شرح لماذا أضطر، وقد يقال الكثير عن الرفيق الأسد من الايجابيات والسلبيات، إلا أنه كان واضحاً ومباشراً، يعني ما يقول ولا يخفي ما لا يريد قوله. أنتقد بنفسه الحركة ولكنه شرح الظروف الموضوعية قبل الذاتية التي دفعته لهذا العمل، لاشك أنها ظروف قاهرة وصعبة للغاية بالنسبة له، لقد وضع في زاوية حرجة، في موقف المدان بدون تهم حقيقية، وكأنه مجرم الحزب وسبب أزماته. كان لابد أن يدافع الرفيق الأسد عن نفسه، وإن كان الثمن الحزب نفسه. لم يكن الأمر بحاجة إلى قناعتنا، ولا إلى موافقتنا، فالأمر كان قد حصل، وقبل عشرة شهور خلت، كان أمامنا واقع حاصل وكان علينا واجب صعب وثقيل، هو قبول هذا الواقع ومعالجته، ومحاولة نقله إلى موقف أفضل ...... ومهما قال وقيل، فالأمر في ختامه انقلاب وضعت شرعية الحزب والدولة في السجن.
كان ذلك الممكن المفيد الوحيد، وكان الطموح الأوحد.
مداخلة الرفيق الأسد كانت مقنعة للكثيرين، وللبعض القليل وجد ضرورة للاقتناع !! وما يجعلك تقنع نفسك، أن المؤتمر كان ديمقراطياً إلى حد ما، فتخرج راضياً مرضياً... وها هو الحزب أمامك رأس وجسم وأطراف، لقد اجتزنا زلزالاً أو بركاناً، أو قل ما شأت. نعم خسرنا الكثير من القادة المناضلين والرفاق الأعزاء الرائعين... لسنا مختلفين على محاربة الصهيونية والإمبريالية، ولا على الوحدة والحرية والاشتراكية... وليس بالإمكان أحسن مما كان، ولو شأت أن تسأل عن الأسباب والسبب والمسبب، لعدنا إلى الأغنية القديمة التي لا تنتهي: "يا خشيبه نوندي ... نودي وديني لبيت جدودي". ومقطعها الأخير الذي يحمل النبأ السار أو المفجع : والعروس تريد الحمام، والحمام مقفول، والمفتاح بالبير والبير بحاجة إلى حبل والحبل عند الناطور ... والناطور ؟ ... نعم أين الناطور؟ أما ناطورنا فقد ضاع، أو أغتيل، أو ربما أنتحر.
عقد خلال أيام المؤتمرالقومي( الذي أستغرق ربما ستة أيام) مؤتمر حزبي عراقي وفي هذا المؤتمر الذي حضرة حوالي الأربعين رفيقاً من التنظيمات العراقية(حضر معظمهم من الداخل)، رشحني بعض الرفاق لعضوية القيادة القومية، وأنا لم أكن أريد ذلك حقاً، فقد كنت قد هيأت نفسي تماماً لواجبات نضالية مهمة جداً، وهي عندي أهم من أي منصب قيادي، فأنا لم أرشح نفسي يوماً لأي منصب قيادي، كان يكفيني تماماً أن أناضل من أجل الحزب وأهدافه، بكل ما أمتلك من قوة وطاقة، وقد فعلت ذلك طيلة عمري دون تردد، ويعرف الكثير من الرفاق البعثيين سيرتي النضالية..
لن أزيد ...
أصر المؤتمر على ترشيحي، ولم ينفع أعتذاري، بل طلب مني أن أمتثل لقرار المؤتمر الحزبي الذي يوازي المؤتمر القطري، وإن لم يكن عنوانه كذلك، ولكن الحاضرين كانوا أفضل الكوادر في الخارج، وعدد لا بأس به من كوادر التنظيم القيادية في الداخل، ورفاق آخرين كنا على مراسلة معهم ويجري إطلاعهم بصورة دقيقة على مجريات الأمور.
كان عدد أعضاء المؤتمر من العراقيين والسوريين يبلغ أكثر من نصف أعضاء المؤتمر، إلى جانب أعضاء من تنظيمات أخرى، وكان على المؤتمر أن ينتخب 17 رفيقاً كأعضاء في القيادة القومية بالإضافة إلى الأعضاء الاحتياط. فترشح ستة رفاق عراقيين ثلاثة من الحضور وهم أحمد العزاوي وباقر ياسين، وياسين أحمد (ضرغام/ كان أسمي ياسين ولا يعرف أسمي الحقيقي إلا الرفاق العراقيين)وثلاثة رفاق غائبين وهم الرفيق منذر الونداوي، الذي جاء بعد نهاية المؤتمر والرفيق محسن العساف(وكان معتقلاً) وتأخر الرفيق (س ـ د) في الحضور، وبطريقة ما شكت السلطات العراقية واشتبهت بأمره فتعرض إلى ضغوط، وللأسف لم يلتحق بنا فعرضنا إلى الإحراج.
أنتخب المؤتمر عدا الرفاق العراقيين الذين يحوزون على أصوات عالية بسبب مبدأية وإخلاص للحزب عرفوا بها وأشتهر التنظيم العراقي، ومن الرفاق السوريين: الرفاق حافظ الأسد وحصل على أجماع الأصوات تقريباً (ناقص صوت أو صوتين)وعبد الله الأحمر وعبد الحليم خدام ومحمود الأيوبي ومحمد حيدر وجورج صدقني، ثم ألتحق فيما بعد محمد جابر بجبوج وفاضل الأنصاري(عراقي من التنظيم السوري) والرفيق سهيل سكرية من القطر اللبناني، والرفاق فواز صياغ ويسار عسكري وسامي عطاري وزهير محسن، من التنظيم الفلسطيني/ الأردني الموحد.
في أول اجتماع للقيادة، وقد تم بعد بضعة ساعات من اختتام المؤتمر القومي، تم تعليق النظام الداخلي للحزب، وهو كان موضع نقاش وعمل كثيف في المؤتمر، علق النظام الداخلي ليكون ممكناً انتخاب الرفيق حافظ أسد خلافاً للنظام الداخلي الذي لا يجيز جمع بين أمانتين لقيادتين.
إذن ... أنتخب الرفيق الأسد أميناً عاماً للحزب وأعلن خبر انعقاد المؤتمر واختتامه ببيان صادر عن المؤتمر، وبينما كنا أقود سيارتي خارجاً من الاجتماع الأول من مبنى القيادة القديم (وهو مقر الحزب التاريخي منذ سنين طويلة) الكائن في أبو رمانه، وعندما بلغت ساحة الأمويين الذي يطل عليه مبنى وزارة الدفاع ورئاسة الأركان، سمعت من راديو السيارة بيان أعماله، وأختتم المذيع الخبر بإذاعة أغنية : " من قاسيون أطل يا وطني، وأرى دمشق تعانق السحب" كانت مشاعر عديدة تجتاحني، ترى هل نجحنا بإخراج الحزب من نفق مظلم، وها لديه الآن قيادات شرعية ولكن هل كانت الشرعية كل شيء، نعم كنا نشعر بالرضا غير التام، لأننا أخرجنا الحزب من أزمة، ووفرنا الحماية لتنظيمات عراقية كانت ستقع بين أيدي المخابرات السورية، وشخصيات عراقية محترمة وأخص منها الحركة الاشتراكية العربية وقياداتها : عبد الإله النصراوي، عوني القلمجي، جواد دوش، وقيادات ومناضلي الحزب الشيوعي القيادة المركزية، وغيرهم.
ولكن الأزمة الأكبر كانت كامنة ... والنفق المظلم سيكون أشد ظلاماً ... بل هي كامنة حتى اليوم !!
كانت القيادة تبدو متماسكة، وكان الرفيق الأسد ذو شخصية قيادية طاغية، يرصد المناقشات التي تدور حول القضايا بدقة، وبنظرة ثاقبة، فيدرك بسرعة اتجاه المناقشة وعلى أين ستؤول، ويتدخل في اللحظة المناسبة، ويحول دون تفاقم الخلاف في الرأي.
لا يمكن القول عن الأسد أنه رجعي، أو يميني، كما لا يمكن الجزم بأنه يساري بالمعنى الذي كنا نتداوله. وكان في أغلب المناقشات يقف إلى جانب المواقف التي تصب لمصلحة الفقراء، كان ينظر إلى العلاقة مع الاتحاد السوفيتي على أنها استراتيجية ثابتة خارج الأمزجة، وليس بسبب الارتباط بالموقف السياسي والعسكري، بل ولأسباب مبدأية. كما أنه كان ضد الرجعية في سوريا رغم أنها (الرجعية) حاولت مداهنة الوضع الجديد بشعارات شهيرة أرادت منها النفوذ إلى معادلات الموقف السياسي، كما أنه كان ضد الرجعية العربية ولكنه في الوقت نفسه كان سياسياً واقعيا، ورغم ذلك لم يكن الأمر ليخلو من أخطاء بالطبع.
ليس من السهل أن نتحدث عن الأسد دون أن نبقي مساحة بين قوسين معبأة بعلامات سؤال و أستغراب (.........) ذلك أن هناك مناطق مظلمة غير مضاءة، وتصرفات لاحقة تحملك على التريث، ثم التساؤل، وباعتقادي أن القادة لا ينبغي أن يكونوا موضع تساؤل، القائد ينبغي أن يكون واضحاً في علاقاته الخاصة والعامة، لكي يكون بوسعنا التنبؤ بتصرفه القيادي. وبناء على الأحداث اللاحقة فإن الكثير من تصرفات الرفيق الأسد كانت تستحق أن توضع تحت الشبهة، من تلك : دخول لبنان، وضرب المقاومة الفلسطينية، سياسة التحريض الطائفي في لبنان، تأييد العدوانية والتوسع الإيراني، لدرجة مساعدتها عسكرياً، في إطار تحالف متعدد الأصعدة. وأخيراً توريث الحكم لأبنه، وإحالة سورية إلى جزء من النفوذ الإيراني. وإذا تجاوزنا الوقائع المادية الملموسة، إلى النتائج القائمة على التحليل والاستنتاج، فبوسعنا الحديث طويلاً.
كان أول عمل باشرته القيادة الجدية كما أسلفنا، هي أنها أوقفت العمل بالنظام الداخلي لوجود فقرة فيه لا تسمح بالجمع بين منصبي رئيس الدولة والأمين العام للحزب، ثم شكلت لجان لمراجعة التقارير التي أقرها المؤتمر, أهمها التقرير النظري لمقدمة النظام الداخلي، وقد قاتل اليمين في القيادة في تقليص عدد صفحاته وتسطيحه وتغير أفكاره وإضاعة ملامحه، حتى غدا شيئاً لا معنى له، آنذاك أرتاح اليمين داخل القيادة وتنفس الصعداء، فقد كان هذا التقرير يمكن أن يمثل إضافة مهمة للتقرير النظري للمؤتمر القومي السادس، ويجعل من مؤتمرنا الحادي عشر مؤتمراً تاريخياً حقاً، ولكن اليمين قاتل بشراسة لحذف فقرات واسعة منه وصفحات كثيرة، وكل ما له أهمية حتى غدا شيئاً: لا هو بالحليب ولا اللبن ولا الجبن...!!! لاشيء...لا شيء البتة .
واليمين أعتبر نجاحه في حذف مقدمة النظام الداخلي نصراً كبيراً، وكانت تلك أول نكسة، ولكن أمكن إنقاذ من سائر فقرات المؤتمر ما يمكن إنقاذه من بين مخالب اليمين، وكنا أنا وأحمد تتندر أن من بين هؤلاء من لا يقبل بهم صدام حسين الذي نتهمه باليمين أعضاء ولا حتى أنصار في الحزب، ويبدو ميشيل عفلق ماركسياً لينينياً حيالهم، فقد كان أحدهم يترصد كل حركة وكل أشارة وينتهز كل فرصة من أجل إيقاف أي مقترح له رائحة يسار، ويصاب بالهم والحزن عندما لا ينجح في مسعاه، حتى عرف عنه ذلك، وصار فعلاً يلفت الأنظار ويثير السخرية.
وزعت المهام الحزبية، (المكاتب) وكان واجبي هو مكتب شؤون العراق وهو يتلخص بالأشراف على أوضاع العراقيين في سوريا وتوفير الاحتياجات لقيادة الحزب في العراق، وكنا في مستهل أعمال القيادة في أوج الزخم، ثم ابتدأت الأوضاع تستقر. كنا قد بالغنا الثقة ببعض العناصر، ولا بد من القول أن الرفيق الأسد كان يوقف الهجمات الشرسة لليمين(أثنين أو ثلاثة أعضاء)، ولكن عدد من لا رأي له كان أكبر من بين أعضاء القيادة، وهناك من كان يرقب الموقف بدقة ويصوت إلى حيث تميل، وبعض اليساريون كانوا حملاً علينا فنضطر للدفاع عنهم، إذ كان بعضهم يفتقد النزاهة العالية المطلوبة .... كان نضالاَ .. ويا له من نضال.
ولكن القيادة القومية رغم ذلك كانت وعلى غير العادة قوية بشخصياتها وبمواقفها وطروحاتها، وكان الرفيق الأسد قد بدأ (وهو مدرك لهذه المسألة بالطبع) إلى الاعتماد على القيادة القومية، بل وبدأ يطرح في القيادة قضايا تخص القطر السوري وبأتساع متزايد لإدراكه أن هذه القضايا تنال دراسة ومناقشة أكثر حصافة وعمقاً منها عن القيادة القطرية.
الرفيق الأسد كان ينحدر من عائلة فقيرة من ريف اللاذقية، وكان التيار القومي سائداً بقوة في اللاذقية، لسبب رئيسي أنها شهدت سلخ لواء الأسكندرون، فأجج هذا بصفة مضاعفة العواطف والمشاعر القومية والوطنية، وكان الأسد في كافة مراحلة الحزبية ينحاز عفوياً إلى قضايا الفقراء، ولكن العاطفة القومية كانت هي الرئيسية لديه في تلك الأيام، لذلك كان ينحاز فوراً إلى أي فكرة تدعم العمل القومي. ولكن تلك كانت أيام، ولابد من القول أن تطورات هامة حصلت في سياسة الأسد وفكره، وهي من نتائج الحرب الأهلية اللبنانية، وفايروسات الثورة الإيرانية، ولهذا فإن المواقف اللاحقة في الثمانينات وبعدها تثير العجب والدهشة لدرجة أن يفغر المرء فاه ...... أما ما فعله نجله فلا ينفع فيه كلام ولا علاج. إذن كما قلنا، فهناك للأمر جذوره، ولم يأت من فراغ ..!
الموضوعات الرئيسية التي كانت تشغل بال القيادة كان الصراع العربي الصهيوني في مقدمتها سواء في العلاقات الدولية أو العربية، ناهيك بالطبع ما يدور في القطر السوري وسائر الأقطار العربية من فعاليات سياسية واقتصادية وثقافية وكان تحرير الأرض هاجس القيادة والفقرة الرئيسية التي لا تغيب عن مناقشات القيادة، وكانت موضوعات مثل العلاقات العربية والخارجية لحزبنا، قضايا مكاتب القيادة، ولم تكن هناك إلا القليلة منها تستحق إثارة الخلافات والتناقضات بين أعضاء القيادة. وكان الرفيق فاضل الأنصاري قد صعد كعضو قيادة بعد استقالة الرفيق منذر الونداوي الذي غادر سوريا إلى العراق، والرفيق الأنصاري كان العضو الاحتياط للقيادة ولكن عن تنظيمات القطر السوري حيث هو مقيم هناك منذ 1963 .
وأود الإشارة إلى حدثين لهما أهمية:
الأول: حادثة وفاة الرفيق والصديق والأخ عدنان إبراهيم الجبوري، توفي على أثر أطلاق نار في دار الرفيق أحمد العزاوي. كانت العلاقة الرسمية لعدنان قد انتهت مع الحزب لأسباب عديدة في معظمها كان الأمر خياره الشخصي. وذات صباح يوم خميس دخل على مدير مكتبي بالقيادة الرفيق أحمد صايل يبلغني أن الرفيق عدنان يطلب مقابلتي، والعلاقة مع عدنان تتجاوز في قيمتها الحدود الحزبية إلى الصداقة الشخصية بل الأخوة وعلاقة تمتد لسنوات كثيرة، خضنا خلالها غمار معاً النضال في عهد عبد الكريم قاسم، ثم ما بعدها، ولدى دخوله استقبلته كالعادة بحضور مدير المكتب الرفيق أحمد صايل، وكان في وضع متعب بسبب تفاقم أوضاعه السياسية والشخصية التي كانت قاسية، وحاولت تهدئته بكل ما أوتيت، فقال لي أنه بحاجة لجواز سفر سوري نظامي(غير مزور)، فقلت له أنت تعلم بأن مكتبي لا يصدر جوازات سفر سورية، ولهذا الأمر لا بد من مخاطبة الجهات الرسمية السوري، ووعدته بأن أبذل كل ما بوسعي، وعندما لاحظت بأنه متعب أكدت له أني سأفعل ما في وسعي وعليه أن يثق بهذا. وفي تلك الأحيان كنت مرتبطاً في تلك الدقائق بموعد قد أزف وقته مع عدد من الرفاق أعضاء القيادة للذهاب إلى بيروت ضمن لجنة بمهمة حزبية، وقد جاء من يحثني على المغادرة أكثر من مرة، وقبيل مغادرتي له أكدت له بلزوم الراحة والاطمئنان، وقبلته وغادرت وكانت تلك آخر مرة أشاهد فيها الرفيق والصديق عدنان.
وعندما عدت ليلاً من بيروت كنت متعباً بعد يوم حافل بالعمل، وفي حوالي منتصف الليل وكنت قد دخلت إلى فراشي، سمعنا قرع الباب بشدة، وكان الرفيق علي كريم الذي أبلغني أن هناك أطلاق نار في بيت الرفيق أحمد، وهرعنا أنا وعلى كريم والرفيق مازن النعيمي إلى بيت أحمد العزاوي وعندما قرعت الباب لم يكن أحد في البيت، وبعد لحظات خرجت زوجته من شقة الجيران، وقالت لي باختصار، أن شخصاً حضر إلى البيت وشبت مناقشة حامية، ثم سمعت صوت أطلاق نار طلقة واحدة أو اثنتان، وبعد دقائق حضرت أجهزة أمنية وأخذت الشخص الجريح ولم تكن تعرف أسمه، وكذلك أحمد العزاوي، وسألتها متى حدث ذلك فقالت منذ حوالي الساعة أو أكثر قليلاً.
وعندما ذهبت إلى دائرة المخابرات وكانت لا تبعد سوى مئات الأمتار، وفي مكتب مدير المخابرات العميد عدنان الدباغ، وجدت أحمد العزاوي، فلما سألته عن الأمر ومن يكون الشخص إن كان قد تعرف عليه، فقال أنه عدنان الجبوري، فدهشت غاية الدهشة، وسألت أحمد ماذا كان يريد عدنان، فأجاب: أنه قرع الباب ولما فتحه كان عدنان يشهر مسدساً (هو مسدس حزبي، لم يسحب منه بعد انتهاء علاقاته بالحزب) بيده وقد جاء يطالبني بجواز سفر، فقلت له أن مثل هذا الأمر لا يتم في البيت، أو على هذا النحو. وبينما كانا يتحادثان في جو متوتر كهذا، دخلت أبنة أحمد وهي طفلة لا يتجاوز عمرها السنتان، ازدادت عصبية عدنان وأمسك بالطفلة، وتكهرب الموقف، وفجأة قفز أحمد وأمسك بيد عدنان والمسدس، وصدرت أطلاقة أو أثنين، وقال لي أحمد أنه لم يتبين أين استقرت الأطلاقة وكان لم يزل يتجاذب المسدس حتى أنتزعة من يد عدنان، ويقول أحمد في تلك اللحظة تبينت أن عدنان مصاب برصاصة أو أكثر. وبعد دقائق قليلة حضرت عناصر الأمن وأخذت عدنان إلى المستشفى وهو(أحمد) إلى دائرة المخابرات.
روى لي أحمد هذه الرواية بحضور الرفيق اللواء الطيار ناجي جميل عضو القيادة القطرية قائد سلاح الطيران ومسئول مكتب الأمن القومي، والعميد عدنان دباغ مدير المخابرات السورية. والحقيقة أن المفاجأة أذهلتني وصدمتني، وسمعت أحمد العزاوي يكلم اللواء ناجي ويطلب منه بذل كل ما يمكن لإنقاذ حياته، والمفاجأة الأعظم كانت في اليوم التالي عندما دخل علي مدير مكتبي الرفيق أحمد صايل باكياً يبلغني بنبأ وفاة الأخ عدنان. والأمر بمجمله مؤسف ومحزن إلى أقصى درجة، في حادثة كان يمكن أن لا تحدث، وما أكثر الخسائر العزيزة !!
والأمر الثاني: الذي أود الإشارة إليه لأهميته التاريخية: هي سفرة قام بها أطراف من التجمع الوطني العراقي الذي كان قد تأسس قبل ذلك بوقت قصير. تألف وفد التجمع من الأخ عبد الإله النصراوي عن الحركة الاشتراكية العربية، السيد إبراهيم علاوي عن الحزب الشيوعي العراقي (القيادة المركزي) وكان بأنتظارنا في منطقة كلاله والرفيق باقر ياسين وأنا عن حزب البعث العربي الاشتراكي.
أخذنا الطيران الداخلي من دمشق إلى القامشلي في شهر شباط/1972، وتحركنا من هناك ليلاً إلى المثلث الحدودي بين العراق وتركيا وسوريا، وقطعنا بعد منتصف الليل نهر دجلة بواسطة بدائية غريبة، وهي (كلك) هو عبارة عن قرب منفوخة ومشدودة إلى بعضها ركبنا عليها بينما قام سباحون بسحب القرب إلى الشاطئ الآخر .... العراقي !!
من الشاطئ العراقي مضينا بالسيارات إلى ناحية فيش خابور ومنها إلى قضاء زاخو واستقبلنا السيد عيسى سوار(لقي فيما بعد مصرعه)، وكان مسئول المنطقة للحزب البارتي الذي يتزعمه الملا مصطفى البرزاني، كنا نرتدي الملابس الكردية، وكنا أنا وباقر محكومين بالإعدام في قضية سابقة، ومن زاخو ركبنا سيارات بمعية مقاتلي البيشمركة إلى بامرني، وتأملت بعمق أني كنت يوماً أمر سرية حدود في هذه المنطقة بالذات (سرسنك ـ عمادية)، وها أنا أمر منها متسللاً...!!
من هناك إلى العمادية حيث ترجلنا من السيارات في سفرة امتدت خمسة أو ستة أيام على ظهور البغال عبر جبال وأنهار حيث ترتفع الثلوج، وكانت سفرة طويلة انطوت على مخاطرات ومجازفات شخصية وسياسية، ورؤية مشاهد مذهلة، فقد شاهدت كيف تتشكل الأنهار من سواقي صغيرة إلى جداول ونهيرات ثم إلى أنهار صاخبة، وشاهدت نسراً يحلق عالياً فوق قمم الحبال الشاهقة، ورأيت الناس البسطاء الذين لا تتجاوز فكرتهم عن العالم إلا بضعة كلمات, وربما قاموس كلماتهم اليومية لا تتجاوز بضعة مئات من الكلمات، شاهدنا قرى تعجبنا كيف يعيش أهلها بالاعتماد المطلق على مواردهم ..!
كانت السفرة متعبة إلى أقصى حد في السير خلال الجبال الوعرة والمغطاة بالثلوج الكثيفة، التي كانت تزيد من صعوبة السفرة. وصلنا بعد ستة أيام إلى ميركة سور وكان بأستقبالنا مسئول المنطقة وهو أبن أخ للسيد البرزاني (علمنا فيما بعد أنه لقي مصرعه ) وهي قضاء حدودي بين العراق وتركيا، ومنها سرنا في أسوء مقطع من الرحلة فقد كان السير لبضع مئات من الأمتار في ثلوج نغطس فيها إلى الركبة، وقبل الوصول إلى ناحية ديانة في سهل راوندوز، كانت سيارة تستقبلنا، ومعها السيد فرانسوا الحريري(مسئول الأمن، لقي مصرعه فيما بعد اغتيالا) ركبنا أخيراً سيارة جيب أوصلتنا إلى ناحية قصري، في ظاهر ناحية كلالة, نزلنا في دار ضيافة مثلت بالنسبة لنا قصراً منيفاً، كانت الدار فعلاً مريحة وفسيحة تضم عدة غرف نوم، وحمامات، تحممنا أخيراً وارتدينا ملابس نظيفة وحلقنا ذقننا، وتناولنا أخيراً طعاماً نظيفاً.
وقد أنضم للوفد الرفيق إبراهيم علاوي سكرتير القيادة المركزية للحزب الشيوعي، وكان يقيم في إحدى قواعد حزبهم في المنطقة، وقد زارنا على الفور، قياديو الحزب البارتي، فيما كانت طائرات القوة الجوية العراقية المروحية تنثر الهدايا وعلب الحلوى على السكان في ذلك اليوم، كهدايا بمناسبة مرور عام على توقيع اتفاقية آذار للحكم الذاتي. وجاء قادة الحزب وتعرفنا عليهم: السكرتير العام حبيب كريم، والسادة: الدكتور محمود عثمان، إدريس البرزاني (توفي أو لقي مصرعه فيما بعد)، مسعود البارزاني. وكانت زبدة الموضوعات التي هدفت المحادثات إليها باختصار: يحرص وفد التجمع الوطني العراقي على سحب الحزب البارتي الديمقراطي الكردستاني إلى مواقع التجمع، والشروع بمقاومة النظام العراقي، سياسياً وعسكرياً، وسيضع التجمع كافة أمكانته لمناهضة وإسقاط النظام.
وطرح الأخوة الأكراد الكثير من الأسئلة والملاحظات وطلب الإيضاح ولكن الوفد الكردي كان يتوقف ولا يتابع المناقشة حتى حضور السيد البارزاني، وكان يحضر بنفسه الوقت الأكبر من المناقشات وبيدي الملاحظات المحورية التي سيدور عليها وحولها مناقشات الموقف الكردي.
لم يكن الأخوة الأكراد يريدون بلوغ نتيجة كما لم يكونوا راغبين بقطعها، وأخيراً قال السيد البرزاني الوالد (الملا مصطفى) الجملة المفيدة : بقوله هذه خريطة العراق تفضلوا وحددوا لي كردستان ! وبينما فاجائنا هذا الطلب، بادر الأخ عبد الإله النصراوي بقوله بما معناه، أننا لسنا سوى ممثلين حركات وأحزاب ومن يمتلك منا مثل هذه الصلاحية ليوقع على خرائط ؟
وهنا بدا وكأن البرزاني الوالد كان متيقناً من نتيجة المحادثات، فقال لنا بحديث يعبر عن الحكمة وبعد النظر: فتسائل بحديث هو مزيج بين البساطة والعمق فسألنا واحداً واحداً ماذا ستكون عليه خسائرنا لو ناهضنا السلطة، فلما أجبناه بالتأكيد معتقلين وسجناء ورفاق سوف يعدمون وما إلى ذلك، وقال أن خسائركم هذه ستكون شيئاً بسيطاً قياساً لما سيتحملة هو وجماهيره وقيادتهم، وطالب البرزاني بضمانات ومساعدات ومستلزمات لا تستطيع أحزاب التجمع توفيرها له.
ولكننا اتفقنا على أمر واحد على أية حال، هو أن نبقى على صلة .. نعم هذا كان الاتفاق النهائي، واتفقنا أنا والسيد مسعود البرزاني على أقامة اتصال بطريقة معينة. وأكد السيد البارزاني الكبير ثقته واحترامه للوفد، بالتقاطه صوراً تذكارية مع وفد التجمع بكاميرا السيد مسعود وكانت من نوع بولورايد، الذي وعدته بان أرسل إليه كمية من الأفلام الخام من دمشق أو بيروت.
نجحنا في أقامة علاقات شخصية ودية مع القياديين الأكراد والحق أنهم لم يألوا جهداً في أبداء التقدير والاحترام ناهيك عن مظاهر الحفاوة والتكريم، ربما لم نتفق تماماً على العمل، ولكنا متفاهمين حول الرؤية إلى أشياء عديدة واحترام بعضنا البعض. وأصبحنا أصدقاء فعلاً.
كنت أتطلع إلى البرزاني الكبير بعمق وأنا معروف بين رفاقي وأصدقائي بقراءة البشر، فهذا الرجل لم يتلق تعليماً في مدرسة أو جامعة، ولكنه بالتأكيد أمضى سنين عمره يعمل ويفكر كيف يخدم قضية آمن بها، أنه قائد خرج من بين صفوف البسطاء من أبناء الشعب، ولكن المخلصين، يتمتع بذكاء فطري ومحاور يعرف دروب المحادثات، لا يلتزم بشيء لا يقدر عليه، يتحدث ببساطة ولكن بوضوح، يكثر من أعطاء الأمثلة من أجل مزيد من الوضوح، وعلى عكس قادة الثورات الفلاحية، أو تلك الثورات التي جماهيرها من الريف، لم ألمس في البرزاني الميل إلى المغامرة، وهو رجل تمتزج فيه نوازع عديدة، عشائرية قبلية، ثورية، قومية, دينية أيضاً، فقد روى لنا بإسهاب شديد نجاته من محاولة الاغتيال التي نظمت له في حاج عمران، وكان الناجي الوحيد في غرفة كانت مليئة بالرجال، وأن شظية أصابته في صدغه ولكنها لم تؤثر به شيئاً وأمسك بإصبعي بيده ووضعها على صدغه، وفعلاً تحسست شظايا تحت الجلد، أكد البرزاني أن عناية الله وحدها ولا شيء غير ذلك كانت سبب نجاته.
كنا نريد: الصديق عبد الإله النصراوي وباقر وأنا لقاء السيد جلال الطالباني الذي كان يقيم إقامة إجبارية في قرية غير بعيدة عن كلالة ومقر إقامتنا، وقد أفضينا بهذه الرغبة لأحد الأخوة من الأكراد، ربما الدكتور محمود عثمان، فحذرنا من إبداء هذا الطلب، لأن ذلك من شأنه أن يحمل البارزاني الكبير ربما على محمل فكرة أخرى. وبعد يوم أو يومين ساق البارزاني الكبير الأحاديث بطريقة عفوية تقريباً وتحدث عن السيد الطالباني، معبراً عن رأيه السلبي فيه.
والسيد جلال نوعية مختلفة تماماً عن السيد البرزاني، وربما عن معظم القادة الأكراد، ومن المؤكد أنه رجل قومي، وأنه سيفعل ما يستلزمه الدور الذي لابد أن يلعبة في القضية المعقدة التي يعمل من أجلها. والطالباني مثقف تماماً وذكي ويحسن التخطيط والرؤية البعيدة المدى، فتجاربه الناجحة أو تلك الأقل نجاحاً، أرغمته أن يقلب الأمر بضعة مرات قبل لفظ الحكم. وهو فوق ذلك رجل يحسن الاستماع وتقدير وجهات نظر الآخرين، ويحسن المناقشة في موضوعات كثيرة، وفي لقاءات لاحقة في القاهرة وبيروت ودمشق، أذكر أننا ذهبنا معاً لمشاهدة فلم سينمائي في دمشق وكانت أحداثه تدور عن حياه القائد المغوار تشي غيفارا، وبعد خروجنا مضينا نناقش الفلم فنياً وسياسياً وكانت مناقشة ممتعة، فالرجل مثقف وبوسعك أن تخوض معه مناقشة في الكثير من المواضيع. وأما على الصعيد الشخصي فهو لطيف وودي ويشعرك بسرعة أنك صديقه، وتخرج من لقاءه بانطباعات إيجابية .
عاد معنا الرفيق إبراهيم علاوي، وأحد الرفاق الشيوعيين الذي كان بحاجة إلى علاج وعناية خاصة في دمشق، ثم أوفدناه لاحقاً للعلاج على حساب حزبنا في ألمانيا الديمقراطية. عدنا إلى دمشق بذات الطريق الذي جئنا منه، مع فارق بسيط ولكنه مهم، كانت الثلوج قد ذابت تقريباً والمسير أصبح أكثر سهولة، فلم تستغرق سوى نصف المدة التي أمضيناها في القدوم. فوصلنا القامشلي ومنها بالطائرة إلى دمشق.
عقد اجتماع صغير حضره الرفيق الأسد والرفاق عبد الله الأحمر وعبد الحليم خدام، وباقر ياسين وأحمد العزاوي وياسين أحمد عرضنا فيه الرفيق باقر وأنا الزيارة وأهم مقاطعها ونتائجها. ولابد لي من القول أن رؤية الرفيق الأسد كانت ضد التعامل مع الأكراد، (والغريب أنه خالفها بشدة فيما بعد). ولكننا واصلنا الاتصالات مع الأخوة الأكراد، بل وأن هذه الاتصالات تكاثفت فيما بعد أن أفرج البارزاني عن السيد جلال الطالباني، ووصول هذا الأخير إلى القاهرة وكنت أنا مسئول العلاقة مع الطالباني، ولهذا الغرض تقابلنا مرات عديدة في القاهرة وبيروت ودمشق عندما جاء فيما بعد إلى سوريا وأستقر في دمشق.
حقائق مرة
كنا في القيادة نعتقد أن هناك أمكانية أن يقوم الحزب بدوره التاريخي الذي أضطلع به في الخمسينات والستينات حيث كان الحزب فعلاً طليعة الثورة العربية الاشتراكية في الوطن العربي. وكانت فروعه وتنظيماته منتشرة من سواحل المحيط لأطلسي وحتى الخليج العربي، مثال الاستعداد الدائم للتضحية، ولكنه الآن يبدو منهكاً لأسباب عديدة منها، الموضوعية أهمها:
* تصدي الدوائر الاستعمارية والإمبريالية للحزب، سياسياً وأستخبارياً ودعائياً.
* العدوان الصهيوني المستمر على سورية والأقطار العربية، مما ألزم القطر السوري
توظيف خيرة قواه وأمكاناته في هذا الصراع.
أما الذاتية فأهمها :
* الانشقاقات المستمرة أنهكت الحزب وقلصت قواه.
* عجز الحزب أو تأخره عن التقاط الموقف الأيديولوجي والسياسي.
* أخطاء وقعت بها السلطة السورية، سياسية واقتصادية تحمل الحزب وزرها كونه قائد المجتمع والدولة.
هذه وغيرها عوامل أدت إلى أن يتراجع دور الحزب بين الجماهير في الساحة العربية، وكان يمكن لهذا الدور (لا أعتقد أن ذلك ممكن بعد الثورة السورية العظمى) أن يؤدي إلى نتائج عكسية، أي إلى تصاعد دور الحزب في ظل الهجمة الإمبريالية الصهيونية البالغة الشدة، ولكن ذلك محكوم بظروف وشروط ذاتية وموضوعية ليست بسيطة، فالهجمة شرسة وتفوق ما سبق لأن واجهناه في معارك الماضي، إذ نواجه نحن الآن معسكر العدو برمته، العدو الخارجي المباشر وغير المباشر والعملاء المتعاونين معه، أقول عملاء ولا أقول حلفاء. ومعركة كهذه تستلزم استعدادات كبيرة حزبية أولاً وعلى صعيد الدولة والمجتمع. أما في الأقطار التي لا يحكمها الحزب، فعلى الحزب أن يجري تحليلاً دقيقاً للظروف القطرية والقومية والدولية، ويصارح الجماهير بتفاصيل الموقف الاستراتيجي، ومهمات النضال الشاق، وإني أعتقد جازماً أن الجماهير لا تخشى قمع السلطات أو مواجهة الإمبريالية، والجماهير سخية في تضحياتها، وأمامنا تضحيات الشعب في سوريا (بعد الثورة المظفرة2011) العراق (في المقاومة الباسلة بعد الاحتلال 2003) وفلسطين أفضل صورة، وحزب البعث العربي الاشتراكي خير من يعرف دروب النضال من أجل الأمة.
على الرغم من بعض التراجعات هنا وهناك، ووجود عناصر في القيادة لا تستحق هذه المواقع، ولكن هذه هي ظروف العمل القيادي، ومن أولى مستلزماته القبول والتسليم ببعض العناصر، التي قد لا تنسجم معها في التفكير وفي بواعث العمل، والتأمل في مسيرة الحزب، وبهذا يكون الشعار المفضل: الصبر مفتاح الفرج !
ولابد أيضاً من الإشارة إلى قضية أو ظاهرة القيادة الفردية، التي تسللت إلى الحزب هيمنت عليه. فالأستاذ ميشيل عفلق وإن كانت فرديته غير بارزة أو بادية للعيان، إذ كان طابع الأبوية الغالب على شخصيته القيادية، فقد كان يشعر أنه خالق لهذا الحزب ووالده، وأن الجميع هم أولاده،(سياسياً) وهذه مسألة أساءت إلى دوره التاريخي الكبير الذي لا يمكن أن ينكره أو يتجاهله أحد، ولم يستطع أن يتخلى عن هذا الشعور إلا في العراق، حيث أستوعب أخيراً دوره التاريخي، بسبب عوامل ذاتية (كبر سنه)، وموضوعية (ظروف وطبيعة التنظيم العراقي) ولكن حتى ذلك الوقت(منتصف أو أواخر السبعينات) كانت أحداث كثيرة قد جرت، لم يكن فيها دور الأستاذ عفلق مساعداً على تجاوز الأزمة.
دور العسكريين والأجهزة
وفي المراحل التالية من استلام السلطة في سورية والعراق، فقد طغى دور شخصيات قيادية (عسكرية في الغالب) مثل صلاح جديد، أو حافظ الأسد أو صدام حسين، وشخصيات كان دورها سياسي / عسكري مثل أحمد حسن البكر، طغى دور هذه الشخصيات على دور الحزب كقائد جماهيري، فقد كانت هذه الشخصيات على الأرجح تمتلك قدرات قيادية مميزة، استهوتها السلطة، وذاقت طعم النفوذ والأضواء، فاستأثرت بالدور القيادي على حساب تضاؤل دور الحزب كقائد للجماهير، وقد أساء هذا لدور الحزب متأثراً بالستالينية التي تسللت بصورة من الصور إلى حزبنا للأسف.
كذلك كان دور الأجهزة الأمنية والأستخبارية، التي استخدمت كأدوات في التوازنات الحزبية، وبداعي دورها في حماية الثورة والحزب، تعاظم دورها ومكانتها، وغدت الأداة الفعالة بيد (الرفيق القائد) وغالباً ما أستخدمها (الرفيق القائد) لتثبيت مكانته في القيادة. وغدت في مراحل تطورها أشكال هلامية تجد لونها ورائحتها قد تسللت إلى كافة مرافق الحياة والمجتمع، ولا أريد الخوض في تفاصيل مؤسفة صار فيه دور الأجهزة مبالغ فيه فصارت تدس أصابعها، بل يدها في كل مكان وفي أي مناسبة، وفي أغلب الأحيان كان تسللاً غير محموداً، حيث كانت البؤر هذه (كأفراد) فوق النظام والمسموح، والأخطر على الإطلاق، كان في دورها السيئ داخل الحزب نفسه، فاسداً ومفسداً.
وبالإشارة إلى دور العسكريين في الحياة السياسية أفسد تفاصيل ومفردات كثيرة، فقد كان هناك ابتداء تقديراً بأن الجيش العقائدي هدف رائع للحزب كنا نسعى صوبه، ولكن هذا الوليد شب وتطاول من حيث كونه قوة منظمة ومنضبطة عسكرياً، إلى قوة قاهرة تملي أرادتها باللطف واللين إن أمكن، أو التلويح بها كما حصل في مرات كثيرة، والنتيجة كان العمل تحت السيف المسلط وإن لم يكن بادياً أو ظاهراً للعيان.
وتاريخ تدخل العسكريين في شؤون الحزب يعود كما ذكرنا إلى اقتحام العسكريين المؤتمر القطري التكميلي العراقي 1963/11/11، ثم أستمر دورهم المؤثر في الشؤون الحزبية وهم أستمرأوه حتى حركة تموز/ 1968، إلا أن تدخل العسكريين تقلص تدريجياً في العراق مقابل تصاعد نفوذ الرفيق صدام حسين كقائد حزبي مدني في القيادة، وفي المرحلة الثمانينات فصاعداً لم يكن هناك دور ملموس في الحياة الحزبية والسياسية. ولعل أتساع حجم الجيش له دور في تراجع النفوذ السياسي، فلم يعد تدبير الانقلابات أمراً بالبساطة التي كان عليه في الخمسينات وحتى الستينات.
في سوريا أستمر الجيش القوة السياسية المؤثرة في الحياة الحزبية أو السياسية بصفة عامة. فكانت اللجنة العسكرية قوة مؤثرة سياسياً وحزبياً، ثم كانت الأركان العامة، عندما كان الرفيق اللواء صلاح جديد رئيساً لها القوة السياسية والحزبية المؤثرة ثم برزت أسماء عسكريين كانوا مؤثرين مثل الفريق أمين الحافظ والعقيد محمد عمران والرائد سليم حاطوم والمقدم صلاح الظلي والعقيد حمد عبيد والرائد بدر جمعة، وغيرهم وبعد أن أستلم الرفيق الأسد وزارة الدفاع تمكن أن يمسك القوات المسلحة بيد من حديد وان يكون القوة المؤثرة الأولى دون منازع.
بيد أن هذا لم يكن كل شيء، فكان في سوريا رفعت الأسد وهو ضابط برتبة ملازم أول وشقيق الرفيق الأسد، وهي رتبة صغيرة في الجيش، وكان رفيقاً حزبياً وشقيق الأمين العام للحزب ورئيس الجمهورية، يقود سرايا الدفاع وهو بهذه الرتبة الصغيرة، والتي هي بمثابة قوات الحرس الجمهوري العراقية، تضخم دورها وعددها وعتادها بعد حركة تشرين/ 1970 إلى جيش صغير، وقد أشتط رفعت الأسد في تجاوز صلاحياته، بل أنه أسس دولة داخل الدولة، فطافت شهرته وذاع أسمه وأخباره البلاد والدولة والمؤسسات، ومثل إساءة كبيرة لشقيقه و للحزب. ولم تكن هناك قوة يمكنها إيقافه عند حدوده، أو حتى مناقشة أمره في القيادة القطرية والقومية، ثم رقي رفعت إلى رتبة نقيب، وبهذه الرتبة الصغيرة كان قادراً على التحدي والتصدي حتى لمقامات عليا، حزبية وفي الدولة، بل وحتى في القوات المسلحة، فشاع أمر عدائه لوزير الدفاع اللواء الركن مصطفى طلاس والعضو في القيادة القطرية، ولم يتمكن أحد من إنهاء دوره في الحياة السورية سوى شقيقه الرئيس، عندما تمادى في تطاوله لاحقاً على الرئاسة نفسها وراح يفرض نفسه في التفاصيل السياسية والعسكرية مستغلاً مرض الرئيس الأسد، وكان لا بد من أبعاده إلى الخارج، بعد أزمة كادت أن تؤدي إلى ما أدى إليه الصراع الداخلي في اليمن الديمقراطية، ومن ثم فإن التجربة برمتها محسوبة على سورية وعلى الحزب وعلى الرفيق الأسد نفسه. أوليس هذا بأمر مؤسف..؟ ودليل إلى أننا نفتقد شيئاً ينبغي أن نبحث عنه وندرسه ونعالجه.
وعلى هذا المنوال أساء أشقاء وأبناء وأقارب شخصيات نافذة في الصف الأول في الدولة أو الحزب بدون داع، وكأن هذه ظاهرة لا يمكن إيقافها، وكأن الحزب قد حرم من الوسيلة لإيقاف الخطأ، حتى الخطأ البسيط، وإن كان في المحصلة ينطوي على دفاع من أجل الرئيس القائد، ووقف الحزب والدولة والقانون عاجزاً عن حل مشكلات كهذه، والسبب في ذلك هو طغيان الفردية في القيادة وتراجع دور القيادة كمجموعة عمل جماعية إلى ظهور مثل هذه الظواهر التي مثلت دون ريب إساءة للحزب ودوره في الدولة والمجتمع، والنتيجة الفضيعة كانت هي أن لا أحد يجرؤ أن يواجه القائد : سيدي القائد المفدى أن أخاك أو أبنك قد أصبح كارثة عليك أولاً ثم على الحزب وعلى البلد ... وحقاً تحقق المحذور فيما بعد وأصبح أبن الرئيس كارثة على أبيه والبلد والحزب والدولة تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً ... وكتب على البلد أن يعاني وأن يباد على يد أبن قائد المسيرة، وأن يسلم البلاد بأيدي أجنبية، وتلك عبرة مدفوعة الثمن ولكن باهظاً للغاية ... لقد حمدت الله وهنأت نفسي ألف مرة لأني بتركي القيادة لم أحضر الجلسة / المهزلة تتطويب بشار الأسد أميناً عاماً للحزب ورئيساً للجمهورية، فبوسعي أن أشبهه بالانتحار السياسي.
وقد حاولت مرة بحث موضوع النقيب رفعت، في القيادة، فإذا بالنظرات بعضها مشفق وبعضها عاتب، وبعضها كأنه يريد النطق بكلمات لا يجوز النطق بها، وهكذا جمدت الكلمات في فمي وكان الطغيان هو تحصيل حاصل، وغشيم من لا يدرك ذلك، بل وأكثر من يعرف ويدرك والرغم من ذلك يتسائل، ولكني لم أكن غشيماً، ولكني أردت أن يكون كل شيء في نصابة ولتمضي الاستحقاقات حتى نهاياتها..
وكلفت مرة برئاسة لجنة مهمة بتعيين من الرفيق الأسد نفسه، وحققنا في قضية ثبت بعدها أن الرفيق عضو القيادة (ز. م) قد تورط بأختلاسات وبملايين الليرات، والتصرف بأسلحة والقيام بأعمال مشبوهة من قبيل حماية بيوت قمار وتهريب وما شابه بمستمسكات ووثائق وأدلة لا لبس فيها، إلا أن نتيجة التقرير حفظت حتى دون أعلامنا السبب، وعلى الأرجح، فإن الرفيق المذكور كان مغطى بحماية من جهات أمنية، أو شخصيات قيادية. فقدمت استقالتي من الموقع الذي كنت أشغله، ولم يجادلني أحد بحرف واحد عن أسباب كل ذلك.
وهناك مسألة أخرى كان لها حصتها في الإساءة إلى دور الحزب ومثالياته، ويتمثل بدور القادة، وذلك الميل إلى مظاهر الأبهة والفخفخة، نعم أن القادة بحاجة إلى تسهيلات وظروف عمل وأجواء تسهل عملهم وتفرغهم للمهام، ولكن تطور الأمر إلى بعض المبالغة في الأمر لدرجات غير مقبولة، وكان ذلك يحصل طردياً مع تراجع دور وأهمية الحزب.
علاقات الحزب الخارجية

      

     (في مؤتمر دولي بصوفيا / بلغاريا عام 1972)

كان اتجاه العلاقات الحزبية خارج الوطن يكاد يكون محصوراً على الأحزاب الاشتراكية والعمالية الشيوعية، الحاكمة منها وغير الحاكمة، ومع منظمات التحرر، ومنها حزب المؤتمر الوطني في جنوب أفريقيا، وكان حزبنا يدعم بقوة حزب المؤتمر ويقدم له الدعم، ويقيم العلاقات مع حركات التحرر بهذه الدرجة أو تلك من القوة والجدية. أما مع الأحزاب الشيوعية الحاكمة فقد كانت العلاقات ممتازة فعلاً، لدرجة أن الحزب كان يبتعث رفاقاً للدراسة في المعاهد الحزبية العليا في الاتحاد السوفيتي وألمانيا الديمقراطية، كما كانت وفودنا تحضر بصفة دائمة مؤتمرات الأحزاب في تلك البلدان، وقد ترأست في مطلع عام 1972 وفداً إلى مؤتمر الجبهة الوطنية البلغارية، وكانت مساهمة حزبنا في المؤتمرمتميزة إلى جانب مشاركة الحزب التقدمي اللبناني وحزب السلطة في العراق، وبالطبع الأحزاب الشيوعية العربية. ولعل وفد حزبنا كان الوفد العربي الوحيد الذي قابل الرئيس البلغاري تيودور جيفكوف وأبدى الرئيس البلغاري بالغ الود تجاه حزبنا وسوريا ونضالها السياسي والاقتصادي.
وبهذا الاتجاه زار سوريا معظم الرؤساء من البلدان الاشتراكية، أو شخصيات نافذة وحرصوا على تقديم صور الدعم لنضالها، ومن أبرز هؤلاء الرئيس شاوشيسكو، والرئيس جيفكوف، والرئيس جوزيف بروز تيتو، الذي تصادف أن كان موقعي على طاولة العشاء مقابله تماماً وكنت طيلة فترة العشاء أتأمل هذا القائد التاريخي الكبير الذي قاد بلاده وشعبه وحزبه في معارك صعبة، وأتيح لي أن أستمع للرئيسين الأسد وتيتو يتحادثان بلا مترجم باللغة الروسية التي تعلمها كلاهما في الاتحاد السوفيتي.(وقد أمضى الرفيق الأسد ربما سنتان في الاتحاد السوفيتي في التدريب الجوي).
وكنت قد ترأست وفد حزبنا لأجراء محادثات مع وفد من الحزب الشيوعي الإيطالي (أيار / 1974)وكان يحكم في أحدى ولايات إيطاليا، أن دار النقاش عن تصاعد أسعار النفط نتيجة لحرب أكتوبر 1973، وآثار ذلك السلبية على المجتمعات الأوربية وإيطاليا تحديداً، وكنت لحسن الحظ مزوداً حديثاً بإحصائيات تشير إلى أن بلدان الأوبك لا تنال إلا 28-30% من سعر برميل النفط فيما يذهب الباقي إلى جيوب الشركات الاحتكارية، وقد أستغرب الشيوعيون الإيطاليون من هذه النسبة الظالمة، أما أنا فأستغربت أكثر لعدم معرفة قيادات شيوعية هذه الحقائق.
أما على صعيد العلاقات مع القوى العربية فقد كانت تحمل طابع الحميمية والخندق المشترك، وإن شئنا الحديث عن العلاقات مع الأحزاب العربية الحاكمة، فقد كانت ثمة علاقات مع الاتحاد الاشتراكي العربي في مصر ولاسيما في الحقبة التي كان لما تزل فيه قيادات ناصرية قومية تقدمية تمثلها، ولكن وكما هو معروف أن هذا الأمر بدا بالانحدار بسبب التحولات في مصر قبل حرب تشرين/ أكتوبر ـ 1973، وما بعدها. وكانت هناك علاقات يومية مع الأحزاب اللبنانية سواء عبر منظمة الحزب في لبنان أو عبر اللقاءات المباشرة وكذلك العلاقات الجيدة مع حزب جبهة التحرير الجزائرية ومع الحزب الاشتراكي اليمني.
نعم، كان للحزب حضوراً مهماً في الساحات العربية، ولكن كان يمكن أن يكون أضعاف ذلك!
كان تراجع فعالية العمل العربي المشترك لفصائل الثورة العربية الاشتراكية العلاقات فيما بينها. (سأضرب صفحاً هنا عن العلاقات مع فصائل الثورة الفلسطينية في الوقت الحاضر وهي بلا شك قصة طويلة عريضة) ولا أزعم أني مطلع على كافة جوانبها، ولكني أؤكد إذا كان هناك ثمة تقصير، فهو بسبب قلة كفاءة العناصر المولجة بتحقيق اللقاءات وحصد نتائجها وثمارها ومن كافة الأطراف. وكل هذا قبل الدخول السوري للبنان 1975، (كنت قد غادرت القيادة).
وأجد من المستحسن هنا للعبرة أن أتحدث عن علاقة بين الحزب وأحدى فصائل الثورة والتحرر العربية في أحدى الساحات. وكان ذلك الفصيل قد مضى وبالغ وأشتط وأخذ ينثر التهم جزافاً، غمزاً ولمزاَ، تصريحاً وتلميحاً بما في ذلك على الحزب وسوريا التي كانت تقدم له مساعدات لا تنسى، وقد جاء ذات يوم ممثلين عن هذا الفصيل إلى دمشق على عجل يطلبون مساعدات عاجلة فورية، بل وحتى إيصالها إلى ساحة عملهم. وكان ذلك شيئاً يقرب من المستحيل لأن ساحة عمل ذلك الفصيل تبعد مسافات طويلة جداً لا تقطعها السيارات، ومع ذلك قمنا بتلك المخاطرة من أجل إنقاذ ذلك الفصيل. ومع ذلك استمروا بالمشاكسة وإثارة المتاعب لأنفسهم أولاً ولجماهيرهم ولحلفائهم أكثر من خصمهم. وتلك وغيرها تستحق أن نفرد لها موضوعاً كاملاً عن العمل العربي المشترك.
ومن تجارب العمل أيضاً لابد من الإشارة، للعبرة قبل أي شيء آخر: أحد الأحزاب في بلد عربي، كان يطلب مساعدات عينية كثيرة، وكنا نشك (وأنا بصفة خاصة) بالحاجة الواقعية لهذه المساعدات. ثم كلفنا هذا الحزب أن نطبع له نشرات، وصحف حزبية وفوجئنا بالكمية الهائلة التي طلبها، مما يحمل على الشك على قدرته بتوزيع كل هذه الكمية الكبيرة جداً، مع ذلك طبعنا تلك الاحتياجات، ولكنها تكدست في مكاتبنا، وعندما اقترحت على ذلك القائد أن نتولى نحن نقل تلك المواد إلى ساحة نضالهم تهلل وجهه فرحاً، وعبثاُ أنتظر رفاقنا مجيء المكلف باستلامها، فقام رفاقنا بتوزيعها أيضاً !! والعبرة في ذلك أن بعض القيادات تطرح خطاً سياسياً من العيار الثقيل وأهدافا كبيرة جداً، في حين أن قدراتها على العمل وتحقيق الهدف أقل من ذلك بكثير. وقد أساء ذلك إلى الحركة الثورية العربية، إلى جانب الرجعية المحلية التي لا تتورع عن التحالف مع العدو الخارجي، وهكذا كان التطرف والمبالغة موزع على الأطراف.
وشخصية سياسية عراقية (مرموقة)، يتظاهر بالورع المزيف، وكنا في تلك الأيام، نصرف من مكتبنا (مكتب شؤون العراق) مساعدات للقوى السياسية العراقية، والمساعدات كانت تقدم لقادة التنظيمات أو من يخولونهم، مقابل وصل أستلام، لا يتضمن أي تفاصيل، مجرد استلام المبلغ. وتلك الشخصية عرضنا عليها المساعدة للحركة التي يمثلها، فرفض الاستلام، وبعد مدة أبدى رغبته بالاستلام لكن دون أن يوقع على وصل أستلام. وبعد فترة أعاد الطلب وأعدنا عليه شرطنا، وهكذا عدة مرات، قبل أخيراً أن يوقع ويستلم المبلغ. ولكنه واصل في مجالسه الخاصة الإشارة والغمز أن هناك حركات تستلم أموالاً من حزب البعث على أنها مثلبة ...!
قصص كثيرة أحتفظ بها تشير أن نزاهة القادة كانت أحياناً غير تامة ...!
حرب رمضان: 6 / تشرين الأول ـ أكتوبر / 1973
كان التحرير هو هاجس سورية شعباً وحكومة وحزباً، والصراع العربي مع العدو بصفة عامة، وعلى هذا الأساس كانت علاقات الدولة والحزب تتأثر بهذا الاتجاه أو ذاك في العمل، ورفاقنا السوريين والدولة والشعب بذلوا التضحيات الكثيرة، بل أنهم ومن أجل هذا الهدف، فعلوا أحياناً ما لم يكن يتفق مع اتجاهات تفكيرهم ومزاجهم السياسي، فقد كنت حاضراً على أحداث ساخنة بين سوريا والأردن عندما فعلت سوريا كل شيء لحماية العمل الفلسطيني.
كنت ذات يوم، أقود سيارتي في بيروت متجهاً لعمل ما، لاحظت أن سيارة تعقبني، وأنا أتمتع بحاسة الشعور السريع بأني ملاحق أو مراقب، وما كدت أتخذ بعض إجراءات الحماية والدفاع عن النفس، أخذت السيارة المتابعة تضيء وترمش بأنوارها، ولما اقتربت ودققت فإذا به الشهيد المرحوم أبو يوسف النجار، القائد الفلسطيني المعروف، وترجلت من السيارة وتبادلنا التحيات والسلامات والقبلات، وتحدثنا حول بضعة قضايا واتفقنا على ضرورة متابعة الموضوع، كنا نتحدث في الشارع قرب الحمام العسكري برأس بيروت / الروشة.
وبعد يومين أو ثلاثة، أيقظني مرافقي صباحاً وأبلغني خبراً محزناً ومدهشاً، أن وحدة كوماندو خاصة قد تسللت إلى قلب بيروت وتمكنت من اغتيال القادة: أبو يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر. وفي الطريق إلى القيادة كنت أستمع إلى إذاعة دمشق تقطع إرسالها وتذيع النبأ وتنبه إلى تحول الإذاعة إلى: إذاعة فلسطين من دمشق. وشرعت الإذاعة تذيع بيانات ورسائل وبرقيات ورسائل شفره إلى خلايا العمل في داخل فلسطين والمناطق المحتلة بإلغاء جداول شفرة وإلغاء كلمات سر، ومواعيد، بسبب عثور العدو على وثائق مهمة في شقة الشهيد كمال عدوان. كنا في كل لحظة نشعر أن المصاب مصابنا ليس لجهة العواطف فحسب، بل لجهة ضمان سلامة وتواصل العمل. كنا في الدقيقة بل في اللحظة في الخندق. وحدث أن تدخلنا مرات عديدة لإنقاذ موقف معين، أو للمساعدة على تجاوز محنة في الساحة السورية أو اللبنانية أو العربية عموماً.
في أطار العمل السوري من اجل رد العدوان الصهيوني، كان لابد لسورية أن تعمل مع مصر وأن تحتفظ معها بصلات طيبة بل ممتازة، فذلك ما كان يحتمه منطق المعركة والتخطيط للتحرير، بل لم يكن سوى هذا الخيار. وكان من الواضح الجلي بأن العدو سوف لن يتخلى عن الأرض إلا بالقوة، أو بما يؤدي إليها. وبعد وفاة الرئيس عبد الناصر، تحولت مصر إلى قيادة السادات، وهي قيادة لها ملامحها الخاصة وشخصيتها المميزة غير القيادة الناصرية، ولم يكن أمام سوريا سوى العمل مع مصر بدرجة رئيسية، ثم محاولة توظيف الطاقات العربية السياسية والاقتصادية والعسكرية، ولا شك أنها كبيرة، ولكن للمعركة غيومها وغبارها و ... ضبابها (على حد قول السادات ..!)... الخ .. وحسابات الحقل لا تنطبق على حسابات البيدر.
ومن المؤكد أن العدو ومن معه بدرجات متفاوتة من العلانية والقوة، الولايات المتحدة ومن لف لفها من الغربيين، كانت تريد أن تفسد هذا العمل والنشاط(العمل العربي) وهي وإن لم تتمكن من اقتلاع فكرة العداء العربي الصهيوني إلا أنها حققت نجاحات لا بأس بها.
كانت مصر حتى في مرحلة السادات مصممة على القتال بعد أن تأكدت أنها سوف لن تستعيد أراضيها عبر المفاوضات، وكان هذا أمراً مهماً، أما القطر السوري فقد كان بعيداً عن كل مسعى دبلوماسي سري أو علني سواء حول الصراع بصفة عامة أو حول الأراضي السورية، (على حد علمي وحتى ذلك الوقت على الأقل ...!) وكان الموقف المصري مرحب به سورياً، وسبباً مهماً للغاية في تمسك سوريا بمصر كمحور لإقامة تضامن عربي هدفه النهائي هو خوض المعركة، وقد نجحت المساعي السورية المصرية مدعومة بدرجات متفاوتة من القوة في أقامة تضامن عربي صعب وسط ضغوط أمريكية ومعسكرها هائلة على تفتيت هذا التضامن.
فجأة ودون سابق إنذار، قام الرئيس السادات بإخراج الخبراء السوفيت وكانت تلك أشارة مثيرة للقلق في قيادة الحزب والدولة معاً، وإني أذكر أن في اجتماع القيادة الذي ناقش بإسهاب هذه القضية، أن أقترح أحد أعضاء القيادة أو لمح إلى ذلك، أن تقوم سوريا بأجراء مماثل، كان الرفيق الأسد عادة آخر من يدلي برأيه في القضايا ولا سيما السياسية، وتلك خصلة أساسية في الرفيق الأسد فهو مستمع جيد ولا يبدو عليه الضيق مهما كان الرأي الذي يسمعه، ثم أنه بذلك كان يريد أن لا يتأثر أعضاء القيادة برأيه، لذلك كان يستمع إلى أراء الجميع بدقة تامة ويستوعبها، ويكتب بعض الملاحظات، وأخيراً يدلي برأيه، وفي مرات كثيرة كان يصيغ رأياً أو موقفاً جامعاً لأراء الرفاق أعضاء القيادة المتحدثين، ولكنه في هذه المرة فقط، عندما أثار أو لمح أحد أعضاء القيادة إلى أن تقوم سوريا بأجراء مماثل لما أقدم عليه السادات في أخراج الخبراء السوفيت، ولكن هذه الطروحات لم تكن مستساغة ورفضتها القيادة بصفة عامة. وأنا وإن سرني الموقف، إلا أنني استغربت الطريقة والأسلوب وجرأة من طرحه ...!
علاقة سورية بمصر هي علاقة تاريخية، وعلاقة سورية بمصر السادات، أقول السادات لأن علاقة مصر بسوريا أعمق من أن تحدد بحقبة بسيطة، علاقة سوريا بمصر تعود لقرون كثيرة قبل الميلاد، فقد ذهبت سوريا إلى مصر وجاءت مصر إلى سوريا، والتقت سورية ومصر في ميادين جهاد مشترك، كما أن مصر بوصفها قلب الأمة العربية لها صلات أكثر من أن ترصد مع كافة الأقطار العربية مشرقها ومغربها، ولكن علاقتها تحديداً مع سورية لها أبعاد وأعماق وسعة غير اعتيادية. كان هناك شعور عام في سورية، أن السادات هو غير عبد الناصر، ولذلك فأنه سوف لن يسير على خطى عبد الناصر في التمسك بثوابت الاتجاهات العربية في التحرير، بعبارة أدق بمجمل القضية الفلسطينية، ثم في العلاقة الاستراتيجية مع الاتحاد السوفيتي، والسياسة حيال الولايات المتحدة الأمريكية، أو حيال المنجزات الاجتماعية التي تحققت في مصر الناصرية، ولكن ظروف المعركة وشروطها كانت حاكمة، وسياسة التضامن العربي، التي رغم النقد الكثير الذي وجه لها إلا أنها أحرزت نجاحات مهمة في حرب تشرين/1973 ولكن..!
الحقيقة أن الأمور كانت تتجه إلى الصدام، إذ بدا واضحاً أن العدو سوف لن يتخلى عن بوصة واحدة سلماً، وإن حصل فبسلام مهين جداً يوفر الهيمنة السياسية والاقتصادية للعدو على المنطقة ومقاديرها. وكانت القيادة السورية أقرب لهذا الخيار حتى بعد حركة الرفيق الأسد، رغم قبوله بمبدأ الحل السلمي، إلا أن الحل السلمي مع الحفاظ على الحقوق بدا أمراً مستبعداً حتى عن متناول المتساهلين العرب والقيادات التي تبدي المرونة كالرئيس السادات.
ذات يوم (من سبتمبر/ أيلول) جاء لزيارتي بمكتبي بالقيادة الرفيق والأخ العزيز أحمد جبريل (أبو جهاد)، وكانت الصلات الشخصية بيني وبين الجبهة الشعبية القيادة العامة ككل، والقياديين فيها متينة وعلى درجة من التفاهم في العديد من الاتجاهات. وتباسطنا في الحديث كثيراً حتى أخذنا الوقت إلى نهاية الدوام في القيادة، وخرجنا أنا وهو نسير معاً إلى ساحة القيادة حيث موقف السيارات، في باحة القيادة القومية للحزب في منطقة البرامكة، كانت الطائرات السورية تقوم بمظلة جوية في سماء دمشق، تطلع إلى السماء وتسأل عما إذا كان ذلك يعني شيئاً محدداً... وأبو جهاد ضابط سابق، وذو حس عسكري وذكاء سياسي رفيع، وفوق ذلك فهو رجل يمتلك صفات قيادية كبيرة، وأنا وإن كنت لا أمتلك جدول مواعيد وتوقيتات حول المعركة الكبيرة، إلا أنني كنت أعرف وأحدس أن القضية قد نضجت، وهو يدرك أن الأوضاع تتدحرج صوب الخيار العسكري، وأن المؤشرات تتجه صوب صدام عسكري يبدو وشيكاً، لم أجبه بشيئ، لأني لم أكن أعرف شيئ محدد، فابتسمت ولم أجب، ولكنها كانت كافية لأبي جهاد أن يحدس هو الآخر شيئاً، فقال مواسياً: يا عمي فليفعلوها وينتصروا وليفعلوا بنا ما يشاءون.(إشارة إلى الأنظمة العربية).
كنت مضطراً إلى السفر إلى القاهرة مطلع تشرين/ أكتوبر / 1973 وأنا مدرك أن الأوضاع تتدحرج بقوة، والمؤشرات تتجه صوب صدام عسكري يبدو وشيكاً، بسبب ارتباطي بموعد لقاء مع السيد جلال الطالباني وكان يومئذ قد غادر العراق لتوه وأختار القاهرة كمحطة أولى له، وربما كان ذلك باتفاق مع المرحوم البارزاني. وكنا كقيادة حزبية عراقية على صلة بالطالباني، وبعد اجتماعين أو ثلاثة مع السيد الطالباني، ولهواجس داخلية، وكثرة العمل، لم أشأ أن أطيل مكوثي في القاهرة، فأنهيت بسرعة كل المتعلقات والأعمال وتوجهت إلى مكتب الطيران السوري في القاهرة وبصعوبة بالغة حصلت على مقعد وتوجهت مساء إلى دمشق، في مطار دمشق، كان هناك توتر، تمثل في تأخير إنزال الركاب من الطائرة، فتوجهت صوب قاعة الشرف ومدخل كبار الرسميين، وشاهدت الرفيق اللواء مصطفى طلاس وزير الدفاع، يودع ضيفاً كبيراً في قاعة الشرف، وتبادلنا التحيات على عجل، وتعرفت على ضيفه ولم يكن سوى المشير أحمد إسماعيل علي وزير الدفاع المصري، وكلا الرجلان يرتديان الملابس المدنية فلا يعرفهما الناس العاديين.
عدت إلى بيتي في دمشق مساء 3/ أكتوبر ـ تشرين الأول / 1973وكنت في غاية التعب والإرهاق، وكنت قد أمضيت نهاري في القاهرة في عمل متواصل بلا استراحة حتى موعد إقلاع الطائرة من مطار القاهرة، وكنت أمني النفس بحمام ساخن ونوم هانئ، وكان ذلك اليوم هو الأربعاء 3/ أكتوبر، ولكن سرعان ما قرع الهاتف طويلاً وكأنه يوحي بأن خطباً ما، وإذا به الرفيق مدير مكتب الأمانة، يدعوني للحضور إلى اجتماع مشترك للقيادتين القومية والقطرية السورية، وفي الحال..!
وعندما وصلت إلى مبنى القيادة القطرية السورية، كان كل شيء هادئاً ولا يوحي بشيء، هناك قاعة اجتماعات واسعة تتسع لأكثر من 40 شخصاً، وجدت أعضاء القيادتين وكأن على رؤوسهم الطير، الرفاق العسكريين في القيادة: الرفيق اللواء الركن مصطفى طلاس وزير الدفاع، الرفيق اللواء ركن طيار ناجي جميل قائد سلاح الطيران، الرفيق اللواء الركن عبد الرحمن خليفاوي، الرفيق اللواء الركن عبد الغني إبراهيم، كانوا هادئين، فهم عسكريون معتادون على الساعات الصعبة. أدركت أن هناك شيئ ما وراء الأكمة، وابتدأ هذا الشعور يتعزز كلما طالعت وجوه الرفاق أعضاء القيادتين، وكان الاجتماع المشترك بحضور الرفيق الأمين العام للحزب حافظ الأسد الذي كان يرتدي ملابسه العسكرية لأول مرة بعد توليه رئاسة الجمهورية.
في الاجتماع الذي عقد سريعاً، كان مخصصاً لاتخاذ قرار بخوض الحرب حضر الرفيق الأمين العام، وأفتتح الاجتماع فوراً وليس على جدول الأعمال سوى فقرة واحدة: الدخول في الحرب لتحرير الأراضي المحتلة. وقال الرفيق الأسد، أن كافة تفاصيل المعركة قد جرى أعدادها بشكل دقيق، فأعدت كافة صفحات المعركة السياسية والعسكرية والإعلامية..الخ وقد درست كافة الاحتمالات، حتى غير المتوقعة منها، وقد جرى توفير أفضل الظروف لها. ولكن من أجل أعطاء دور للقيادة السياسيةً التي كانت في صورة الأحداث وفي جو المعركة منذ زمن طويل، بحيث كانت قد توفرت قناعات مشتركة لكافة أعضاء القيادتين، قال الرفيق الأسد بما معناه، أن خيار المعركة مع العدو أمر قد ناقشناه كثيراً، وليس بيننا من له رأي آخر(وكان محقاً في ذلك تماماً)، ولكن مع ذلك إذا اتخذت القيادة قراراً بخوض الحرب، كما أن هناك فسحة من الوقت لاتخاذ قرار آخر. بالطبع أثيرت عدة تساؤلات البعض منها كان جوهرياً مثل: إذا كان قرار الحرب متخذاً من قبل القيادتين العسكريتين المصرية والسورية والرئيسان، فلماذا قرارنا .؟ ثم ما هي الأراضي المحتلة، هل هي الأراضي العربية السورية والمصرية أم فلسطين ؟ إذا أفرزت الحرب واقعاً يكون بمقتضاه القدرة على مواصلة الحرب والدخول في الأراضي العربية المحتلة عام 1948 فما العمل ..؟ بالإضافة إلى أسئلة تفصيلية فنية وتكتيكية وإعلامية وسياسية حول العمل العربي، وغير ذلك من الهواجس الكثيرة جداً.
الرفيق الرئيس الأسد كان واضحاً فقال نعم نحن متفقون مع الأشقاء المصريون، ولكن بناء على قناعة أن تحرير الأرض ليست بحاجة إلى موافقة وهو لا يعتقد أن بيننا من لا يعتبر التحرير هدفاً مقدساً، ولكن قرار الحرب بحاجة في القطر العربي السوري إلى موافقة القيادات السياسية العليا، وفي مصر سيجري الأمر ذاته. أما الأراضي المحتلة، فكل أرض عربية محتلة هي أرض تستحق التضحيات بدرجة مماثلة من أجل تحريرها، فإذا توفرت مثل هذه المعطيات فسوف نقدم عليها. حدث أن أعتذر الرفيق الأسد عن مواصل الاجتماع من أجل عقد مؤتمر مماثل للقادة العسكريين وتسليمهم مظاريف مهمات ساعة الصفر، والاستماع إلى آخر المقترحات، وأن الانقطاع سيستمر بضعة ساعات وسيتواصل الاجتماع بعدها.
كان القرار بالإجماع على خوض الحرب، ولكن أثيرت العديد من الأسئلة عن هدف القتال العسكري والسياسي، وما هو الموقف العسكري والسياسي المصري. كان الرفيق الأسد واضحاً إذ قال أن هدفنا العسكري هو تحرير الأراضي العربية السورية أولاً وإذا تمكنا من المضي أكثر من ذلك فأن الأمر مرهون بشروط وظروف المعركة سياسياً وعسكرياً، وعن هدف القوات المسلحة المصرية أكد أن القوات المسلحة المصرية ستقاتل حتى الممرات، وتتابع بحسب الموقف العسكري والسياسي.
خلال اجتماعنا المشترك، دخل أحد مرافقي الرئيس، وأبلغه أن الضباط القادة بانتظاره، فخرجنا في استراحة قصيرة، فيما واصل الرئيس اجتماعه، تذكرت أني نسيت علبة الدخان والقداحة (وكنت يومها ما أزال أدخن وبكثافة) على طاولة الاجتماعات فدخلت لأخذها، سمعت الرئيس يقول للضباط القادة حديثاً لا أستطيع نسيانه أبداً.. سأذكر منه ما أسمح لنفسي قوله سأكتبها إخلاصاً للتاريخ : قاتلوا عدوكم .. لا عليكم بما يدور هنا أو في المدن، سيحاول العدو أن يزعزع معنوياتكم بقصف المدن، ولا يهمكم سوى القتال والتحرير، أنها معركة سوريا وفلسطين، وأي تضحيات هي رخيصة حيالها.
إذن هي الحرب .... كما قال الشاعر العربي زهير ابن أبي سلمى :
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المترجم
كان هذا الشعر أيام السيوف والرماح، فما بالك اليوم بالصواريخ والطائرات القاذفة للقنابل ذات زنة 500 كغم ..؟
كنا ندرك أن أمام أشقائنا المصريين عائق قناة السويس أولاً ثم خط بارليف ثم صحراء منبسطة حتى الممرات في وسط سيناء(الجدي ومتلا وكونتلا)، وإن كان العدو قد أقام خطاً دفاعياً لا يقل مناعة عنه في الجولان أسماه خط آلون، وكان توقيت المعركة الساعة 1200 كان بناء على طلب الأخوة المصريين، رغم أن الشمس ستكون بوجهه السوريين، ولكنها بوجه الصهاينة على جبهة القناة، وكانت القناة غالية بالنسبة لنا كالجولان بالضبط...! مصر أو أي قطعة من الأرض العربية، فبالنسبة لنا ... كل شبر من الأرض العربية لها قيمة متساوية.
علمنا أن ساعة (س) هي 1200 من يوم السبت، المعركة مع العدو كنت أشعر بكل ذرة في كياني أني أساهم في قرار معركة مصيرية، أو واحدة من معارك العرب الكبرى في التاريخ الحديث ..... وكنا في شهر رمضان .... وكلمة السر بدر.
كانت هناك اجتماعات متتالية للقيادات الحزبية في إطار تقسيم الواجبات والمهام، حيث كلفت بالاهتمام بالقطاع الطلابي العربي في دمشق وهو قطاع كبير له تأثيره، لكن على أن تبدأ أي فعالية قبل بدء الحرب. اختلى بي الرفيق باقر ياسين، وسألني همساً عن تقديراته للمعركة، فقلت له قناعتي أن الجيش قد أستوعب تجربة هزيمة حزيران، وإن كان في تلك المرحلة بالذات التي لم تستكمل بعد شروطها، ويتلقى أسلحة ممتازة،(دبابات ت 62، طائرات سوخوي 22) فإن هزيمة كهزيمة حزيران لا يمكن لها أن تحدث، كما أن هزيمة إسرائيل هزيمة تامة ليست بالمنظور بسبب تماسك الصعيد العسكري مع الصعيد السياسي، وفي أفضل الحالات، قد تتمكن القوات السورية من تحرير الجولان.
في مكاتب القيادة القومية للحزب / الأمانة العامة، بأبو رمانة، كان الاجتماع المصغر للقيادة (المتفرغون) يضع اللمسات الأخيرة لمهمات أعضاء القيادة، وقد تم تعين بضعة مراكز مجهزة بوسائط الاتصال يتم الانتقال إليها في الحالات المحددة، كما صار تجهيز أعضاء القيادة بهويات خاصة تتيح لهم دخول المراكز الحكومية الاستراتيجية والخاصة. والتأكيد على نقاط القيادة والمراكز البديلة، ونقاط الاجتماع صباحاً أو ظهراً أو مساء، الرفاق كافة على استعداد تام عقلياً ونفسياً للعمل، يتذاكر الرفاق أشياء ربما سها عنها القادة العسكريون، في آخر لحظات تذكر أحد الرفاق أن يتأكد من التقويم العبري، فكان محسوباً، أنه يوم الغفران، نتأمل الرفيق باقر وأنا، أن يقدم العدو على أنزال قوات خاصة في القواعد الجوية، نتصل بالرفيق ناجي جميل، قائد الطيران، فيقهقه قائلاً أنه قد أعد للأمر عدته.
مضت الساعات بل الدقائق ببطء رهيب.....
الساعة الحادية عشر والنصف يوم السبت 6 / أكتوبر، عقارب الدقائق تكاد أن تكون معطلة، ساعة الصفر هي الثانية عشرة. في الشرفة المطلة على الشارع العام المؤدي إلى قيادة الطيران والأركان العامة، وساحة الأمويين حيث مبنى الإذاعة والتلفزيون خرج عدد من أعضاء القيادة القومية وقد ضاقت الأنفاس، الناظر إلى الشارع لا يعتقد أن حرباً ستقع بعد دقائق، الشبان والشابات في المدارس، الحركة طبيعية جداً، وهناك أعداد كبيرة من الجنود يسيرون في شوارع دمشق مجازين من وحداتهم .. أي حرب ..! وكان ذاك في إطار عمليات تمويه اتخذتها قيادة الجيش، إلى جانب إشارات أخرى.
كنا متلهفين.. كنا على أعصابنا.. كأننا نحمل جبالاً على رؤوسنا.. نعم كنا نحمل الوطن.. الوطن الكبير على رؤوسنا .. تطلعت إلى الساعة ... كانت الثانية عشر إلا بضعة دقائق، تركت قاعة الأجتماعات، خرجت لأدخن سيكاره وكنت يومها ما أزال أدخن، أشعلت سيكاره في الشرفة المطلة على الشارع، كان هناك مثلي الرفيق عبد الكريم عدي، عضو القيادة القطرية السورية يشاركني القلق، تطلعنا إلى الساعة كانت لما تزل لم تبلغ الثانية عشر بعد، فدهشت، أترى الساعة عاطلة ؟ أم ماذا، أم أنها تدور ببطء، فتذكرت نظرية آينشتاين في النسبية !!

دمشق: اليوم السادس من أكتوبر: في الساعة الثانية عشر، وصل دوي المدافع في الجبهة إلى العاصمة، وخلال دقائق علم المواطنون أن الحرب مع العدو قد اندلعت ..!
سمع دوي قصف هائل، مع هبة هواء ساخنة من ألاف المدافع ... نظرت إلى الساعة....كانت الثانية عشر تماماً... تلك كانت الرشقة الأولى من كافة مدافع الجبهة التي لا تبعد عن دمشق في أقرب مواقعها (القطاع الأوسط والشمالي) أكثر من 45 كم، دقت ساعة الحرب العربية الرابعة مع العدو، نبدأها نحن هذه المرة .
كلفت بكتابة بيان إلى الجماهير تحث على الوعي والتكاتف والوقوف خلف القيادات العربية الوطنية. فحاولت أن أكتب فما استطعت، كان الصورة في ذهني ولكن يصعب وضعها على الورق والنفس إذ تجيش بانفعالات عديدة، بعضها عاطفية، وأخرى حماسية، وشعور أنه وقت عمل ... ورفيق آخر أبدى مشاعر مماثلة.
توجهت إلى بناية في قلب دمشق(الصالحية ــ ساحة عرنوس) تضم كافة الإتحادات الطلابية العربية، عقدنا اجتماعا مع ممثلي الطلبة العرب، في مقر احدى الأتحادات، في تعبئة لقوى الطلبة. وغني عن القول أن استعداد الطلبة وحماسهم وتدفقهم كان رائعاً كما هو متوقع منهم بل وأكثر ... أنهم يريدون أن يفعلوا أي شيء من القتال إلى التبرع بالدم أو حفر خنادق، أي شيء عدا الجلوس والانتظار، أليست تجربة أن تواجه أي قيادة تدفقاً جماهيرياً كالينبوع الغزير، القدرة تكمن الآن استيعاب هذا الينبوع العظيم، نزلت في ختام الاجتماع ... وعلى السلالم يطرح الطلبة مئات الأسئلة دفعة واحدة ..! كان أبرز هذه الأسئلة، هل يعبر أخوتنا المصريون القناة (كان الجيش السوري يقتحم الجولان منذ اللحظات الأولى)، أبلغتهم ما أعرفه : نعم من المؤكد، سيعبر الجيش المصري القناة اليوم أو ربما غداً ولكنهم سيعبرون بعد أن يكون التمهيد المدفعي والجوي وعمليات القوات الخاصة، قد هيأ مسرح العمليات من أجل العبور إلى الضفة الشرقية للقناة.
ألقيت كلمة مختصرة في حشود الطلبة، هذا القطاع الوفي للشعب والمستقبل، أبلغتهم أنها حرب التحرير، وأن الأوامر ستبلغ لهم فيما ينبغي فعله من قياداتهم الطلابية، ولكن ليكونوا على استعداد للتبرع بالدم وبالأعمال الإغاثة والدفاع المدني فقد يلجأ العدو لقصف المدن، وليكونوا عامل تهدئة الجماهير، فإحدى أهداف العدو هي إثارة البلبلة، ومصر مشتركة في القتال منذ اللحظة الأولى، وعبور القناة سيتم بعد تمهيدات ضرورية، مئات الطلبة يسألون، متى سيعبر الجيش المصري إلى سيناء، هذه هي أمتنا المئات تسأل عن جيش مصر العربية قبل أن تسأل عن الجبهة القريبة ... ويقولون أنهم سيهزمون هذه الأمة ...!!

   

(الرفيق الشهيد المقدم الطيار سمير زينل أبان خدمته في القوة الجوية العراقية في أسراب الهوكر هنتر)
كان الجو الطلابي حماسياً بلا حدود(كما هو متوقع)، خرجت من البناية وسط مئات من الطلبة العرب والسوريين، نزلت من سلالم البناية، وفي باب البناية تماماً بينما كان المئات من الطلبة يوصلوني إلى سيارتي، كان هناك صالون حلاقة رجالي محاذي تماماً لمدخل البناية وقد ركز أبرة المذياع بأعلى صوته على إذاعة صوت العرب من القاهرة : توقفت الموسيقى العسكرية لإذاعة بلاغ عسكري، فساد صمت رهيب ... صوت المذيع هادئ : صوت العرب من القاهرة .... تمكنت قواتنا المسلحة المصرية من عبور قناة السويس، واحتلت دفاعات العدو في خط بارليف ورفعت علم جمهورية مصر العربية. ..... لن تستطيع بعدها من سماع باقي البيان .. إذ انفجرت الجماهير دفعة واحدة .. ولا توجد قوة في العالم تسيطر على هذا الانفعال الرائع.. أنه حب الوطن .. الوطن الواحد الموحد الإرادة الموحدة العواطف والموحدة المزاج والذهنية والقلب والمصير، في هذا اليوم وفي الغد والمستقبل....! هل يمكنك عزيزي يا من تقرأ هذه الخواطر، تخيل ما حصل في تلك الدقائق ؟
المذياع يذيع أغنية شهيرة للفنانة شادية: " يا بلادي يا أغلى البلاد يا بلادي .. فداك أنا والولاد يا بلادي ..." أي والله فداك يا بلادي أنا وأولادي وكل ما أملك فداء لذرة تراب واحدة منك .. فدى أعلامك الزاهية .. فدى صحاريك وجبالك وحقولك .. فدى الأطفال والنساء والحق في المستقبل .. أفتديك يا بلادي، ألف مرة .. وبعدها مرات ..
إذا كنا وأنا أكتب هذه الخواطر وأنا جالس في شقتي ببرلين بعد مرور نصف قرن عليها ... تفر الدموع من عيني وأنا أتذكر نكهة ذلك اليوم الكبير، عندما انطلقت سورة حماس الطلبة بصورة هستيرية لا يمكن السيطرة عليها مطلقاً. لم يكن أحد يدرك ما يقول ويفعل، كانت الفرحة جنونية... في تلك اللحظات لا تفكر إلا بالوطن وأن تلتحم به.
نعم .. أجتاز الجيش العربي المصري قناة السويس العربية وأحتل خط بارليف !
ماذا تقول كقائد حيال أمواج كاسحة كهذه، لمن أمضى حياته مناضلاً بين الجماهير، يشعر الآن أن قوة الجماهير أكبر مما يستطيع تقديره، أن الشعب وإرادة الشعب لهو معادلة خطيرة، ستمضي عمرك بين الناس ولا تستطيع أن تتصور قوة غضب الجماهير، إن غضبت، وحبها أن أحبت، ووفائها لمن يستحق الاحترام، كان قد شاهد في أحدى سينمات بيروت، تشييع الزعيم الخالد عبد الناصر، شاهد بأم عينه شيئاً خرافياً، الملايين تهدر وتزحف كالموج على الأرض، تبكي، تهتف: مكتوب على جبينا .. عبد الناصر حبيبنا، مكتوب على سلاحنا .. عبد الناصر كفاحنا .. لا يوجد حزب في الدنيا بوسعه أن يلقن الجماهير هذه الشعارات، والحب لرجل محمول على عربة مدفع ميتاً في طريقه إلى مثواه الأخير .. الجماهير تسخط على التقاليد العسكرية، الجماهير الفالتة من عقالها، الملايين تهاجم عربة المدفع، أنها تريد استعادة أبنها .. تريد استعادة قائدها الذي وثقت به، وغفرت له أخطاؤه لأنها تعلم أنها أخطاء بشر، يقصد الخير للأمة، نظيف اليد، والقلب، والفكر، أنه أبنها وليس من أبناء السادة ذوي الياقات البيضاء ... هو لنا أعطونا أياه .. وهكذا أممت الجماهير موكب الجنازة ومنحته طابعها الشعبي، ولم ينقذ الجثمان نفسه إلا بشق الأنفس ...
كان ذلك يوم السبت 6 / أكتوبر/ 1973، والأخبار على الجبهة السورية سارة جداً .. فقد تمكن الجيش العربي السوري من اجتياز خط آلون الدفاعي، وأسترد معظم أراضي الجولان في تقدم سريع، (وهي أساساً ليست مساحة واسعة)، ولكن طبوغرافية الجولان وعرة وقد أحدث العدو فيها الكثير من التحصينات والتحكيمات الهندسية، وقد روى لي لاحقاً أحد ضباط الجيش السوري، أنه لم يتعرف مطلقاً على أرجاء المنطقة التي ولد وعاش فيها لشدة التغيرات التي أحدثوها. فقد أزالوا تلولاً وصنعوا أخرى وبنوا منعات وحفروا أنفاق وغير ذلك من التحصينات الباهظة التكاليف.
أقتحم الجيش السوري هذه التحصينات والموانع الطبيعية والهندسية، وفي مقدمة تلك المانع المضاد للدروع والذي كان عبارة عن خندق مضاد للدرع بعمق وعرض يحول دون اجتيازه من الدروع والآليات، لذلك كان لابد من ابتكار جسور ابتدع العقل السوري في صنعها وأمكن بها تأمين تدفق الدبابات واقتحام الجولان، ولكن ذلك لم يكن دون خسائر بالطبع .
استماتت قطعات العدو المكلفة بالدفاع عن الجولان في التشبث بمواقعها لحين وصول الاحتياطي، الذي لم يتأخر طويلاً في إيصال أولى وحداته إلى الجبهة، ولكن القوات السورية تمكنت من تحطيم تلك القطعات وإيقاع أفدح الخسائر بها رغم أنها كانت تحتمي خلف خطوط دفاعية هائلة ومحمية بالطيران الكثيف وبالمدفعية الثقيلة. ومن المرجح أن العدو قد خسر في الأيام الأولى معظم تلك القطعات بما يضعها خارج المعركة، ولكن العدو تمكن من زج قطعاته الأساسية، بل ركز في ذلك على الجبهة الشمالية(الجولان) باعتبار أن نصل السيف هنا قريب من قلب العدو، مدنه وخطوط مواصلاته وعمقه الاستراتيجي الفقير أصلاً، لذلك كان تركيز الطيران الكثيف وبلغ عدد الطلعات الجوية في الجهد القتالي أرقاماً غير مسبوقة في تاريخ المعارك الجوية.
لابد من التسجيل أن أداء الطيران والدفاع الجوي السوري كان رائعاً بصفة خاصة، وأستمر حتى اليوم الأخير من المعركة حاضراً في الأجواء بفاعلية ومقاتلاً شرساً رغم نشاطه الواسع وتعرضه المستمر لغارات العدو على قواعده الجوية وكانت تضحياته قليلة بل قليلة جداً ولكنه أوقع خسائر كبيرة في العدو حطمت أسطورة الذراع الطويلة.
كان العدو يقصف القواعد الجوية لتعطيلها عن العمل، ولكن المهندسون العسكريون كانوا يعيدون إصلاح المدرجات بسرعة مدهشة، ولكن مشكلة كانت تؤرقهم، هناك قنابل موقوتة، يقذفها العدو لتعطيل أعمال الإصلاح، فيهب شيوخ ونساء من القرى المجاورة للقاعد الجوية، لحمل القنابل الموقوتة بعيداً عن المدرجات، وليتواصل إقلاع الطائرات ... صورة أخرى من بين مئات تحتفظ بها الذاكرة.
بعد أيام من بدء المعركة كلفت بمعايشة الرفاق في محافظات حمص وحماة وطرطوس وكانت هدفاً لغارات العدو الجوية على أهداف اقتصادية وعسكرية، بالطبع لم نكن بحاجة لرفع معنويات الجماهير التي كانت في أقصى حالاتها، إذ لم تكن ثغرة واحدة في الجدار الجماهيري، والجميع دون استثناء يقبل بالتضحية، بأولادهم وأموالهم، من أجل أرض الوطن. وأستطيع أن أروي عشرات الأمثلة على عظمة الشعب بل وأتمنى أن يتعلم القادة من الجماهير وعطائها غير المحدود ولكن واحد منها يستحيل أن تفارق ذاكرتي مطلقاً. كانت سفينة شحن تفرغ حمولتها من العتاد في ميناء مدينة جبلة الساحلية الصغيرة، كان المسؤلون العسكريون والسياسيون يستعجلون أفراغ السفينة ليلاً عندما قصف الطيران المعادي أهدافاً في المنطقة فتسبب بقطع التيار الكهربائي وأصبح أفراغ السفينة مستحيلاً، فسأل قائد السفينة الأجنبي المسوؤل السياسي والعسكري السوري محبطاً مالعمل الآن...! لم يكن لدى المسؤول السياسي السوري إجابة على هذا السؤال، كان الجو ماطراً، لم يجد القائد الحزبي ما يفعله سوى أن يراهن على قوة أسطورية... وأن يخرج بسيارة جيب مكشوفة ويسير في شوارع المدينة الصغيرة وهو ينادي على السكان:
أيها المواطنون أخرجوا إلى الميناء، أفرغوا حمولة سفينة من أجل وطنكم وجيشكم...
وبعد دقائق فقط، خرج ألوف من الرجال والنساء والشيوخ والنساء والأطفال.. الكل إلى الميناء وانتظموا بصف واحد يحملون الصناديق ويضعونها في الشاحنات، وأفرغوا السفينة في وقت قياسي.....
أي موقف مهيب هذا .... كلما تذكرت تلك الواقعة، أعلم كم هو عظيم هذا الشعب. ترى ماذا لو كان الشعب قد أنتخب هذه القيادة، ترى ماذا لو أن العلاقة بين النظام والشعب لا تمر عبر دهاليز الأمن والمخابرات.
ومدرس في مدينة حماة، أبنه الوحيد ضابط برتبة قيادية في الجيش، كان يدرس التلاميذ أبان الحرب، ويروي لهم أهمية التضحية من أجل الوطن، لاحظ مدير المدرسة يقف بباب الصف حائراً، أشار له بيده إشارة خافتة، تقدم المدرس وهو شيخ طاعن في السن، استلم الورقة من يد المدير: تنعي قيادة الجيش العربي السوري الشهيد البطل العقيد الركن......... وضع المدرس الورقة في جيبه، وعاد إلى تلاميذه يحكي لهم التضحية من أجل الوطن ...
كان لي صديق وأخ هو النقيب مروان أبو دبوسة، التقيته حيث يعمل واستقبلني كالعادة بلطف وبشاشة، وحاولت أن أستطلع من ملامحه مصير شقيقيه وكان احدهما طياراً في الطيران العربي السوري والأخر في القوات الخاصة التابعة لجيش التحرير الفلسطيني، ولما وجدت ملامحة اعتيادية سألته عن شقيقة النقيب مغاوير مصطفى، وهمس في أذني لكي لا يؤثر على الجلسة: "مصطفى أدى واجبه"، نعم، قالها ببساطة ورباطة جأش، أستشهد، وكنت أنا بحاجة للمواساة أكثر منه. وقبيل نهاية المعارك، ألتقيته مرة أخرى وتباسطنا في الحديث وسألته عن الوالدة، ففاجأني باستشهاد شقيقه الأخر الطيار، أن الصلابة التي وجدتها عند الرفيق مروان أبو دبوسه كان شيئاً خيالياً في القدرة على التضحية هكذا هو شعبنا العربي، السوري والفلسطيني والعراقي والمصري.
قوة الجماهير شيئ لا يصدق، قد تمضي عمرك تناضل في التنظيمات الجماهيرية، ولن تستطيع أن تدرك قوة عنفوان الجماهير .. أنه شيئ يفوق معطيات العلم المجرد.
في الجبهة الشمالية كان العدو يهدد أحدى القرى، وهناك مخزن للغلال(حنطة وشعير) قدر المسؤولون أن ينقلوا محتوياته، ولكن كيف، إن إفراغ المخزن بحاجة إلى أعداد من الآليات المتخصصة الغير متوفرة في هذا الظرف، ما العمل ..؟ نادى المسؤول على شباب ورجال القرية أن يهبوا لإفراغ المخزن، وكان يقدر أن القليل الذي سينقذه هو أفضل من أن يذهب طعماً لألسنة النيران .. والمفاجأة أن أفرغ الرجال المخزن خلال ساعات معدودة .. كيف .. لا إجابة على هذا التساؤل، إلا بالإيمان بقدرة الشعب.
كان الخوف قد تسلل إلى قلبي في أحدى أيام الحرب العصيبة، طبعاً الخوف ليس على مصيري الشخصي مطلقاً ولا بأي نسبة، ولكن على البلد وعلى الجيش وأمتنا، نزلت من مسكني فجر أحدى تلك الأيام الرمادية، كانت سيدة كبيرة في السن تشتغل في المطبخ، سألتني وقد توقعت أنني ممن يعلمون ببواطن الأمور لأنها تشاهدني أغيب كثيراً عن البيت وأرتدي أيام الحرب الملابس العسكرية، سألتني ما أخبار الحرب، فأجبتها باقتضاب: أنشاء الله خير، وهي إجابة حيادية. ولكنها أجابتني وبيدها سكين لتقطيع اللحم، وباللهجة الشامية الحلوة : فليأتوا لنريهم سكاكيننا(خلي يجوا تا نأرجيهم سكيكينا) قالتها وهي تهز سكينها، كان ذلك لي درساً بليغاً، فالجماهير عظيمة، كالبحر الذي لا قرار ولا ضفاف له، والشعب دائماً بخير، ولكن علينا ومن يتصدى للعمل القيادي، أن نكون نحن بمستواه.
كان للقيادة مقران سريان، وكان الرفاق أعضاء القيادتين يتواجدون فيهما، حتى ساعات متأخرة من الليل، بالاحرى سويعات قبل بزوغ الفجر، ثم يمضي كل منهم في استراحة ربما لساعتين أو ثلاثة والعودة بعد ذلك إلى المقرات السرية، يتحرك كل منهم صوب مهمة قد يكلف بها.
وبعد مرور أسبوع واحد على الحرب، عندما وجد العدو عزم الجيوش العربية على التحرير، وكانت الإمدادات الأمريكية قد عدلت من الموقف ولكنها لم تكسر إرادة خوض المعركة، لجأت إلى الهجمات الوحشية على المدنيين في المدن ولا سيما دمشق وتدمير البنى الارتكازية (موانئ ومصافي) في محاولة
لصرف الأنظار والاهتمامات ومحاولة خلق تيار داخل سوريا مضاد لشن الحرب، وعلى عكس ما كان يعتقد أن الصهاينة أذكياء وأنهم يدرسون خططهم بعناية، ربما ذلك، ولكن ليس بالعناية العالية، ودون أن يرتكبوا حماقات كبيرة. من تلك مثلاً الإيهام بأن لديهم فرق تخريب تعمل داخل سوريا، ويرسلون لهم رسائل مشفرة، كالإيهام بتدمير السدود ومحطات الكهرباء وربما الاغتيالات، والتحريض على الفتن الطائفية ومحاولات خلق انشقاقات بين السكان.
كما أن العدو الذي فقد مقاتليه من الصف الأول، لا سيما من الطيارين، صار يلجأ إلى الغارات العشوائية تقريباً ولكن دون نتائج تستحق هذا الكم من القنابل والجهد الجوي. ففي أحدى أصائل الحرب، كنت مع الأخوة طلال ناجي وفضل شرور نتفقد الحرب ومظاهرها في مدينة دمشق، وكانت أقود السيارة باتجاه أوتوستراد المطار الدولي، وبينما نحن على مقربة من المطار، ربما كيلومتر واحد، شنت طائرات للعدو يقدر عددها بستة طائرات الهجمات العنيفة على المطار، وقد أعتقدت ورفاقي أن المطار قد دمر بالكامل قياساً إلى عنف الغارة وحجم القنابل، ولكن فيما بعد، شاهدت بنفسي كيف أن قنبلة واحدة فقط سقطت على حافة المطار، وأصلحت في الحال(هناك أسمنت خاص سريع النشاف لمدارج المطارات يعيد الجاهزية خلال بضعة دقائق). كما حدث أن سقط سرب من طائرات الفانتوم في كمين أعده مقاتلون من رماة الصواريخ المضادة للطائرات من الكتف (ستريلا) صرعى كمين محكم أسقط جميع طائرات السرب الستة عشرة بأجمعها.
كان العدو قد هيأ خطط في حرب نفسية ودعائية وتحريضية ومارسها بكثافة، وكان بخلده أن ذلك سيوقع الرعب والصدمة، بين صفوف القوات المسلحة العربية وصفوف الجماهير. ولكنني أؤكد أن العدو فشل فشلاً ذريعاً بل أن أجهزتهم تلك أشغلت بعقلية 5/حزيران/1967 فعلى سبيل المثال، كانت إذاعة العدو تذيع رسائل رمزية وهمية(بالشفرة) إلى عملاء مفترضين في سوريا وربما في مصر ولبنان والأردن، وأركز هنا في حديثي عن سورية باعتبارها ساحة المنازلة المهمة كما أني كنت مطلعاً على الموقف بدرجة تتيح لي أن أقرر بكل جلاء أنهم فشلوا في سوريا وكانوا يذيعون رسائل وهمية إلى أشخاص وهميين بقصد بث الرعب وإرباك الأجهزة الأمنية، والجهد العسكري كبث تعليمات عن تخريب في سدود ومحطات كهربائية..الخ ولكن بعد فترة قصيرة غدت تلك الرسائل مثار سخرية الشعب، وهكذا من يزرع الكذب يحصد السخرية !!
وقد سألني يوماً بروفسور ألماني عن عنصرية ولا ديمقراطية العدو، وقد فاجأني السؤال لأننا نضع تناقضنا مع العدو على أساس احتلاله أراضينا العربية، ففي المصادر الأوربية معطيات مادية على عنصرية العدو، فالكيان الصهيوني قد وضع 152 قانوناً عنصرياً في الوظائف وحق العمل والتعليم والزواج وامتلاك الأرض والحقوق الثقافية والسياسية والرأي ونواح قد لا تخطر على بال أشد الدول عنصرية ودكتاتورية واحتكار للسلطة واحتقاراً للبشر ولحقوق الإنسان والتملك.

    

 (رفيقنا الشهيد المقدم الطيار البطل سمير زينل أستشهد كقائد سرب في القوة الجوية السورية: الملص يعود أثناء خدمته في القوة الجوية العراقية)

كان العدو على درجة عالية من التنظيم والتدريب والاستعداد، ولا يمكن أن يؤخذ على حين غرة، وقد قيل يوماً في أحدى الدول: جيش لديه دولة وليس دولة لديها جيش، وهكذا هو العدو بالضبط، جيش لديه دولة، على خلاف الصورة التي تسوقها عن نفسها، كدولة ديمقراطية وحيدة في الشرق. وربما من المفيد أن نذكر أن طياري العدو كانوا يدركون خطورة تحليقاتهم فوق سوريا بعد إسقاط عشرات الطائرات، فكانوا يرتدون الملابس المدنية تحت الملابس العسكرية، ويحملون جوازات سفر أوربية مع نقود سورية ودخان عليها أشارة الجمارك السورية وإيصالات فنادق، وإذا هبط الطيار بالمظلة سالماً وتوارى عن الأنظار بوسعه أن يخلع بدلته ويتوجه بسيارة أجرة إلى بيروت كأي سائح، لذلك كانت الجماهير السورية تتابع أي طائرة معادية تسقط وتلقي القبض على الطيارين.
رغم كفاءة العدو وحسن أدائه لكنه لم يستطع القضاء ولا حتى تحديد عمل ونشاط الدفاعات الجوية السورية الصاروخية، وفي خلال المعارك التي دامت في سورية24 يوماً كانت القدرات الجوية السورية في أتم الاستعداد، ربما بكفاءة تفوق اليوم الأول للحرب، كانت الدفاعات الجوية العربية السورية على درجة عالية جداً من الكفاءة، ومفخرة للعسكرية العربية بل لكل عربي، فقد روى لي قائد أحدى القواعد الجوية السورية، أن العدو قصف هذه القاعدة مرة واحدة في حرب حزيران/1967 وكانت كافية لإيقاف القاعدة عن العمل طيلة فترة الحرب، فيما قام العدو بقصف هذه القاعدة في حرب تشرين/ أكتوبر/ 1973 عدة مرات في اليوم الواحد، ولكن لم يتوقف عمل القاعدة أكثر من 20 دقيقة أو نصف ساعة.
كان العدو، في عدوان حزيران / 1967 وبفعل المفاجأة والتقنيات العالية، والتدريب، قد تمكن من تدمير أسلحة الجو العربية، مصر سوريا بمعظمها على أرض القواعد، ولكن مثل هذه المفاجأة أو الإنجاز لم تتمكن من تحقيقه في حرب تشرين، وأنا لا أريد أن أنشر أرقام، ولكن بوسعي القول أن عدد الطائرات التي دمرت على الأرض كان ضئيلاً جداً، ربما لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، كانت إما عاطلة أو خارج الخدمة.
كان كل شيء يدور بدقة معقولة في الموقف العربي السوري، القيادة السياسية والعسكرية، الجماهير التي تبدي وعياً وانضباطا مدهشاً واستعداد عال للتضحية، وكانت علامة الأبرز في هذا الموقف، وما زالت ذاكرتي تحتفظ بصور لا تنسى عن قدرة الشعب على العطاء، صور خرافية لا تصدق لولا أني شاهدتها بنفسي، وتلك تجربة كبيرة في العمل النضال. قد يبالغ أحد الرفاق بقدراته، قد يغش قيادته، وقد نعمد إلى التيقن والتثبت من كل مستوى، ولكن الثقة بقوة الجماهير وعطائها أمر يجب أن يكون راسخاً في عقل القائد و القيادات.
وبتقديري أن المعركة قد مرت بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: تفوق عربي سوري : من اليوم الأول السبت 6 / أكتوبر بتفوق واضح للقوات السورية، مع المبادرة بشن الهجمات، حتى الجمعة 11/ أكتوبر، حيث أستطاع العدو استيعاب الهجوم السوري(المدرع خصوصاً) .
المرحلة الثانية: تفوق العدو : ابتداء من يوم الجمعة 6/ أكتوبر يقوم العدو بهجمات معاكسة قوية تهدف لاختراق خطوط 6/ أكتوبر وانتزاع المكاسب السورية على الأرض، استمرت هذه المرحلة إلى استقرار القوات العراقية في الجبهة وإيقاف زخم العدو,
المرحلة الثالثة: تعادل الجبهة : وقد تحقق هذا قبل أيام من وقف إطلاق النار، حتى يوم وقف إطلاق النار على الجبهة الشمالية، وكان وقف إطلاق النار قد تحقق في الجبهة الجنوبية مما ألحق الضرر بالموقف على الجبهة الشمالية.
وكانت الأستعدادت تجري في الجبهة الشمالية من أجل تحقيق التفوق ومنازلة العدو بقوة واستعادة الأراضي المحتلة بتكامل تحشد القوات العراقية، ولكن وقف أطلاق النار في الجبهة الجنوبية بالإضافة إلى الموقف السوفيتي المساند لوقف إطلاق النار، ألحق الوهن بالموقف العام مما رجح خيار قبول سوريا وقف إطلاق النار.
بيد أن خروج مصر من المعركة كان لها تأثيراتها العديدة، منها ضغوط دولية كبيرة مورست عليها، استجاب لها الرئيس السادات، هذا الخروج كان له آثاره المباشرة على الموقف على الجبهة الشمالية، حيث واجهت القيادة هناك ضغوطاً لا تقل عن الضغوط على القيادة في القاهرة، ولا بد من أجراء تقييم موضوعي بعيد كل البعد عن أحكام الهوى والتمنيات، وفي نهاية المطاف، الأمر لا يتعلق بمواقف الأفراد والأحزاب، بل بالمسار التاريخي لمعركة سياسية / عسكرية وبالقدرات المتاحة، وبمفردات أخرى عديدة، ولكني اعتقد أنه كان من الممكن دخول المعركة بحشد أفضل، وإدارة المعركة سياسياً وعسكرياً بصورة أفضل، والخروج بنتائج أفضل، هذه القناعة كانت موجودة (وإن بدرجة تختلف عما هي عليه اليوم) حتى قبل دخول المعركة، وخلالها وبعدها، وهذه القناعة كانت متوفرة على الأقل لدى الرفيق الأسد بقوة ربما أكثر مما كانت لدى الرئيس السادات.
حاول الرفيق الأسد في مراسلات أطلعت عليها بنفسي، أن يثني الرئيس السادات عن قراره بوقف إطلاق النار، إلا أنه عجز عن ذلك، وإن كانت مناشدات الرفيق الأسد للرئيس السادات مليئة بالعزم والأمل والثقة، وسوف يمر الأسد بتجربة مماثلة مع الرئيس السادات حين حاول أن يثنيه عن زيارته المشئومة للقدس المحتلة، ولم ينجح بذلك، وقد عبر عن ذلك بدرجة من الصراحة في ختام زيارة السادات القصيرة لدمشق.
هذه الحادثة وغيرها تكون القناعة أن القرارات السياسية في تكونها وتشكلها الأولى وتبلورها واتخاذها وتنفيذها واستثمار نتائجها، هي عملية بحاجة إلى الكثير من النضوج، فالقنوات التي تساعد متخذي القرارات بحاجة إلى إعادة تشكيلها والنظر في آليات عملها، وضخها للمعلومات والتحليلات لمراكز القرار، ومن ثم فإن آليات العمل في القيادات الصغرى والعليا هي أمور لا بد من بحثها بأعلى درجات الجدية بحيث يبتعد الأمر في نهاية المطاف عن الطابع الفردي للقرارات السياسية لا سيما الاستراتيجية والخطيرة منها.
العرب عبر التاريخ خاضوا وكسبوا معاركهم بأسلوب رئيس وهو أستزاف العدو على المدى البعيد، وباستثناء إلحاق الهزيمة التامة بالفرس وانهيار إمبراطوريتهم، والبيزنطيين بأنتهاء وجودهم للأبد في المشرق العربي وشمال أفريقيا، ولكن المعارك الكبرى اللاحقة فازوا بها لامتلاكهم النفس الطويل والقدرة على المطاولة (Perseverance) والصبر وقدرة التحمل (Longanimity)، وهو نابع من شعور طاغ يتملكهم قيادات وأفراد أنهم أمة قديمة تنتشر على مساحة شاسعة من الأراضي، وهي وإن تفرقت في العصر الحديث ولكن الشعور بوحدة المصير والمستقبل يتملكهم، بفعل عناصر عديدة في مقدمتها لغتهم العبقرية، والتاريخ القديم والحديث المتلاحم بدرجة قوية، هم يقولون ذات الأمثال الشعبية، ويغنون ذات الأغاني، والكل يعتبر شعراءهم العظام شعرائهم هم ... وتضفي ديانتهم التي يعتزون بها، المزيد من العناصر الروحية على العناصر المادية، وهي التي مكنتهم من الصمود قرون طويلة تحت الهيمنة الأجنبية دون أن تتغير خصائصهم. هذه العناصر وربما غيرها أيضاً، هي التي مكنت العرب المسلمين في عصور انحطاطهم من طرد الصليبيين الغزاة، ولاحقاً طرد اعتي القوى الاستعمارية، بل أن معارك التي خاضتها القوى العظمى في الوطن العربي هي التي أنهتها كإمبراطوريات عظمى.

لاحقاً توصل السوريون إلى اتفاقية فصل القوات بشروط (إيجابية) لسورية ضمنوا بها استعادة بعض من الأراضي المحتلة، ثم تجمد الموقف على نحو أكثر انجماداً مما كان عليه الحال بين 1967ـ 1973 والعالمين بالأمور يقولون هناك اتفاقيات أخرى عقدت فيما بعد، كما أن هناك اتفاقيات شفهية والله أعلم...!
الصراع ضد محتل الأرض تحول إلى حزمة من المعادلات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وبتوازنات الموقف الداخلي والخارجي، والتوجهات الدعائية والتلفازية، والأغاني الهابطة، وشعراء الشتائم البذيئة، حتى يطفح فيها الجنس، والعقد النفسية في الكثير منها، ومن هواة نيل التصفيق ولو في المقاهي، حتى صارت القضية يتاجر فيها من هب ودب بطرق مكشوفة، والعيب صار مصطلحاً رجعياً... ولكن هذا كله مؤقت، هذه ليست ظواهر طبيعية، هي اتجاه يريده العدو وحلفاؤه الظاهرين والمستترين .. الشعب يعرفهم وسينال منهم حتماً.
فالعدو الصهيوني مثلاً لا يقاتل بالألوية، أو بجحفل اللواء(لواء زائد وحدات إسناد)، بينما تقاتل الجيوش العربية بصيغة الفرق وأحياناً الفيالق(الجيوش) كما في مصر والعراق، في حين أن القتال بالألوية هي الصيغة الأفضل بتقديري، (لاحقاً أبتدع العقل العسكري العراق في معارك القادسية نظام جحفل معركة، أي لواء تتجحفل معه قطعات أخرى: مدفعية، دروع، مشاة، قوات خاصة، هندسة، وبتقديري أن ذلك تطوير خلاق في الفكر العسكري العربي) لأن العربي يجيد القتال الفردي، وتلك مسألة معقدة، أو ربما تظهر قابليته الفردية ويظهر شجاعته وعبقريته في فنون القتال ضمن وحدات صغيرة، ثم تؤكد التجربة أن الوحدات العربية الصغيرة سرية / فوج / لواء قاتلت دائماً في المعارك أفضل من القتال في قوات كبيرة، وربما أن القتال بقطعات كثيرة، يحتاج بالدرجة الأولى إلى التنسيق الممتاز، بل أن التنسيق كلما كان ممتازاً، كانت النتائج كذلك. ولكن التنسيق بين القطعات اليوم قد أزداد تعقيداً لا سيما بعد تكاثف استخدام الطيران في المعارك، بل وتأسيس فرع طيران الجيش، أو فرسان الجو من الطائرات السمتية(الهليكوبتر) والصواريخ المتوسطة المدى والبعيدة المدى. وأكرر أن العسكرية العربية لم تتوصل حتى الآن إلى صياغة نظريات قتال خاصة بها في مقاتلة العدو الإسرائيلي. بينما تمكن العدو من صياغة النظرية القتالية التي تناسبه، وأجرى عليها خلال سنوات الصراع الطويلة العديد من التطويرات والتحويرات، حتى غدت ملائمة تماماً بالنسبة له، تلبية لعناصر حجم المساحة والسكان، وطبوغرافية الأرض.
بعد التجربة الممتازة في الإنزال خلف خطوط العدو (في الجولان / كفر نفاخ مثلاً) ، لم يفكر أحد بدراسة التجربة وتطويرها، وإدخال وسائل قتال أفضل، وتكوين وحدات مقاتلة عديدة بوحدات صغيرة ولكنها مسلحة تسليحاً مؤثراً، وتجدر الإشارة إلى عقيدة الجنرال الفيتنامي جياب، أن حرب عصابات تعتمد البندقية الآلية(7,62) الشهيرة كلاشنكوف، والقاذف الصاروخي المضاد للدرع (RBG7 )، لو يضاف عليها الصاروخ المحمول المضاد للطائرات ستريلا الشهير (SAM 7)، أو ما يعادل هذه الأسلحة في الوقت الحاضر مع صعوبة الحصول على هذا السلاح، فإن وحدات مؤلفة من 20 عنصر فدائي مدربين تدريباً راقياً، ستكون شديدة الفاعلية، وذات صدمة مؤثرة على العدو.
انتهت الحرب، وبدأت حسابات الخسائر والأرباح، والغريب أن خسائر السوريين في العتاد وتقريباً قي الأفراد كانت تعادل الخسائر التي خسروها في فترة السلم بين عام 1967 وعام 1973 (عدا المدرعات). وكان العدو قد فقد الكثير من عناصره العسكرية(من البشر)، وهو ما لا يمكن تعويضه بسهولة وسرعة، فقد تم رصد وجود عناصر مجندة في مقتبل العمر، أو شيوخ، كما تم رصدت الاستخبارات العسكرية مكالمات ومعلومات دقيقة تدل على أن العدو كان في وضع حرج، وقد أطلعت شخصياً على ما يدل أن قيادات العدو العسكرية كانت على حافة الانهيار. كان العدو قد خسر على الجبهتين أكثر في العتاد والأفراد، وإن كان يتفنن في إخفاء خسائره، إلا أن القيادة كانت مطلعة على تقارير مؤكدة تشير إلى الحجم الكبير لتلك الخسائر، العرب يظهرون تضحياتهم بفخر وسرور والعدو يتكتم عليها، لقد شاهدت بنفسي بيوتاً في دمشق والمحافظات ترفع الرايات العربية لدى استشهاد أحد أفرادها فخراً واعتزازاً.
وقد أفرزت الحرب دروس كثيرة، سياسية، وعسكرية، أو تنظيمية / إدارية، بل بدا أن القيادة الحزبية قد ازدادت نضجاً خلال شهرين، وبدت مرحلة ما قبل الحرب بعيدة جداً وكأن المدة التي تفصلهم عنها سنوات كثيرة، وبدت رؤيتهم إلى بعض القضايا كانت ساذجة، وهكذا فالحرب تجربة سياسية وعسكرية عظيمة، ولكن بثمن باهظ جداً. والغريب أن النقد لم يوجه إلى تلك النواحي التي يعتقد أن تقصيراً صاحب أعمالها وواجباتها، وبالتأكيد كان هناك من يستحق المحاسبة، فهناك من لم يفعل شيء، وهناك من فعل الشيء القليل، وهناك من بوسعه أن يفعل أكثر وأفضل، والمسألة هنا موضوعية لا علاقة لها بالأسماء أو الواجهات، الأمر يتعلق بإغناء التجربة، واستبعاد من هو قليل الكفاءة.
كان تنظيمنا العسكري العراقي قد زج بأثنا عشر من رفاقنا الضباط تتراوح رتبهم بين رتبة المقدم إلى رتبة الملازم. بين طيارين، وضباط مدرعات، واستطلاع، كانوا يعملون كضباط في الجيش العربي السوري، اثنان منهم في سلاح الطيران السوري، كان المقاتل الرفيق المقدم الطيار سمير زينل يتبع دورة طيران على طائرات حديثة، فقطع الدورة وعاد ليقود سربه القديم، والرفيق سمير كان من خيرة طياري القوة الجوية العراقية، درس الطيران في أنكلترة والاتحاد السوفيتي، واسقط بطائرة هوكر هنتر عراقية خلال حرب 1967 طائرة إسرائيلية فوق قاعدة أيج 3، وها هو يقاتلهم كمقاتل طيار في الجيش العربي السوري، وقد قام بأعمال بطولية، وفي اليوم الثاني عشر للحرب، يضطر لإعطاء طائرته لمقاتل طيار من القطر اليمني، وبسبب نقص في المعدات الملاحية في الطائرة التي اقلع بها، خاض معركة غير متكافئة مع طائرات معادية، كبا هذا الفارس الكبير، واستشهد على أرض سوريا العربية، واستشهد 9 ضباط عراقيون آخرون قاتلوا تحت الراية السورية وهم يرتدون الملابس العسكرية العربية السورية ويحملون رتباً أعطوها حقها.. كانوا رفاق أعزاء، كنت المسؤول الحزبي للبعض منهم، ويا افتخاري بهم.. قاتلوا دفاعاً عن وطنهم وقضوا بكبرياء وعانق معظمهم الثرى العربي في مقابر الشهداء إلى جانب شهداء الجيش العراقي في مقبرة نجها بضواحي دمشق.
الاندفاع السوري إلى الجولان كان له أسبابه السياسية أولاً ثم العسكرية، وكانت سبباً لتضحيات لاسيما في سلاح المدرعات، ثم كان لتوقف العمليات على الجبهة المصرية، أو لنقل بطء إيقاعها، الأمر الذي منح العدو فرصة التقاط الأنفاس من جهة والتركيز المكثف على الجبهة السورية، حتى بلغت أرقام الطلعات الجوية أرقاماً فلكية نسبة إلى المعارك الجوية، ثم بعد أن أدرك العدو أن القوات المصرية سوف لن تتوغل في سيناء، أي أنها لا تسعى صوب ممرات سيناء، صار التركيز بالجهد الحربي بأسره والدروع بصفة خاصة، ثم تبين أن العدو يحتفظ بكميات استراتيجية من الدروع في المخازن، هذا بالإضافة إلى الجسر الجوي الفعال الذي أقامته الولايات المتحدة مع العدو، بناء على خسائرها الكبيرة على الجبهتين المصرية والسورية، فقد أسرت القوات المسلحة العربية السورية دبابات معادية(تسنى لي
رؤية بعضها) والعداد فيها يشير إلى مسير كيلومترات فقط وهي المسافة من أرض التحميل إلى الجبهة مباشرة.
بيد أن الحرب انطوت على صفحات أخرى كشف عنها النقاب فيما بعد، هو أن القيادة المصرية كانت قد خططت أن تعبر القناة ولا تبتعد عن خط القناة بمسافة بعيدة لكي تبقى تحت حماية مظلة الصواريخ، الأمر الذي وفر الفرصة كما أسلفنا ليكرس جهده على الجبهة السورية، إلى أن تمت ثغرة الدفرسوار عندما تمكن العدو وبمساعد أستخبارية أمريكية من المرور بين نقطة التمفصل بين الجيشين المصريين الثاني والثالث، إلى الضفة الغربية لقناة السويس، ثم توسعت هذه الثغرة، حتى قبلت مصر قرار وقف أطلاق النار.
منح قبول مصر وقف أطلاق النار فرصة أكبر للعدو من التركيز على الجبهة الشمالية (السورية)، ولكن القوات المسلحة العربية السورية تمكنت من تحقيق مرحلة أستقرر، وبفضل وجود قطعات كبيرة من الجيش العراقي كانت عاملاً في أستقرر الموقف. وفي تلك الأيام غدت دمشق بحق جبهة الأمة العربية، كنا نشاهد جنوداً عرب من المغرب والعراق والسعودية والأردن، لكن وقف أطلاق النار على الجبهة المصرية كان له دوره الحاسم على مسار الحرب.
بعد 48 ساعة من وقف إطلاق النار على الجبهة المصرية، أوقف الجيش السوري أطلاق النار، بعد مداخلات عديدة، وقد قيل الكثير عن الموقف السوري، أقاويل بناء على تأويلات مزاجية وغير واقعية وتفتقر إلى الدقة في كافة الأحوال. وكان أظهار التفاوت في وجهات النظر لم يكن ليخدم المعركة ونتائجها واحتمالاتها وتطور الموقف السياسي والعسكري الان أو المستقبل القريب أو البعيد. ولكنني أقول شهادتي للتاريخ، إنني اطلعت بنفسي إذ كنت حاضراً على رسالة قرأتها بعيني، كتبها الرفيق حافظ الأسد إلى الرئيس السادات يحثه فيها على مواصلة القتال، وكانت كلمات الرسالة / البرقية، وبأقوى العبارات، هي أقصى ما يمكن فعله في تلك الساعات، بل الدقائق الحاسمة.
مكثت القيادة القومية والقطرية للحزب، وشارك في جانب من اجتماعاتها قيادة الجبهة الوطنية، في مناقشة قرار قبول وقف إطلاق النار، وكان العدو قد استولى على أراض جديدة (وإن بمساحة محدودة للغاية)، وهكذا فإن الأمر ينطوي على موقف بالغ الدقة، وكان الجيش العراقي يواصل تحشده، لا سيما بالقطعات المدرعة والطيران، والقيادة العراقية كانت تحبذ مواصلة الحرب، وتقديرها في ذلك أن مواصلة الحرب تخلق ظروف ومعطيات جديدة عسكرياً وسياسياً وشعبياً، لصالح القتال.
دعي أعضاء القيادة إلى الاجتماع في الساعة الخامسة فجراً في القصر الجمهوري الجديد في نهاية شارع أبو رمانة بدمشق، أتصل بي الرفيق أحمد العزاوي، وسألني إن كنت قد تلقيت الدعوة المفاجئة، ثم أخبرني أنه سيمر علي لنذهب معاً إلى القصر الجمهوري لحضور الاجتماع وهو على الأرجح بالغ الأهمية وبحضور الرئيس الرفيق الأسد، وعندما ألتقينا وكان الظلام ما يزال دامساً والشوارع خالية إلا من الدوريات الخاصة، فأسريت الرفيق أحمد بما أفكر وبمكونات قلبي إذ إنني أخشى أن يلجأ الرفيق الأسد إلى الانتحار مثلاً، أو حدوث انقلاب يقوده القادة العسكريون، فنظر أحمد إلى بدهشة شديدة، ثم أنفجر ضاحكاً، وقال: أتتصور.. أتتصور ذلك فعلاً..؟
وانتحى أحمد بالسيارة جانباً وأوقفها، وأعاد السؤال بكل جدية أتتصور ذلك حقاً ...! فقلت له نعم أتصور ذلك لأن من غير المعقول أن لا تفرز هذه المعركة الهائلة نتائج سياسية بحجمها، أو أقل قليلاً ولكن ليس كثيراً ... وأجابه الرفيق أحمد بضحكة أخرى حتى كاد أن يغشى عليه، وقال له : والله يا ياسين أنت درويش نضال، هذا الرجل وضع أقرب رفاقه وأصدقائه في السجن، وأغتال آخرين، أتريده ينتحر، أو يستقيل ...! هل تعتقد أن كثيرون يفكرون مثلك، أنه ليس تفكيراً خاطئاً، ولكننا في وقت مضت فيه الغيرة والحمية، اليوم تراهم مشغولين بتهيئة أغاني النصر المؤزر العظيم والقصائد الرنانة، سيعيدون صياغة الأمور بطريقة متقنة جداً حتى يبدو لك أنت أيضاً أننا حققنا انتصاراً، ولكن لا أحد يريد قول الحقيقة... كل الحقيقة ..!
والحقيقة أن الرفيق أحمد كان درويش نضال من الدرجة الأولى، فرحمه الله لم يكن يعرف في حياته سوى الحزب، الأمة، النضال، وعلى الصعيد الشخصي شرب الشاي بالأستكان البغدادي، وتناول القيمر، والرز العنبر، وكل حياته كانت عبارة عن: قال المناضل فلان، الفرع الفلاني لا يعمل جيداً، الرفيق الفلاني لا يصلح سوى عضو قيادة فرقة لا أكثر، كان الحزب شغله وعمله وبيته ومحرابه وكل ما يمتلك، لم يكن يفرق بين صوت أم كلثوم ونجاة الصغيرة.
ربما الأسد فعل أشياء أخرى، ليست مهمتي أن أدافع عنه، وتلك بتقديري منزلقات تورط في الانجرار إليها، من مواقفه في الحرب الأهلية اللبنانية، أراد أن يكون حيادياً في لبنان، فصارت مساعيه ضد القوى الوطنية، ثم تحالف مع الثورة الإيرانية 1979 وما تلاها من أحداث وضعته في مكان آخر، ويا للأسف أن يكون هذا القائد البعثي الكبير في موضع ما كان يجب أن ينحدر إليه تحت أي طائل، فيساعد جيشاً أجنبياً بالسلاح والمعلومات لضرب جيش عربي حمى سوريا وأنقذ العاصمة دمشق يوماً .. يا للأسف.
كان أتخاذ قرار بوقف إطلاق النار هو أصعب قرار أتخذ في القيادتين القومية والقطرية، وقد استغرق وقتاً طويلاً، ساعات طويلة جداً، لن أبالغ إن قلت ربما لثلاثين ساعة، ساعات متواصلة دون استراحة إلا لبضعة دقائق. كان الطعام يجلب ويظل على الطاولة في غرفة مجاورة، لم يكن أحد ليجد الرغبة في تناول الطعام. كان انسحاب مصر من المعركة أمراً مؤثراً للغاية، فيما كانت العلاقة مع القيادة العراقية أمراً لا يمكن التعويل عليه، والثقة تكاد تكون مفقودة بين الطرفين، وكانت المساهمات العربية الأخرى رمزية أكثر من كونها قوة مؤثرة في الميدان، وكان موقف السوفيات مهماً للغاية وهم كانوا يلحون بضرورة وقف القتال، بل ويلمحون إلى ما هو أكثر من ذلك.
والقيادة في سوريا وبعد تقليب الأمر على وجوه عديدة ارتأت وقف أطلاق النار، الذي لم يكن تاماً بل تواصلت العمليات العسكرية دون توقف وتضمنت التقدم والتراجع لمدة مئة يوم كاملة، يرجح أنها كانت محرجة للعدو أكثر مما هو لسوريا، وهكذا تثبت الظروف والمعطيات أن ليس بوسع العدو مواصلة القتال لفترة طويلة، وهو أمر يطرح أن القيادات العربية لم تتوصل بعد إلى دراسة العدو دراسة علمية دقيقة، وبالتالي وضع الخطط الاستراتيجية والتكتيكية التي تلائم عقيدة العدو العسكرية، وإن هذا لم يحصل حتى يومنا هذا.
ما بعد الحرب
أخيراً أتخذ قرار بوقف إطلاق النار، وقبلها بدقائق دارت معركة جوية هائلة بالقرب من أجواء دمشق(اشتركت فيها ربما 45 طائرة من كل طرف)، قريبة لدرجة أن كان بوسعي مراقبة هذا المشهد، مع أول خيط من الفجر من شرفة القصر الجمهوري في أبو رمانة، والموقف برمته كان يحمل على التفكير العميق والمسؤولية البالغة، وكل كلمة في الاجتماعات كان لها وزنها، والجلسات المهمة من هذا النوع كانت تسجل على شرائط، وعلى الأغلب كان يتم أبلاغ أعضاء القيادة أن الجلسة سوف تسجل.
كان موقف البلدان الاشتراكية رائعاً سواء السوفيات، أو البلدان الاشتراكية الأخرى، يوغسلافيا، كوبا، ألمانيا الديمقراطية وبلغاريا وبولونيا وجيكوسلوفاكيا والمجر وكوريا الديمقراطية، كذلك كانت فعالة المساعدات الباكستانية، وقد شاهدت لقاء الرفيق الأسد مع قائد الطيران الباكستاني، الذي تقدم إلى الرئيس الأسد برجاء طالباً تحقيقه، فلما أذن له الرفيق الأسد تقدم هذا القائد بخطوة عسكرية إلى الأمام وأدى التحية وقبل الرفيق الأسد.
الحرب كانت كبيرة في نتائجها السياسية والعسكرية، وأذكر أنني في أحدي في أحد أيام المعركة، التقيت الأخ فضل شرور (أبو فراس) والأخ طلال ناجي(أبو جهاد) وخرجنا نحن الثلاثة معاً بسيارتي نتحدث عن المعركة وأبعادها، وكنا نسير على أتوستراد مطار دمشق الدولي، فصادف في تلك اللحظات معركة جوية كبيرة فوق المطار، وكنا على مقربة لا تزيد على الكيلو متر واحد أو أثنين، وكانت الغارة كبيرة، ربما لسرب من الطائرات(15 طائرة) انهالت على المطار بكافة القنابل الثقيلة والصواريخ، حتى إننا اعتقدنا أن المطار قد مسح عن وجه الأرض. ولكني شاهدت المطار بعد فترة وجيزة من نهاية الحرب، ويا للدهشة، لم يصب في أي من أجزاءه، وهناك قنبلة واحدة فقط، كانت قد سقطت على مدرج الإقلاع المدني، ولم يستغرق إصلاحه سوى نصف ساعة !!
التضحيات السورية، العسكرية والمدنية، كانت كبيرة قياساً إلى الحروب السابقة، ولكنها لم تكن كبيرة قياساً إلى القدرات السورية بصفة عامة، باستثناء الخسائر في المدرعات، الخسائر في العتاد لم تكن شيئاً مهماً، وتم تعويضها بسرعة، وفي غضون أسابيع قليلة أصبح الجيش السوري أفضل تسليحاً من مرحلة ما قبل الحرب، كما علمت أن محاولات مهمة تجري لسد الثغرات في التدريب والتشكيلات والعتاد، بصفة خاصة في القتال ضد المدرعات، وهو ما ثبتت فاعليته فيما بعد عام 1982.
وبتقديري أن العدو قد خسر كثيراً على الجبهة السورية، في الأفراد والمعدات، والأهم من ذلك المعنويات، ومن تلك أسر القوات المسلحة العربية السورية الكثير من أفراده وعتاده وطياريه، وإن كان العدو دائم المبالغة والكذب في خسائره، إلا أن ممارسته الكذب كان شيئاً استثنائيا في هذه الحرب.
كان الحظر الجزئي على النفط له تأثيره السياسي البالغ قبل الاقتصادي على جو المعركة ونتائجها القريبة والبعيدة، محلياً ودولياً، بل أنها كانت العامل الرئيسي في توجه الولايات المتحدة الاستراتيجية حيال حلفائها في أوربا التي لم تكن راضية عنهم أو حيال البلدان العربية وموقفها من الصراع العربي م الصهيوني. وكذلك للأسف أن سلاح النفط لم يستخدم بما يعود على الأقطار العربية بالفوائد المرجوة. وكما هو معروف، فأن جبهتنا العربية ليست متماسكة على نحو كاف ليصعب على الولايات المتحدة اختراقه بعمليات تسلل، واختراق، لا بل بالاقتحام...!!
الحرب تجربة سياسية كبيرة جداً بل هي أكبر من المعركة العسكرية، في مفرداتها وتفاصيلها السياسية والعلاقات والاتصالات والعروض والخدع والأكاذيب ومداخلات غريبة لا تخطر على بال، ودون شك فأن حرب تشرين/ أكتوبر /1973 كانت حافلة بمثل هذه التفاصيل، ولكني أريد أن أقول هنا، أنها كانت فرصة كبيرة لإحراز نصر عسكري كبير، ولكن الولايات المتحدة لم تكن لتسمح بنصر كاسح للعرب، أو هزيمة كبيرة للعدو، بأي الوسائل بما في ذلك التدخل المباشر، ولكن مع ذلك كانت هناك أمكانية لتحقيق نتائج عسكرية وسياسية أفضل، ولكن للأسف، درجة قناعة وقدرات الأطراف ليست متشابهة أو متكافئة، لذلك لا يمكن التعويل على النظريات !!
استمرت الإشتباكات على الجبهة السورية على نحو لا يقل ضراوة عن الحرب، ولم تكن حرب مواقع، يتبادل فيها الأطراف نيران الأسلحة المختلفة، بل أنها كانت تهدف سياسياً إلى أثبات أن ليس هناك خط جبهة، وكان السادات قد توصل إلى اتفاقية فك الاشتباك في الكيلو 101 على نحو ما هو معروف، ولكن العدو كان يتعامل ومن خلفهم، أو من ورائهم بتشدد مع سوريا، لأسباب كثيرة منها أوضاع الجبهة السورية جغرافياً وطبوغرافياً، ولطبيعة الوضع السياسي في سوريا، لذلك كانت الإشتباكات حرباً حقيقية، بل أن البعض أسماها حرب المائة يوم، أمكن خلالها وبعدها لسورية أن تنال مكتسبات عسكرية وسياسية بموجب اتفاقية فض الإشتباك التي عقدت في جنيف.
نجح العدو إذن من خلخلة جبهتنا سياسياَ قبل أن تكون عسكرية(وقوة العدو تكمن في السياسة لا في الاسلحة ..! الذي كان)، ثم بدأت تتضح خيوط وتفاصيل موقف كان السادات يعمل له منذ زمن بعيد، سابق للحرب على أية حال، كان هناك أفق(لنسميه هكذا ! ) يتجه صوبه السادات منذ استلامه الرئاسة بعد وفاة القائد جمال عبد الناصر، وذلك بالتراجع خطوة خطوة، وإزالة الإرث الناصري تدريجياً. ابتدأت بإيقاف التواصل في الخط الاجتماعي الناصري، بما يسمى (بالانفتاح) وذيوع قصص القطط السمان والفساد الاقتصادي من جراء أطلاق التجارة وإجراءات أخرى مثلت خطاً جديداً، سيكون له آثاره، وإخراج الخبراء السوفيت من مصر بعملية سيئة الإخراج والتنفيذ، وإشاعة مصطلحات سياسية جديدة منها أن الأمريكان بيدهم 99% من حل أزمة الشرق الأوسط.
جاء الرئيس السادات إلى دمشق في زيارة سرية ربما بأيام بعد وقف إطلاق النار، وفي اجتماعه مع القيادة السياسية السورية، ويرافقه مساعديه، ، إقناع القيادة السورية أن قراره بوقف الحرب كان صائباً، وحاول الرئيس السادات عبثاً أن يزيل المرارة من حلقهم، فقد كانت الخيبة والمرارة أكبر من الكلمات ومن المرجح أن قرار السادات كان قد أستقر على العزف المنفرد على آلة السلام ووفقاً للنوتة الأمريكية، ولكن بنفس القيادة السورية الطويل قرروا مواصل العمل والحوار للحصول على ما يمكن الحصول عليه وجرى حوار طويل كان السادات يتنصل من أي التزام واضح، كما لم يكن يطرح نواياه بالوضوح اللازم، وبادره الرفيق أحمد الخطيب، الذي كان قد أصبح رئيس الدولة بعد الحركة (التصحيحية) 1970 التي قادها الرفيق الأسد، وكان رئيساَ لوزراء الاتحاد المقام رسمياً بين سوريا ومصر وليبيا بالإضافة إلى كونه عضو قيادة الحزب، بادر الرفيق الخطيب بسؤال للرئيس السادات وهو ينظر للرفيق الأسد، كأنه يستأذنه الحديث، قائلاً:

أن هذا السؤال إن تفضل الرئيس السادات وأجاب عليه سيكون الإيضاح لكافة المناقشات، هز الرفيق الأسد رأسه موافقاً على سؤال الخطيب، فتقدم الرفيق الخطيب بالسؤال: السيد الرئيس السادات، أرجو الإجابة على ثلاثة تساؤلات مهمة سيكون في الإجابة عليها، وضوح لسائر التساؤلات الأخرى وهي: 
1. هل في نية مصر والرئيس السادات عقد اتفاقية منفردة مع العدو ؟ .
2. هل في نية مصر والرئيس السادات استبدال الاتحاد السوفيتي كحليف استراتيجي لمصر بالولايات المتحدة ؟
3. هل بنية مصر والرئيس السادات التراجع عن المنهج والإجراءات الاشتراكية التي اتخذها الرئيس جمال عبد الناصر، كنظام اجتماعي لمصر ؟ .

أنتفض الرئيس السادات بقوة ضارية وبعصبية ساخطاً على هذه الأسئلة، وكان هي الإجابة الحقيقية على الموقف برمته ...! الأسئلة التي شعر كل من كان في قاعة الاجتماعات أنها حقاً لخصت الهواجس السورية والعربية بصفة عامة، وكشفت مبكراً توجهات الرئيس السادات، وبد واضحاً أن الخطوات اللاحقة، على هولها، ما هي إلا مسألة وقت ليس إلا، سوف يكشف عنها المستقبل، أما أنا فامتلئت أعجاباً بذكاء الرفيق الخطيب، وجرأته.
بدأت القوات العربية بالانسحاب والعودة إلى أقطارها، قدمت التجريدة المغربية (جحفل لواء) استعراضا في شوارع دمشق وخلفت أثار طيبة جداً للجندية العربية، وعادت إلى المغرب العربي تاركة كافة معداتها في دمشق، فقد عادوا بأسلحتهم الفردية فقط (مسدس / بندقية)، ثم روى لي ضابط سوري فيما بعد كان قد رافق القوات العربية المغربية في العودة إلى المغرب ضمن وحدة شرف من الجيش العربي السوري، أن هذه القوات استعرضت في شوارع الدار البيضاء، كان تأثر الجماهير المغربية عاطفياً إلى درجة مذهلة، فقد كان الناس يرمون بأنفسهم ويقبلون أحذية الجنود المغاربة التي قاتلت في الشام !!!
تقدم قائد القوات السعودية(وكانت وحدة مدرعات)إلى الرفيق اللواء الركن مصطفى طلاس وزير الدفاع للتوديع إذ تلقت أمراً بالانسحاب، وفاجأه بطلب غريب قائلاً: سيدي اللواء، جئنا إلى الشام وكنا نتمنى أن نشارك بالمعارك وينال منا شرف الشهادة، ولكننا سنعود إلى بلداننا، وسوف نخجل من شعبنا وأهلنا إن عدنا دون أن نسكب دمائنا دفاعاً عن الشام، نرجوكم سيدي أعطونا مهمة لهذه الليلة في خطوط التماس. وأصر القائد السعودي على طلبه، وقاتلت القوات السعودية تلك الليلة قتالاً مجيداً وقدموا التضحية التي كانوا يتمنونها، ودفنوا شهدائهم في أرض سوريا! قبل أن يمضوا إلى بيوتهم.
هكذا هو شعبنا وهذه قدراته فهل من يوظف هذه الطاقة الخيالية !
يؤسفني أن لا أتمكن من الإسهاب في ذكريات حرب تشرين ومعطياتها السياسية والعسكرية، وأني أعتقد أن ذلك ليس من مهمتي بالدرجة الأولى، وأني أعتقد أن الرفيق مصطفى طلاس هو خير من يستطيع القيام بهذه المهمة، بوصفه مطلعاً على كافة تفاصيلها السياسية والعسكرية وهو أقدر على التميز بين ما يمكن نشره أو لا. ولكن حسبي أني كتبت أبرز المعطيات وأبرز أحداث الحرب.
انغمست القيادة في أعمال مكثفة، فقد كان عليها أن تضع الجهاز الحزبي قطرياً في سوريا وقومياً في منظمات الحزب القومية، داخل الوطن وخارجه، في صورة الموقف بدقة، وقيادة الجماهير على ضوء المعطيات الجديدة التي أفرزتها المعركة، ولكن الجهد المضن الكبير الذي كانت تبذله الدولة والرفيق الأسد مع الفعاليات الحكومية التي كان عليها مواجهة آثار الحرب في الداخل والخارج، والتكيف مع المشكلات التي أثارتها الحرب، ومن أبرزها ارتفاع الأسعار عالمياً بسبب ارتفاع أسعار النفط الخام بصورة تصاعدية كبيرة جداً كنتيجة مباشرة لخفض أنتاج النفط للبلدان العربية المنتجة للنفط، وهكذا تعين على سوريا ومصر كبلدان مستوردة للنفط أن تتدبر ارتفاع أسعاره، وهي التي دفعت دماً في الحرب، فيما ربحت البلدان المصدرة المكاسب في عوائد متصاعدة.
وقد تسنى لي يوماً أن أطالع تقريراً سرياً في غاية الأهمية صاغه مجموعة من ضباط الأركان في أحدى الدول الأوربية الشهيرة بتقدم العلوم العسكرية فيهاً والتقرير يحلل بدقة تامة أن نتائج وقائع الحربية للقيادات العسكرية العربية لا تنطوي على أخطاء أو ضعف خبرة أوقدرة على القتال، بل لأسباب سياسية، فالأهداف السياسية غير واضحة، ومن أبرز ما يذكره التقرير هو قدرة الجيوش العربية الفائقة في خوض المعارك بوحدات صغيرة، والخلل هنا واضح، يتمثل في غياب التنسيق وإدارة المعارك الكبيرة، وعن هذا يمكن أن يقال الكثير.
بدأ الأمر في البداية على أنها مرحلة ولها مستلزماتها(هكذا يفلسف دهاقنة التراجع الأمور) ولكن المؤقت يصبح دائمي والمرحلة تصبح حالة مستقرة والحالة تفرز قادتها من هواة نوم القيلولة، والصيد ومجالسة الحسان... وتناول لذيذ الطعام والشراب.

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/39763-2019-04-17-10-31-34.html

   

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

957 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع