رواية - حفل رئاسي - ولادة من رحم ميت

   

              ولادة من رحم ميت

  

  

لم تكن غرفة الاعدام بعيدة عن هذا القاطع الخاص. 

تنتصب مشنقتها في الجهة المقابلة لموقعه الغربي.
يُشاهَدُ من يمر اليها بوضوح، ومن يقف حولها ومن توضع في رقبته الحبال المفتولة.
يتحرك الجزارون لهذا اليوم دون تمييز، بين أجسادهم الممتلئة، وبين أردية الزيتوني التي تخفي التهافت على تسجيل الرقم الأعلى في الحصاد القائم للأرواح.
التهافت هنا مشروع، التسابق مسموح، وكلاهما سلوك مطلوب، لتأكيد الذات الخاوية، والأرقام العليا تَحصدُ في المقابل مكرمة من الرئيس بشكل مشروع، سيارة جديدة على الأغلب، وربما قطعة أرض في مكان مرموق.
تُسمع الأصوات الباكية نحيباً، دون تمييز بين مصادرها الآتية من قريب.
شخرات الموت التي يطلقها المعذبون، في لحظات سحب العصا، وشد الحبل المدلى على الرقاب بين الحين والحين، هي القابلة للتمييز من قبلهم، نزلاء أعتادوا التوجه بانتباههم صوب المكان المخصص، لقبض الارواح التائهة، يوم الاحد من كل أسبوع، بعدّهِ يوم القصاص أو التنفيذ، مصطلح شائع بين سكنة أبو غريب، سجانون ومسجونون.
ينتظر غالبيتهم هذا اليوم ليجلدون بأحداثه ذوات أتعبها السب والشتم، وكلام السجانين القذر وعصيّي التعذيب.
يشغلون عقول فرغت خلاياها، من خزين الذاكرة المُنَوعْ، في قطاع خاص معزول تماماً عن العراقيين، وباقي شعوب حسبت على العالم الكبير، كأنهم مجبولون على المشاهدة والسماع، أو قد يكونون من بين الذين أدمنوا على إحتياجها، للتعامل مع وقت الفراغ.
شرع سرمد من زنزانته السادسة، بِعَدْ الضحايا المارين بلباسهم البرتقالي، الممهور بأحكام الاعدام أستغرب سير اثنان منهم معاً. صاغ من عنده تهم لكل واحد منهم، تخيل محاكمهم وكأنها صورية، لا تختلف كثيراً عن محاكمته، وباقي الزملاء قبل سنتين في بناية الحاكمية. وضع من خياله رئيساً لكل محكمة افتراضية، كذلك حزبي كبير، ومع هذا لم يتخيل له درجة، مثل التي أمتلكها رئيس محكمته السيد نعيم، عضواً في القيادة القومية للحزب، ولم يتخيل الأعضاء الذين وضعوا تواقيعهم، على الاحكام المكتوبة مسبقاً من الجهات العليا مثل أعضاء محكمته، كبار مسؤولي القيادة القطرية، يرفع فوق رؤوسهم رئيس جهاز المخابرات الجديد سوط الرقابة، مثل حامل سيف يقاتل أعزل.
تعيده الذاكرة الى الدقائق الخمس، التي أستغرقتها محاكمته، والسؤالين المشهورين:
هل لديك شيئا تضيفه؟.
هل أنت بريء أم مذنب؟.
توقف عن التفكير، تنبه الى مرور چاسب من أمام الزنزانة، بعصاه المرصعة بمسامير اللسع الآدمي. خشى اثارة انتباهه عند الاستمرار في الغوص بالتفكير، فجلس القرفصاء في الزاوية القريبة، كاتماً الانفاس، لا يريد تقديمه، وجبة تعذيب صباحي انفرادية، أعتاد چاسب اشتهائها قبل الفطور لأتفه الأسباب.
چاسب الوحش الذي أخذته غفوة الفجر، بسبب أنتظار مفعول حبة ثاليوم أعطاها الى السجين منعم هادي، لاماتته في ساعة متأخرة من الليل، مر مستعجلاً يحث الخطى، بغية اللحاق بحفلة اعدام لم يتعود التأخر عنها من قبل، لأنه أحبها مهنة تُشبع في نفسه غريزة الأنتقام من البشر... حبٌ أو بالمعنى الأدق، رغبةٌ طالما دفعته لأن، يتبرع في البقاء خفيراً ليلة السبت على الاحد، ليحظى بشرف السحب الفوري للعصا، واسقاط الضحية في هوة الموت، متأملاً سماع الرئيس بطولاته في جر العصا ببطء، إمعاناً بتعذيب الضحية، سعياً وراء الحصول على مكرمة منه، قطعة أرض في مدينته السماوة. وكذلك متمتعاً بالجسد الذي يختض متدلياً، بعد انقطاع التروية الدموية عن الدماغ.
تكلم مع أصحابه في غرفة الخفارة ذات مساء، عن حالة أعدمَ فيها طفلاً، لم يتجاوز الرابعة عشر من العمر فقال، كنت أنتظر تلك اللحظة، التي يرتجف فيها جسمه الغض أختضاضاً، تعمدت وضع انشوطة الحبل جانباً، وليس على مؤخرة الرقبة لأبطئ موته، وأزيد فترة الاختضاض، لم أولي تنبيه الطبيب لأن أضعها في مكانها المطلوب، خلف الرقبة، كم هو ممتع ذاك الشخير الذي يحصل في اللحظة العابرة، بين الشنق وبين الوفاة، وكم هي جميلة حركة الجسم عند الاختضاض.
تمر الزوبعة أو يمر چاسب، من دون الاكتراث لوضع النزلاء في القاطع الخاص، مما شجعَ سرمد العودة الى التفكير، وصياغة الخيالات التي تخفف وحشة الزنزانة، والعزلة وآثار تعذيب، ازدادت شدتها بعد أنقضاء ما يقارب السنتين، وعندما وجد متسعاً من الوقت لمزيد من الغوص، في عالم الافتراض، أندفع في خيالاته بعيداً عن الزنزانة، وتهم الاعدام وعذابات الروح، حتى وصل ذوي الضحايا الساكنين بعيداً، عن أسواره المنيعة.
صنع له وصلاً في الخيال يمده اليهم، كلمهم كذلك في الخيال، أحتج أمامهم على فبركة التهم الموجهة، تذكّر زوجات لهم، صورهن حبيبات مخلصات، يخففن من آلام الحزن على فقدان الأحبة، باعتقاد نطق أسمائهن على السنتهم، قبل انقطاع النفس خنقاً بالحبل الغليظ، وصور أسى أمهات شباب، عندما رسم لبعضهن صوراً عقلية، قوامها اللطم على الخدود المتهدلة، واشادات بأولادهن أبطال راحوا شهداء.
تَعلَّمَ التلاعب في الخيال، وتعلّمَ صنع الوصلات، التي يمدها الى من يريد، فالعائلة أسبقية أولى لما يريد، أدمن التخاطب مع أفرادها من هذا السبيل الافتراضي، وأدمن العيش خيالياً معها في الساعات التي يأمره فيها چاسب، الجلوس بوضع القرفصاء أو المراوحة في الزاوية البعيدة للزنزانة، وينساه جالساً هكذا حتى الصباح. مناجاةٌ في الخيال تستغرق جل الوقت، يتصور خلالها أشكال الأولاد، يكبرون في ذاك البيت بمدينة زيونة، ينصح أحياناً، يوجه أحياناً، يُقَبِلُ وجنات يحسبها متوردة أحيان أخرى، يعود بعدها الى الانزواء، يعصره الالم العابر في متاهات العقل، على ضحايا باتت تساق قطعاناً الى المشنقة المنصوبة خصيصاً، الى السياسيين الموسومين بخيانة الحزب والثورة، حسبما روى عن بعض تفاصيلها، المفوض كريم في أوقات هذياناته، بعد الاطمئنان له إثر زلة اللسان عن موضوع الحرب مع إيران، وقصف محطة الكهرباء. انهم الآن يتبادلان الحديث، وبعض الاسرار عند تواجدهما معاً في المطبخ لإعداد وجبات الغذاء، أو في الغرفة الخاصة بالخفراء، لقد أصبح كريم وبفضل العلاقة التي كونها سرمد معه بالذات، الحبل السري الذي يصله بالعالم، خارج أبو غريب.
يَلحقُ چاسب بالركب المتجه لإحياء حفلة اعدام.
امرأة ترتدي بدلة برتقالية، تخذل السيقان النحيلة جسدها المتورم من الوسط.
يجرها إثنان بلباس زيتوني، كأنها أصيبت بشلل الرعاش، خلفها بنصف متر، رجل يرتدي ذات البدلة، يسير باعتدال رغم السلسلة التي تُكبل ساقاه، ومن بعدهم چاسب مستمر في محاولته، وضع أزرار بدلته الزيتوني في أماكنها، اكمالا لقيافته قبل جر العصا، وازهاق الروح التي لا يعرف في الأصل، صحة التهم الموجهة لها.
جَرَ العصا، سلب روح الرجل أولاً، فارتفع صوت المرأة نواحاً، وقبل جر العصا ثانية، علت من حنجرتها الشابة، صرخة تناقلت الجدران، صداها المتسرب خارجاً. أختلطت بعدها الاصوات، كأن شيئا غير مألوف قد حدث.
أنتهت حفلة هذا اليوم، تفرق الخفراء المكلفون باتمام المهمة، كل باتجاه العمل المخصص له في قائمة التوزيع. عاد چاسب الى صومعته، ساعياً الفوز بساعة نوم إضافية، بعد متعة جر العصا وأختضاض جسدين، أزهق أرواحهما في آن معاً.
يبدأ كريم خفارته مشرفاً على خطوات التهذيب، أو التعذيب منذ الصباح، حسب البرنامج الموضوع من خبراء الجهاز، دخل المطبخ لتحديد وجبة الغداء، تقدم منه سرمد مستفسراً عن الصرخة المدوية قبل قليل، وعن شخصين سيقا معاً الى غرفة الموت، فاجابه دون توجس، انهما زوجان شيوعيان، قاتلا الحكومة في صفوف الانصار بشمال العراق، القيَّ القبض عليهما في السيطرة العسكرية بمدينة الخالص، يقال أنهما مكلفان بإيصال، تعليمات شفوية الى قواعد الحزب الشيوعي في بغداد، ويقال أنهما ادعيا تركهما العمل الحزبي، والتوجه الى بغداد للعمل، والعيش مثل غيرهم من أهل العراق. صدر بحقهما الحكم بالاعدام، شنقاً حتى الموت، من قبل محكمة الثورة، نفذ قبل قليل.
أستمر كريم هكذا في الكلام مبيناً أن الصخب الذي حصل، واختلاط الاصوات، يتعلق بكون المتهمة حامل في شهرها الأخير.
لقد توسلت تأجيل التنفيذ حتى حلول الولادة، وعندما رفض رئيس الجهاز التأجيل، وعلق على الطلب "الدولة ليست بحاجة الى خائن جديد". قدمت طلباً آخر باجراء عملية قيصرية لاخراج الطفل البريء قبل التنفيذ، لم تحصل الموافقة أيضا.
كان الموقف برمته مثيراً، باتت خلاله تتوالى التفاصيل من فم، وكأن صاحبه يتعاطف مع الضحية، يخشى إثارة الانتباه، يخاف جماعته القريبين، وان كان محسوباً عليهم، طاقم تم أختياره بامعان لاغراض التعذيب.
توقف قليلاً، التفت نصف التفاتة حول المكان، كمن يخشى قدوم أحد بالصدفة.
حاول سرمد سحبه لاتمام ما بدأه من كلام، باستخدام التعجب وسيلة استثارة، تدفع للاستمرار في الكلام، فأكمل حديثه قائلاً، أن ميادة الزوجة المقاتلة، قاومت الصعود الى منصة الاعدام، صرخت لتأخيره قليلاً، عساها تسمع، صرخة الطفل آخر ما تتمنا، وعندما تيقنت من استحالة التأخير، ولو دقائق معدودات، حاولت فتح ساقيها، بكت بحرقة، استنجدت بالله، ندهت بأسماء الأنبياء والأولياء، كأنها تريد الدخول في دورة المخاض، مازالت تتأمل تكحيل عينيها بوليد ينزل حياً قبل الممات.
لم يمهلها چاسب المهووس بردود فعل الجسم اختضاضاً، بعد التفاف الحبل وقطع الانفاس، لم يلبِ رغبتها الاخيرة قبل التنفيذ، سحب العصا سريعاً هذه المرة، عَلَتْ وجهه العبوس أبتسامة تَشَفي باهتة، كمن حصل على حاجة أنتظرها طويلا.
تدلى جسدها العشريني يختض بشدة، وفي داخله صرخة احتجاج مكتومة، تحركت قدميها بحركات متوالية، وكأنها إستجمعت طاقة شباب، كانت مخزونة قوتها لقطع شريط القماش، الذي يربطهما قدمين قويين.
سقطت على الأرض ميتة، تباعدت ساقاها عصبياً، وكأنها مازالت تتحكم بفتحهما كما هي الحاجة أثناء الولادة التقليدية، عندها انزلق الطفل من بين الفخذين، مطلقاً صرخة ميلاد الى عالم مظلم.
بهت الحضور عجباً من اصرار الضحية على اتمام الولادة ميتةً، أختلفوا على تقرير مصير الطفل الوليد، فتقدم چاسب خطوة باتجاه الطفل راقداً على الارض، يرى ضرورة تركه على ذات الحال يموت، جَنبَ والدته الميتة، أيده الإمام المنتدب لتلاوة الشهادة قبل الموت، في الوقت الذي رأى الطبيب عكس هذا قائلاً، أن العقاب موجه الى الام الخائنة، ولا علاقة للمولود بما ارتكبته من إثم لعين.
نوه بذكاء الى أن الاماتة القصدية، مسؤولية قد تغضب السيد الرئيس، تنويهٌ أراد منه التأثير على چاسب، للحيلولة دون اماتة المولود عمداً. نقاشٌ لم يدم طويلاً، حيث الاتفاق على إبقاء الطفل عند طرف ثالث، لحين الاستفسار عن مصيره من رئيس الجهاز.
السيدة رضية عاملة التنظيف هي الطرف الثالث. لقد تجاوزت الاربعين من العمر، ولم تنجب طفلاً من زوجها العقيم، سمعت تفاصيل النقاش أثناء غسل الأرضية التي غطتها دماء الولادة، الآتية من جثة أعطت مولوداً دون الشعور بآلام المخاض، عرضت أخذ الطفل، تسجيله باسم زوج لها ما فتأ يصلي لمولود ولو بالتبني. حلٌ قبله چاسب، أطلق عليه إسما من عنده "زغيّر" على أن تتركه يموت اذا ما جاء الرفض من قبل السيد رئيس الجهاز.
اللفافة من بقايا ملابس تركتها ميادة في الامانات. غسلت جسمه في الحمام المخصص للمساجين، أزالت الطبقة الدهنية الجينية، لفتهُ بتلك البقايا، واستأذنت الذهاب الى البيت في منطقة الحصوة قريباً من أبو غريب، كأن الحياة عادت اليها، تفكر بالروح التي جاءت من أخرى زهقت تواً.
حزنت مع نفسها على الأم التي لم تر مولودها في لحظة الوفاة.
تمسكت به إبناً كأنها ولدته فعلاً ، سجلته في دائرة النفوس بإسم "وليد" لعدم اقتناعها بالتسمية التي أرادها چاسب، يوم ولادته من رحم أم ميتة.

1. بعد عام 2003 حضر عم الولد الذي يقيم في ألمانيا الى بيت السيدة رضية، مطالبا بإعادة ابن أخيه الذي يعمل حمالاً يدفع عربة في المنطقة، يعيش منها ويعين أهله الذين أحتضنوه على العيش، أراد اصطحابه ليعيش معه والعائلة في ألمانيا، تركت السيدة رضية الخيار للولد، الذي أكد بحضور عمه أنها والدته الحقيقية وزوجها والده، هم أهله، لا يمكنه تركهم في حالهم الفقير، والذهاب بعيداً عنهم ولو الى النعيم.

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/39558-2019-03-27-22-13-57.html

    

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

799 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع