التشكيلية العراقية سعـاد العطار.. رائحة الأساطير الحالمة

          

   التشكيلية العراقية سعـاد العطار.. رائحة الأساطير الحالمة

                  

تعد العراقية سعاد العطار،المولودة في بغداد العام 1942 من الجيل التالي لمرحلة الرواد في العراق ، ولأنها من الفنانات اللاتي لهن فلسفة ولغة فنية معاصرة ومنطلقات تعبيرية خاصة ، استطاعت من خلال تجاربها أن تضع بصمة مميزة في عالم التشكيل ، وصل إلى قمة الإبداع والنجاح... فحققت الشهرة التي جعلتها محط اهتمام المتاحف ونقاد الفن ، لذلك لم تلق أية فنانة في الوطن العربي ما لقيته سعاد العطار من تقدير لأعمالها الفنية ،سواء على الصعيد المحلي أو العالمي.

         

وتعتبر تجربة»العطار ، امتداداً طبيعياً لتجربة جيل الرواد من حيث تأكيد القيم الواقعية في الفن ، والتأكيد على الإنسان وما يحيط به كقيمة أساسية في العمل الفني ، فكانت لوحاتها وصورها الأولى ، إيقاعا متناسقاً تدور حول الحياة الشعبية التي استلهمتها من مدينتها وأسواقها والحكايات الشعبية والمرأة البغدادية.. وأظهرت من خلال تلك الأعمال النابضة بالحيوية والصدق والتفاؤل ، براعة في الربط بين الواقع والخيال والقدرة في التعبير عن روحها أو عن المرأة التي ترى نفسها فيها ، برقة شديدة وألوان جذابة ، نذكر من أعمال هذه المرحلة ذات الأشكال المتحركة والمتنوعة الإيماءات على سبيل المثال: ( في السوق ) و ( حاملات الحطب ) و ( صندوق الأعاجيب ).
في المرحلة الثانية تبين لسعاد العطار أن عناصرها وشخوصها الأولى قد استنفذت طاقتها ، فأخذت تتراجع وتمضي لحال سبيلها ، لصالح عناصر وشخوص أصبحت ساكنة وصامتة ، يكاد المتلقي أن ينفذ إلى أعماق نظراتها الجوفاء الشاكية والمتهمة.
ولعل من يتابع تطور تجربة سعاد من مرحلتها الأولى إلى مرحلتها الثانية يتبين كيف أنها توصلت إلى أسلوب متميز له الكثير من الخصوصية ، يعتمد بالغالب على أسلوب الفن العربي ، خصوصاً الرسم البغدادي للمرحلة المتوسطة ، وركزت في هذه المرحلة على الجانب التراثي ، عندما استلهمت الكثير من الأشكال التراثية مثل: ( سومرية ، إسلامية ، شعبية معاصرة ).

         


كما نلاحظ في لوحات هذه المرحلة تأثرها الكبير بالفن الآشوري ، وهذا عائد لإعجابها البالغ بتلك الحضارة ، بالإضافة لتأكيدها على التأثيرات العباسية والحس الأسطوري ، حيث استلهمت من الأسطورة فكرة»الخصب»أو»النمو»كما في اللوحات التالية: ( من وحي التاريخ ، وقاتلهم لغد أفضل ، ومولد إنسان ).
والفنانة هنا كما يقول الناقد العراقي عادل كامل:»تكشف عن رؤيتها الجمالية وفي الوقت نفسه عن البعد»الغريزي»لعملية الخصب والتطور «.
في التجربة التالية تحتفل سعاد العطار»بالطبيعة ، والإنسان والحيوان» حتى أنها منحت عناصر ورموز لوحاتها ، قيمة جمالية من خلال دراسة الأشجار والأزهار والخيل والعصافير والفراشات والأسماك والجمال ، ورموز أخرى مثل القمر والمرأة.. الخ.

                                

لكنها في هذه التجربة ركزت على عنصر شجرة»النخلة»ككائن حي لها تاريخ ضارب في أقدم الأزمان ولها فلسفتها المتعددة ، فنجدها في العصور القديمة من الأشجار المقدسة ، وهي تمثل شجرة الحياة في عدن ، وبين آلهة الإخصاب عشترون ، وأيضاً جعل العرب منها في العصر الجاهلي إلهاً... ويقول القزويني عنها:»إنها خلقت من فضلة طينة آدم»هذا بالإضافة إلى أن عنصر النخلة عنصر بيئي تمتلئ به العراق من أقصاها إلى أقصاها.
وهي أيضاً اختصار لمعان قديمة ومعتقدات شعبية تدل على أن هذا الرمز يعني النمو والخصب ، كما أنها تحولت في أعمال»العطار» التي أشرنا إليها ، كرمز شخصي ووجداني ملئ بالإسقاطات الإنسانية والاجتماعية.. واستخدمته الفنانة في أعمالها بذات المعنى إلى جانب بقية الرموز والعناصر النباتية ، من أشجار ذات أفرع متعددة ، وزهور وأوراق وسيقان ونباتات زراعية.
وقد أكدت الفنانة على الجانب الجمالي للنخلة حين اختصرتها إلى حوار بين صرامة الخط المستقيم ورقة الخط المقوس ، حتى أنها أشعرت المتلقي من خلال عنصر الضوء الذي استخدمته من اجل أداء وظيفة تعبيرية وجمالية ، بالإيقاع ألطقسي الناتج عن التوالي لصفوف النخيل المنتصبة بجذوعها بكل شموخ وكبرياء.
تلك الرموز التي بدأتها في الأعمال الغرافيكية ، واستمرت في لوحاتها الزيتية ، جمعت لصالح فكرة الخصب ، وهي تشكل في أعمالها رمزاً للإنسانية بشكل عام.
كما أن العناصر والرموز التشخيصية التي وظفتها على مسطح لوحاتها ورغم أنها قريبة من الأجسام المحنطة ، إلا أنها تسرح بالخيال وتذكر بالأحلام ، وتحمل دلالة القوة والنماء والاستمرارية ، وهي ذات معان في التراث العراقي ، فمثلاً يشكل الإنسان سواء كان امرأة أو رجل مع الشجرة عالم واحد ، أما الشكل الكروي الذي يملأ فضاء لوحاتها فهو يرمز إلى الإنسان.

                                    

لقد حاولت الفنانة عبر رموزها أن تكشف عن علاقة جدلية لا يمكن فصلها: علاقة ليست قائمة على الشكل والمضمون حسب ، وإنما قائمة أساساً على محتوى الفن ، وهذا ما حاولت التعبير عنه الفنانة سعاد العطار في تجربتها كما يقول عادل كامل.
وتكشف الفنانة سعاد العطار من خلال تجربتها الجديدة التي عرضتها مذ فترة في»لندن»عن الجانب التراجيدي الدامي لعراق اليوم ، تلك التجربة تضمنت ستة لوحات بحجم كبير ، حملت عنوان» مدينتي المحترقة»وهو عنوان مغاير لعنوان معرضها ـ مدينتي الملونة ـ الذي أقامته في العام 1991 ، وقد عكس المعرض ـ مدينتي المحترقة ـ رؤية الفنانة لما تتعرض له مدينتها ومسقط رأسها بغداد من دمار واحتراق للبيوت والنخيل وللأرض والسماء من جانب ، وقتل وتشريد وترويع للسكان الآمنين من جانب آخر..
وتختلط مع تلك العناصر وجوه غارقة في حزن مأساوي تغلي وراء قسماتها مراجل غضب وازدراء لأناس لا يعترفون بهزيمة ، ورغم كل العذاب والقهر ليس أمامهم سوى الصمود.. ولكن قمر العشاق وأساطير لوحاتها ما زال في الأعماق يتسلق السماء.
إن أعمال سعاد العطار التي تتسم بالتعبيرية والرمزية المستقاة من الواقع والأحلام والتراث والحكايات العراقية ، التي تعبر عن مشاعر الحب والخير والبراءة والنماء ، تحمل كثيراً من المردودات الفكرية من خلال علاقة الرمز التي تحاول أن تذهب به إلى دنيا الحقيقة برؤية حالمة.
أخيراً إن تواصل»العطار»مع موروثها الثقافي والحضاري له علاقة متصلة لتأكيد الهوية العراقية ، وهي هنا تستشعر النبع الروحي للمنمنمة الإسلامية والموروث الشعبي.

          

بقي أن نشير بأنها بأن الفنانة سعاد العطار قد أقامت أول معرض لها وهي في ربيع عمرها العام 1958 ، وبعد عامين حصلت على دبلوم رسم من كاليفورنيا ، وفي سن ألـ 21 كان لها زوج وثلاثة بنات ، ورغم أعباء البيت فقد كانت ترسم وتدرس وتشارك بالمعارض بكل جد واجتهاد ، بعد ذلك تخرجت في كلية البنات العام 1964 ، ثم أتمت دراسة الاختصاص العالي في فن الحفر لمدة 5 سنوات في لندن.
أقامت أكثر من 25 معرضاً ، في عواصم عديدة من العالم بيروت والكويت ودبي وباريس ولندن ونيويورك وغيرها إضافة إلى المعارض التي أقامتها في بغداد.
شاركت في المعارض الوطنية التي أقيمت خارج العراق وساهمت في المعارض المشتركة داخل العراق وهي عضو جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين وعضو نقابة الفنانين العراقيين. حصلت على العديد من الجوائز الدولية منها»ميدالية ذهبية»في فن الحفر من القاهرة عام 1984 وجائزة معرض بيكاسو - ميرو الذي أقيم في بغداد عام 1985 وجائزة تقديرية من البرازيل عام م1985 أيضا وجائزة تقديرية من بينالي مالطا عام 1995م.
أعمالها موزعة على العديد من المتاحف العربية والعالمية ، وهي أول فنان عربي يشارك في المعرض السنوي للأكاديمية الملكية للفنون في لندن ، وبيعت أعمالها مؤخراً في مؤسسة»ساوثبي» العام 2001 وطبعت أعمالها في كتب ووزعت على العالم ، كما قدمت للمتحف العراقي الكثير من الأعمال الفنية التي يمكن عدها من نفائس الفن النسوي.
غـازي انـعـيـم  - جريدة الدستور الاردنية

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

691 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع