سعيد قزاز شجاعة لا توصف

   

         سعيد قزاز شجاعة لا توصف


            

وزراء الداخلية فيْ كل بلدان العالم الثالث، متهمون من قبل الناس، بل انهم متهمون من المخالفين الذين يستحقون العقاب، ومن عتاة المجرمين، فهم ينسبون لهؤلاء الوزراء، سبب البلوى التي احاقت بهم، لا لشيء، الا لكونهم وزراء للداخلية. فوزارة الداخلية، في كل بقاع العالم، تنحصر مسؤوليتها، في تحقيق مفهوم السلامة الوطنية، وجلب المخالفين والمجرمين، الى ساحة القضاء، لينالوا عقابهم، ان كانوا يستحقونه، او ببراءتهم مما نسب لهم من اتهامات. لكن هذا الكلام لا يعني بالضرورة، ان هذه الوزارة او وزرائها، كانوا ملائكة بلا اخطاء. لكن ان نحمل الجمل بما لا يطيقه، فتلك معالجة غير منصفة. وقد تسنى لي وانا في بدايات عمري، وتحديداً بعد ثورة 14 تموز 1958، ان اشاهد من خلال شاشة التلفزيون، رجلا كان الجميع، يشيدون به وبشجاعته ورجولته، امام فوضى زاخرة، بسيل من الهتافات والاهازيج، واحياناً الشتائم، التي شهدتها جلسات المحكمة العسكرية الخاصة "محكمة المهداوي" التي حاكمت رجال العهد الملكي. وكان انعقاد جلسات المحكمة، التي كان ينقلها التلفزيون على الهواء مباشرةً، مناسبة لشد انتباه الجميع، خاصةً اذا كان احد اطرافها الوزير "سعيد قزاز" الذي لم تصادر ارادته او تنكسر عزيمته وشجاعته في تلك المحكمة، برغم كل الضجيج المفتعل. كانت تلك الجلسات اشبه بمباراة بين من هو متحكم ومتسلط، وبين رجل ساقوا ضده، حزمة من الاتهامات. وكانت تلك المباراة- برغم عدم تكافؤها- ازاء الوضع العام المحيط بها، أشبه بمبارزة بين رئيس المحكمة وجمهور الحاضرين من جهة، وبين الرجل "المتهم" والمحاط بكل ما هو عدائي ضده، من جهة اخرى. وقد اسماها العراقيون انذاك محكمة "المهداوي- قزاز" خرج منها العراقيون، بقناعة غير تلك التي انتهت اليها قرارات المحكمة ورئيسها بعد ذلك. كان الوزير-سعيد قزاز- اشجع رجال العهد الملكي في قاعة المحكمة واجسرهم، برغم كل ما احيط به من جو إرهابي، عكس الاخرين، وهم ليسوا قلة، ممن بدت عليهم، علائم الخوف والتوسل والرجاء. لكن –القزاز- اعطى للموقف قيمته، حينما افصح للجميع، ان معادن الرجال، تسطع في حالات الانكسار، وليس في زمن البحبوحة والسلطة حيث كان فيها رجل تلك المرحلة. بل ان اغلب العراقيين، ما زالوا يحفظون جملته الشهيرة التي ضمنها في دفاعه ونصها ((لا ترهبني المشنقة، وعندما اصعد عليها، سأرى الكثيرين ممن لا يستحقون الحياة تحت اقدامي)).

       

وهذا سمو لرجل شجاع وجسور، ومدافع مستميت عن كرامته وعما امن به، لم تستطع كل مستجدات ورداءات الوضع العام في حينه، من ان تصادرها، مما مكنه ان يذل من اراد اذلاله. بل ان سياسيا كبيرا وبحجم الاستاذ "كامل الجادرجي" عبر بشكل ساخر عن ايام تلك المرحلة بما معناه ((ان الثورة لم تقم الا لمحاكمة سعيد قزاز، فهو بطل الثورة)) بعد ان اتضح لديه تخبط الثورة وقيادتها في المشاكل والفوضى، يقابلها لمعان معدن الرجال الذين تحاكمهم محاكمها، واصالتهم في الدفاع عما امنوا به وكرسوا حياتهم لتحقيقه، وفي مقدمتهم الوزير –سعيد قزاز- واذا كنا قد قفزنا الى المشاهد الاخيرة في حياة الرجل، فلكونها مشاهد جديرة بالافتتاحية في الكلام عنه. فسعيد قزاز، من اكفأ وانزه وأقدر رجال الادارة العراقية الذين اضطلعوا بجسام الامور، طيلة مدة خدمته العامة في الدولة العراقية، والتي استمرت اكثر من ثلاثين عاماً، خدم فيها باخلاص وتجرد ومسؤولية. فـ"محمد سعيد مجيد احمد حسن القزاز" المولود عام 1904 م في ناحية "طوزخورماتو" التابعة للواء كركوك، ابن احد الحرفيين المشتغلين بصنع وبيع القماش المنسوج من خيوط القز، درس وتعلم في السليمانية، حتى انهى الدراسة الاعدادية، ليحصل على وظيفة معلم لمادة اللغة الانجليزية. وبعد تأسيس ادارات الدولة العراقية الحديثة، اثر تبوأ الملك –فيصل الاول- العرش، انضم منذ عام 1924، لكوادر هذه الادارة، ليبدأ مسيرة حافلة وطويلة وجديرة بالثناء، دون ان يوقف تعلمه للجديد من العلم الموظف لخدمة الصالح العام. فقدرات الرجل الادارية والوظيفية، تنامت مع سنين خدمته، مما اكسبه خبرة ومعرفة، اهلته ان يذلل الصعاب التي واجهته، بحيث بدى ان تراكم قدراته المعرفية في هذا المجال، كان يأخذ مؤشراً تصاعدياً، جرى صقلها وتطويرها بشكل دائم. ومنذ عام 1934م، بدأ –القزاز- يشق طريقه بجهده ومثابرته، مما أهله ان يشغل وظائف ادارية من الدرجة الاولى، كمدير لناحية او قائمقامية لقضاء او كقومسير للحدود مع ايران او كمدير للداخلية العام، حتى انيطت به متصرفية لواء اربيل عام 1944، ادراكاً من الحكومة العراقية بجدارته لهذه المسؤولية، التي تصادفت مع صعود المد القومي الكردي، الذي كان يقوده- الملا مصطفى البرزاني- والذي قابله –القزاز- في قرية "مازنة" مسدياً اليه النصح وعارضاً عليه الحلول التي تجنب المنطقة المشاكل، متفهماً ما كان يثيره متصرف السليمانية في حينه "معروف جياووك" من مشاكل ازاء مطالب الكرد الوطنية. الا ان ذلك لم يمنع اندلاع العمليات العسكرية في شمالي العراق، التي الت الى هروب البرزاني واعوانه نحو ايران، ومن ثم مساهمتهم لاحقاً في اعمال ما عرف بـ(جمهورية مهاباد) التي لم تستمر طويلاً، بعد ان استطاع الجيش الايراني احتلال المنطقة واعدام قادة الجمهورية، مما دفع الملا مصطفى، اللجوء الى الاتحاد السوفييتي والاقامة فيه لحين ثورة 14 تموز 1958. وفي عام 1946، شغل –القزاز- منصب متصرف الكوت. ومن جديد كان الرجل ذا كفاية لما انيط به من مسؤوليات. ومن الطرائف التي صادفته في عمله هذا، انه كانت لديه سيارة تحمل الرقم (1-كوت) وحينما نقل عام 1948 لمتصرفية كركوك. لاحقه احد شيوخ المنطقة المتنفذين انذاك، طالباً منه ان يتنازل عن رقم سيارته له. فأستغرب –القزاز- هذا التصرف، وعده امراً غير لائق وينم عن قلة ذوق، وخاطب زائره بالقول ((انا سعيد قزاز، سواءً كانت سيارتي تحمل رقم (1) او الرقم (1000)...والارقام وضعت للتنظيم وليس للابهة...)). وانيطت به متصرفية كركوك عام 1948، ومن ثم متصرفية الموصل عام 1949، وكان في كليهما جديراً بما انيط به من مسؤوليات. وبحكم ما تمتع به من شجاعة ورباطة جأش، فانه اقدم على اعتقال احد المتنفذين، ممن يثيرون الشغب في لواء الموصل المدعو "محمود اغا الزيباري" وجرى اعتقاله في منطقة نفوذه ووسط عشائره، مؤكداً بذلك قدرة الدولة على عدم التسامح مع المخالفين. كما انه في وقت اخر، فض وفرق تظاهرة كان يقودها "عدنان جلميران" احد قياديي الحزب الشيوعي العراقي، بعد ان وقف لوحده امام طريق التظاهرة، دون ان يستخدم اجهزة الدولة او سلطتها. وقد ظل متصرفاً للموصل، حتى استيزاره لاول مرة، في الوزارة التي شكلها الفريق "نور الدين محمود" بعد انتفاضة عام 1952. كوزير للشؤون الاجتماعية. لكنه استقال من الوزارة، لتناط به مسؤولية المدير العام لمؤسسة الموانئ العراقية، ليكون بذلك اول عراقي، يتبوأ هذه المسؤولية. ومنذ هذا التاريخ، اصبح-سعيد قزاز- وزيراً دائماً في كل الحكومات العراقية اللاحقة، حتى سقوط النظام الملكي في 14 تموز 1958، وكانت وزارة الداخلية، اشبه بالمحجوزة له، في كل الحكومات التي شارك فيها. وفي اول اجراء اتخذه بعد ان اصبح وزيراً للداخلية عام 1953، الغاءه الاحكام العرفية، مما مهد لاعادة الحريات العامة للشعب، وارجاع الحياة السياسية الى مجراها الطبيعي، كما الغى الرقابة على الصحافة والمطبوعات، وطلب من قيادات وزارته، الكشف عن مصادر ثروتهم، لاهمية ان يكون المسؤول الرسمي، نزيهاً واميناً على المال العام. وفي عام 1954، شهد العراق، واحداً من اخطر الفيضانات في تاريخه، مما عرض العاصمة بغداد للغرق، وكان موقف –القزاز- شجاعاً ومسؤولاً في تلك الاحداث، حينما رفض بحكم مسؤوليته وزيراً للداخلية ورئيساً للجنة الخاصة بالفيضان، أخلاء منطقة الرصافة باتجاه جانب الكرخ في ظل ذلك الجو الملتهب، وعدّ حصول ذلك بداية كارثة لا تحمد عقباها، من جراء تدافع الناس على الجسور القليلة "وكان عددها اثنين " مما يولد خسائر اكبر من خسائر الفيضان. وطلب الاستعانة بالجيش لترميم السدود وحمايتها، مع عمل الكسرات الضرورية في المناطق غير الاهلة بالسكان، خارج الحدود الجغرافية لمدينة بغداد طيلة فترة تلك الازمة. وظل الرجل مرابطاً في مكتبه الرسمي او على السدود الترابية المحيطة ببغداد، وكان وجوده بشخصيته الرزينة والشجاعة، مصدر تشجيع والهام للجميع. بل كانت جهوده وافعاله في ايام تلك المحنة، سبباً في ان يحذو بعض الرسميين حذوه من خلال زياراتهم للقطعات العسكرية او للجهد المدني، مثمنين جهدهم في ما يفعلوه، وكان في مقدمتهم الملك فيصل الثاني والوصي عبد الاله.

المصدر: المشرق - الدكتور حميد حمد السعدون

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

447 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع