يهود العراق، ذكريات وشجون (٣٨) .. يهود العراق: كل عام وأنتم بخير في عيد الأضحى المبارك

       

يهود العراق، ذكريات وشجون (٣٨).. يهود العراق: كل عام وأنتم بخير في عيد الأضحى المبارك

      

  

كتب إليّ بعض القراء محتجين على صمتي الطويل ولعدم مواصلتي نشر ذكرياتي عن العراق، أيام كان شعارها "الدين لله والوطن للجميع"، وكيف ساد السلام والإخاء والتسامح بين أبناء الشعب العراقي الكريم المعطاء مجدّين في بناء عراق جديد مستقل تحت رعاية عائلة هاشمية مجيدة حاولت إعادة أمجاد العرب بالثورة على طغيان الحكم العثماني الفاسد الذي اعتمد على الظلم والتعسف والقوة الغاشمة في جبي الضرائب وفي معاملة الرعية المظلومة معتبرا إياها بقرة حلوب لحكام الباب العالي و"ظل الله على الأرض"..

   

أي السلاطين العثمانيين الذين دأبوا على قتل إخوتهم أو عزلهم في "قفص" محاطين بالنساء والجواري لكي لا ينافسوهم على الحكم، فإذا جاؤوا إلى الحكم كانوا اضعف من أن يحكموا، ثم يبكون مثل النساء ولم يحافظوا عليه مثل الرجال. 

كتب إليّ احدهم معاتبا: "هاي وينك يابا، منتظرين أتكمل"، وزعلت أخرى على صمتي بقولها إنها تنتظر بفارغ الصبر مواصلة ذكرياتي. وعتاب النساء فيه سورة من الزخم المدمر لصبري وتجلدي على المآسي التي تحدث في عراقي الحبيب، مسقط رأسي ومرتع طفولتي وصبايا. ثم وقعت في حيرة، كيف أرد على السيدة التي كتبت في مجلة "الأخبار" الغراء لمحررها الأستاذ والصحفي الكبير صديقي نوري علي ، معلقة على الفصل 37 من ذكريات وشجون، الذي نشر أولا في مجلة "إيلاف"، إيلاف التي نكأت جراح الماضي وفجّرت ينابيع الشجون والذكريات. وقد أرقتني رسالتها وفتحت عيون العذاب الدامي في صدري، معنونة عتابها بـكلمة "مرارة ولوعة في الغربة"، وذلك بتاريخ 31-08-2008. تقول السيدة التي لم تذكر اسمها:
"لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما أتصور اگدر أبقى مثل حضرتك بعيدة عن بغداد... رغم كل العذاب الذي عشناه والعراقيين في بغداد حاليا يعيشونه، بس أحس بأقرب فرصة لازم ارجع إلى بغداد لأنه كأني جسد بدون روح هنا، لأنه روحي هناك محاصرة في بيت اغتصب وسرق وحاليا يخرب تدريجيا. كتاباتك يا سيدي كأنها سكاكين تمزق روحي تجعل عيوني تبكي دما".

فأسأل نفسي، هل أتوقف عن نشر الذكريات التي تؤلم القراء أم استجيب لإلحاح البعض الآخر، وخاصة وأن معظم اللواتي يكتبن لي من حملة الشهادات العالية والدكتوراه، ثم أنسى الأمر وأعلل ضميري بعدم مواصلة الكتابة بأسباب واهية، فاعتذر لهن ولهم بمشاغلي في بداية السنة الدراسية في الجامعة وغير ذلك من الأشغال التي علي انجازها على وجه السرعة ولا تتحمل التأجيل.

     


أما ما جعلني "ادشر الاكو والماكو" وأقول كما قال الكرخي في معلقته "ساعة واكسر الحاسوب وانعل أبو راعيه"، وارمي بكتبي وأبحاثي جانبا، فرسالة العتاب الأخيرة هذه قضت مضجعي وأرقتني، رسالة شخصية وصلتني بالبريد الالكتروني من مغتربة عراقية "كسرتْ قلبي" حين سمعتُ في عتابها غناء سليمة مراد الحنون وصداه بصوت أم كلثوم الشجي:
قلبك صخر جلمود ما حنّ عليّ وأنت أبفرح وابكيف والبيّا بيّا
وهل هناك من يستطيع أن يقف صامتا مكتوف اليدين أمام مثل هذه الرسالة من أخت عراقية تناشدني أن اخفف من عذابها بحديثي عن أيام العز والمحبة في العراق، وقلت للنفس: أأنا جماد، مالي لا تحركني مدام العواطف المنسابة من هذه الرسالة القانية التي تقطر دما والمبللة بدموع أرملة، وأية أرملة، يا ربّ، أخت عراقية قتل زوجها أمام عينيها، وتركت العراق لتنتقل من منفى إلى منفى جديد. فتقول، بحروف دامية (سمحت لنفسي بحذف بعض الكلمات التي قد تساعد على اكتشاف هويتها):
" سـيدي، جاءت رسالتك لتجلدني وتحملني وزر ما حدث ليهود العراق .... وما عاشوه من عذابات الغربة وعدم القدرة على الاندماج .... يا صديقي ... أنا امرأة في أواسط الأربعينات من العمر ولدت في بغداد عام [.. ٍ]196 عشت فيها طفولتي ومراهقتي وشبابي ثم جزءا من كهولتي ... وأعيش الآن [بعيدة عن العراق] ... أملا في إيجاد منفى جديد .... تمنيت أن أكون أديبة أو شاعرة ... اقتحمت فضاءا شائكا سخيفا، أحمل شهادة الدكتوراه في علوم [...]، أرملة فقدت زوجي قتلا على يد مجرمي القاعدة في عام [...200] ... وأنا اقرأ رسالتك انتابتني مشاعر مختلفة ما بين الفرح والألم كأني أعرفك من زمن وقد فرقتنا الأيام ووجدتك أخيرا ... وكأنك العراق بكل أوجاعه وآلامه على [من] فقد أحبته وأعزاءه ثم احتلاله ... لست من القومجية ولا البعثية أنا ابنة لأسرة علمانية تحترم كل الملل والنحل والأديان والعروق ... لست معنية بلونك أو دينك يكفي أنك سامي العراقي ... الإنسان الذي أتحرق شوقا لأقرأ له ... وكما يقول أهل [الجنوب]... بعد عمري وكل اهلي وطوايفي ... سلام."
لم أستطع مواساتها بقولي لها بأن حالتها مع فقدها لزوجها الحنون، أفضل بكثير من العراقيات المتسولات في شوارع العواصم العربية، أو محاولتهن كسب عيشهن بالتفريط بشرفهن الرفيع للحصول على كسرة خبز لأطفالهن الجياع بعد أن نفذ القرش الأحمر الذي ادخروه لليوم الأسود، ولسان حالهن يقول: "نارك يا عراق ولا جنة هَلِي في البلاد العربية"، فالدماء اليوم تراق بين السني والشيعي وليس لكي يسلم شرف العراقيات الرفيع من الأذى، فإنفاق الأموال الطائلة تتم اليوم على القتل والتفجير والمفخخات والأسلحة الفتاكة، والقتل والفتن الطائفية وتشريد الأقليات في العراق أصبح اليوم أهم من شرف العراقيات اللواتي اشتهرن بالعفة والكرامة والتمسك بالأخلاق السامية.
سمعت في هذه الرسالة صوت الشريفة العباسية التي استنجدت صارخة "وا معتصماه!" والتي سمعتها في رسالتها إليّ كأنها تصيح مستنجدة بي "وا سامياه". كبّرت للصرخة الآسية المتوجعة وأقسمت أن انجدها بالجياد الجرد البلق من كلماتي وذكرياتي، قلت لها باني سوف لا أخذلها كما خذلها القدر الغادر، وسأكتب لها لأواسيها، لعلي أروح عن شجونها وشجوني, ولعل ذكرياتي تخفف عنها وطأة عذاب ذكرياتها وغربتها. وأستنجد بعلماء العرب وأشراف المسلمين وحكامهم النيرين لإغاثة هؤلاء المنكوبين. أردت أن أرسل لها رسالة تهنئة بعيد الأضحى المبارك، ولكني ترددت، هل يهنئ المسلمون الأرامل والأيتام والأمهات الثكلى والجرحى لمناسبة عيد ديني. عندنا لا يجوز تهنئة مثل هؤلاء المساكين المصابين بأعزائهم بالأعياد، فهم حزانى يجب مواساتهم بالزكاة والمساعدة من بيت المال وخزائن الحكام والذين أنعم لله عليهم بالمال. لذلك فإني اطلب الفتوى من رجال الدين المسلمين، أفتوني في هذا الأمر. فأنا أتمنى على جميع حجاج المسلمين في هذا العيد المبارك أن يقفوا جميعا في عرفات أن يتضرعون إلى الله أن يكف هذه الفتنة عن المسلمين وغير المسلمين، وأن يهديهم إلى الدين الصحيح، فالإسلام كما هو دين التسامح والأخلاق الكريمة، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وقد أوصى الله خيرا بذوي القربى واليتامى والمساكين والفقراء والأرامل. وأنا اليوم في هذا العيد المبارك أتساءل:
• من أنا لأقول لكم إن نساء المسلمين اليوم أصبحن أرامل ومتسولات، فاحموهن؟
• من أنا لأقول لكم إن أطفال المسلمين أصبحوا يتامى جائعين، فأطعموهم؟
• من أنا لأقول لكم إن شباب المسلمين لم ينعموا بشبابهم، فقد مزقتهم المفخخات في المساجد التي يجب أن يدخلوها آمنين، والأسواق لشراء هدايا العيد، قتلوا بالآلاف حتى ضجت الملائكة لبلواهم باكين منتحبين؟
• من أنا لأقول لكم إن الدين هو الأخلاق الكريمة والتسامح، وسماحة الإسلام فرض واجب على العلماء والمؤمنين؟
• من أنا لأقول لكم إن الجهاد الحقيقي هو جهاد النفس الأمارة بالسوء؟
• من أنا لأقول لكم إن أن تتمسكوا بحبل الله إنه العروة الوثقى في الرحمة فهو أرحم الراحمين؟
• من أنا لأطلب منكم ومن حجاج بيت الله الحرام أجمعين أن يبتهلوا إلى الله تعالى أن يوفق العالم العربي والإسلامي لتحقيق دعوة خادم الحرمين الشريفين إلى إنهاء الصراع الدموي مع إسرائيل ومحاربة الإرهاب في العالم، وإخماد الفتن والجنوح إلى السلام؟
رحم الله أمير الشعراء العرب أحمد شوقي حين قال مخاطبا أبا الزهراء:
وما للمسلمين سواك حصن إذا ما الضرّ مسهمو ونابا
وأن الدين هو الأخلاق الكريمة وصحيح العلم والأدب اللبابَ، والعلم الحديث وسماحة الإسلام يردان إلى الأمم الشبابَ، وإن الشرق أحوج ما يكون اليوم إلى تجديد شباب السلف الصالح.
إنكم يا علماء المسلمين وحجاجه أدرى مني بدينكم السمح وبحقيقة الإسلام وبالحقيقة المحمدية،
"فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين". حقق الله فيكم الآمال.

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/44261-2020-05-07-09-11-05.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

845 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع