غازي الداغستاني : الضابط المهني.. الذي أحبه كل الجيش العراقي

                

غازي الداغستاني : الضابط المهني.. الذي أحبه كل الجيش العراقي

  

من الضباط اللامعين.. شجاع مقدام.. مهيب الشخصية.. يجيد عدة لغات.. وثقافة عالية.. صادقا بآرائه وعقيدته بالمحافظة على العراق والملك والملكية.. من أبرز الضباط خبرة وكفاءة.. أمتاز بالخلق العالي.. والحرص.. والإخلاص.. معروف بين الضباط بنزاهته واستقامته.. فهو مثلاً: يأبى استصحاب خاله معه بسيارة الدولة.. إذا زاره في دائرته نهاية الدوام الرسمي.. وإنما يؤجر سيارة تكسي.. وإن أراد تقديم طلب أجازة مثلاً: فورق الحكومة مقدس.. ولا يجوز استخدامه ألا للأغراض الرسمية.. عفيف لدرجة أن دار سكناه الموروث من والده بيعت بواسطة دائرة الإجراء تسديداً لدين العقاري.. لعدم قدرته على تسديده..
نبذة عن حياته:
هو غازي بن الفريق الأول محمد فاضل باشا الداغستاني والي بغداد بداية العقد الأول للقرن العشرين.. وهو من الأسرة الداغستانية من أقدم الأسر التركمانية في العراق.. وهو والد الجنرال تيمور الداغستاني قائد قوات البلاط الأردني الهاشمي حقبة من الزمن.. ولد غازي الداغستاني في بغداد العام 1911.. وأكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة والثانوية فيها.. ودرس في مدرسة الاليانس.. وكلية فكتوريا بالإسكندرية في مصر..

         

تزوج غازي الداغستاني من السيّدة مديحه الجميل.. ورزق منها بثلاثة.. هم: (تيمور) و (تمارا) و (وندة) ..

          

مجموعة من كبار ضباط الجيش في العهد الملكي حيث يقف الاول من اليمين اللواء الركن غازي الداغستاني معاون رئيس اركان الجيش العراقي وقائد الفرقة الثالثة ثم الفريق الأول الركن نور الدين محمود رئيس وزراء العراق والفريق الركن محمد نجيب الربيعي واخيراً الزعيم الركن احمد محمد يحيى امر اللواء الخامس عشر في الجيش العراقي عام 1954م ...

نشاطه العسكري :
ـ دخل غازي المدرسة العسكرية في بغداد العام 1928.. وتخرج منها العام 1930 برتبة ملازم ثان..
ـ أوفد العام 1938 إلى لندن لمواصلة دراسته في كلية الأركان.. وتخرج منها العام 1940..
ـ أشترك في عدة دورات عسكرية في انكلترا.. وفي كلية (وولج) في لندن لدراسة الفنون العسكرية.. وأختص في الهندسة..
ـ عين العام1940 في مديرية الحركات العسكرية في وزارة الدفاع..
ـ أوفد إلى السفارة البريطانية المحاصرة في بغداد لطلب الهدنة مع السفير البريطاني (السير كينهان كورنواليس) في 30 أيار 1941.. وفي صباح اليوم التالي حصلت الهدنة..
ـ في العام 1948 كان برتبة عقيد.. شغل منصب رئيس ركن القيادة العسكرية العراقية في فلسطين.. وجرح فيها جرحاً بليغاً..
ـ عاد الى بغداد بعد انتهاء الحرب العربية الصهيونية.. وتولى منصب مدير الأشغال العسكرية..
ـ في العام 1952 شغل منصب الملحق العسكري في السفارة العراقية في لندن..
ـ في العام 1953 عاد الى بغداد وعين مديراً للحركات العسكرية..
ـ في العام 1954 عين معاوناً لرئيس أركان الجيش..

     

         اللواء الركن غازي الداغستاني و خلفه الزعيم عبدالكريم قاسم

ـ العام 1954عين معاوناً لرئيس أركان الجيش.. وكان برتبة زعيم ركن..
ـ رفع إلى رتبة لواء ركن العام 1955..
ـ عين قائداً للفرقة المدرعة الثالثة في منطقة جلولاء العام 1956.. حتى انبثاق ثورة 14 تموز العام 1958..

مواقف شجاعة :
للواء الداغستاني مواقف وطنية وبطولية خدم فيها العراق.. منها:
أولاً : التصدي لإقامة قاعدة ذرية أمريكية :
ـ إن وفداً عسكرياً أمريكياً جاء الى العراق العام 1957.. لغرض أقامة قاعدة عسكرية ذرية أمريكية في شمال العراق..
ـ كان ضمن الوفد العراقي اللواء الداغستاني.. حيث تصدى الداغستاني للوفد الأمريكي.. ورفض العرض.. وقال لهم :
ـ إن العراق بلد صغير.. وان أقامة قاعدة عسكرية ذرية في الشمال.. سوف تعرضه للدمار.. إضافة الى عدم وجود ضرورة لذلك..
ـ ما دمتم تملكون قاعدة عسكرية ذرية في تركيا قريبة من الحدود السوفيتية..
ـ وهكذا لم تقام قاعدة ذرية أمريكية على الأراضي العراقية ..

ثانياً:ـ الحصول على السلاح الأمريكي :
ـ العام 1956 سافر وفد عراقي عالي المستوى رفيع برئاسة الأمير عبد الإله (الوصي على العرش) وعضوية ثلاث رؤساء وزارات الى أمريكا.. وكان يرافقهم اللواء الركن غازي الداغستاني.. وجرت محادثات بشأن تسليح الجيش العراقي.. وقد قابل الوفد مستر دالاس وزير خارجية أمريكا.. وعندما تكلم الوصي وفاتحه بشأن الموضوع.. فاجأهم دالاس بكلام جاف.. وقال: (ماذا دهاكم يا عرب ؟.. كلكم تريدون السلاح.. لماذا تريدونه ومن تريدون أن تحاربوا؟)..
استأذن الداغستاني من الوصي للإجابة على سؤال دالاس.. فقال الداغستاني: (أنت يا مستر دالاس صاحب فكرة الحزام الشمالي.. الذي تحول الى حلف بغداد ليكون سداً بوجه الخطر الشيوعي لحماية الشرق الأوسط كما تقولون.. وقد انضممنا نحن للحلف.. واختلفنا مع إخواننا العرب وعادانا بعضهم.. وجئنا هنا لتسليح العراق التي وعدتم به.. فسكت دالاس ولم يجب.. وأصابه الوجوم..

              

الداغستاني وثورة 14 تموز 1958 :
يذكر الضابط الحر العقيد المهندس رجب عبد المجيد انه التقى بالعقيد رفعت الحاج سري قبل اختيار الزعيم الركن عبد الكريم قاسم رئيساً للجنة العليا لتنظيم الضباط الأحرار.. ودار الحديث بينهما حول رئاسة تنظيم الضباط الأحرار فرشح العقيد رجب عبد المجيد اللواء الركن غازي الداغستاني فأعترض العقيد رفعت الحاج سري على أساس إن غازي غير عربي.. ورشح رفعت الحاج سري الفريق الركن رفيق عارف فاعترض رجب عبد المجيد باعتبار رفيق عارف غير عربي أيضا ..
ويروي المقدم خالد عبد الأمير الضابط الإداري لمقر الفرقة المدرعة الثالثة: أن قائد الفرقة اللواء الركن غازي الداغستاني بعد أن سمع بأنباء الثورة صبيحة 14 تموز 1958.. وعلم أن لوائي من فرقته هما من قاما بهذا الفعل.. حضر إلى مطعم الضباط لتناول فطوره الصباحي كالمعتاد.. ومعه بعض ضباط مقر الفرقة.. وعندما قدم له الطعام تظاهر بأنه يتناوله غير مكترث بالأنباء..
وعندما سمعً الضباط الذين كانوا يتناولون الإفطار معه.. وعددهم قليل وصول اللواء التاسع عشر بإمرة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم قرب المدينة متوجها إلى بغداد.. لاحظً الداغستاني حرج هؤلاء الضباط في رغبتهم للخروج لتحية زعيم الثورة (عبد الكريم قاسم).. الذي أذيع من إذاعة بغداد باسمه وتعيينه رئيسا للوزراء.. فلم يمانع الداغستاني.. وسمح لهم بالخروج لتحيته الزعيم قاسم والسلام عليه..
ويضيف المقدم خالد عبد الأمير قائلاً: وكم كان الموقف عظيماً ومؤثراً حين أوقف الزعيم الركن عبد الكريم قاسم سيارته عند الباب النظامي لمعسكر سعد.. وترجلً منها وهو يصافح ويسلم على الضباط والمراتب الذين هبوا لتأييد الثورة ويهتفون باسمه.. وعندما سألهم عن قائد الفرقة أخبروه أنه موجود في مطعم الضباط يتناول طعام الإفطار فأوصاهم به خيراً.. وأن يبقى في موقعه قائداً للفرقة.. ويطيعوا أوامره لحين صدور الأوامر من قيادة الثورة.. قائلاً لهم هله.. هله بقائدكم لواء غازي خوش إزلمه..

     

اعتقاله ومحاكمته :
جرى اعتقال غازي الداغستاني بعد ثورة 14 تموز.. كبقية أقطاب النظام الملكي.. وأحيل الى محكمة الشعب.. بتهمة المساهمة بالتآمر على النظام السوري.. وإقامة نظام يرتبط بالعراق بهدف تولية الأمير عبد الإله عرش سورية ..
اعترف الداغستاني باشتراكه بقضية المؤامرة على سورية كان (بأمر من الحكومة القائمة آنذاك).. ثم أوضح أنه كان أمامه طريقين: أما أن أنفذ الأمر وأتدبر الأمور بقدر استطاعتي بالتعاون مع رفيق عارف (رئيس أركان الجيش).. بحيث لا تنتهي الى إقحام الجيش في حرب مع سورية.. أو أن أقدم استقالتي.. واستقالتي لا تحول دون استمرار المؤامرات.. فقبلتُ الواجب.. وكان أن انتهى الأمر دون أن يشرع في الانقلاب أو تطلق طلقة واحدة في سبيله ودون أن يقوم الجيش العراقي بأي عمل ضد سورية ..

      

دفاع المحامي:
ومما جاء في دفاع المحامي: أن موكلي من كبار الضباط وله شخصية عسكرية فذة ومن بيت أشتهر في مقاومته الانكليز.. وقد استشهد والده في ميدان الشرف والجهاد.. وهو من الرجال المعروفين بمواقفهم الوطنية.. وقد حارب الانكليز في الحرب العراقية البريطانية العام 1941.. وحارب غازي الداغستاني مع أخوته الضباط والجنود في حرب فلسطين العام 1948.. وهو على كل حال ضابط ممتاز.. كما عبر عنه علي أبو نوار..
طارده الاستعمار حتى اتهمته دوائر التحقيقات الجنائية بأنه ينوي القيام بانقلاب عسكري.. وجرى معه التحقيق.. وتقرر إبعاده الى لندن لأنه أصبح محلاً للشبهات.. وقد قاومه أذناب الاستعمار فسلبوا منه أراضي واسعة كانت أسرته تصرفت بها زهاء نصف قرن كامل..
نعم أن شخصية كهذه يأمل الناس منها عملاً وطنياً بارزاً يجعله بعيداً عن معاونة القابضين على زمام الحكم والمتآمرين على الأمة العربية والواقفين حجر عثرة في سبيل تقدمها وتحررها واستقلالها.. واعتقد إن موكلي قام بما يأمله الناس من أمثاله.. فقد أطلع أن للحكومة خطتان:
الأولى: السعي لتبديل الوزارة في سورية.. والإتيان بوزارة موالية للعراق عن طريق مساعدة السوريين المبعدين والناقمين على الحكم القائم ..
الثانية: زج الجيش العراقي لتنفيذ الخطة المذكورة فأجتهد.. لكن اجتهاده أن الخروج من الجيش بتقديم الاستقالة لن يغير القضية أبداً.. والاستقالة انهزام لا يرتضيه الضابط الشجاع ورجح الصمود أمام الكارثة الكبرى.. وهي كارثة زج الجيش في الحادث.. فأخذ يعارض ذلك بأسلوبه الرسمي الرزين.. وقد ظهرت هذه المعارضة بصورة واضحة في البرقية الجوابية التي أرسلها الى رئيس أركان الجيش عندما كان في اسطنبول.. وعلى كل فأنه أمتنع عن المعاونة بعد العدوان الثلاثي على مصر امتناعاً تاماً ..
كما أن موكلي لم يأخذ فلساً واحداً من أموال الدولة.. ولم يحدث أضرار في أموال الدولة قصداً ولم يتسبب أضرارها.. وأخيراً أعتقد أن محكمتكم الموقرة تعرف أن لشخصية اللواء الركن غازي الداغستاني صفات وخدمات كثيرة للجيش وللأمة هي خير شفيع له لديكم عند تدقيق القضية وتقرير مصيره ..
قرار التجريم :
حكمت المحكمة العسكرية العليا الخاصة بتاريخ 10/11/1958 على أمير اللواء الركن المتقاعد غازي الداغستاني بالإعدام شنقاً حتى الموت.. وعند النطق بالحكم ظهر الداغستاني هادئا كعادته.. كما إن قرار الإعدام لم ينفذ بحق غازي الداغستاني ..

الداغستاني في السجن :
ظل الداغستاني في السجن وكان همه الوحيد هو المحافظة على كرامته.. وعدم المساس بها.. وحزً في نفسه أن يرى نفسه بهذا الموقف.. ولا يزوره أحد من أصدقائه أو معارفه.. وكان ينظر إليهم نظرة ملؤها الازدراء والأسف.. مكرراً القول إثناء مكوثه في السجن كان يعامل معاملة خاصة وبكل احترام والجنود وآمر السجن أنور ألحديثي ينادونه بلقب باشا عندما يخاطبونه.. ولم يلبس لباس الإعدام إلا مرة واحدة بأمر من عبد الكريم قاسم.. وبعدها الغيً الأمر ..

لقاء قاسم بالداغستاني :
ـ استدعى عبد الكريم قاسم في أحدى ليالي الجمع غازي الداغستاني.. الذي حضر بملابسه الاعتيادية دون أي تحفظ يشير إلى كونه سجيناً..كانت المقابلة ودية جداً تسودها روح الصداقة والاحترام وتخللها تناول الشاي والعشاء.. بعدها اقسم عبد الكريم قاسم لغازي الداغستاني أنه لن يعدمه.. بل سيطلق سراحه قبل أن تمر السنة على محاكمته.. ثم زوده مجموعة من الصحف.. وأمر أن ينقل من زنزانة الإعدام إلى أحدى الغرف في السجن المركزي.. وسمح لعائلته بزيارته.. وكان في أثناء الحديث يخاطبه بكلمة (باشا) أو أبو (تيمور) ..

              

ـ تروي تمارا الداغستاني نقلا عن والدها: إن قاسم شكر الداغستاني في هذه المقابلة على التقرير الذي رفعه الى المراجع العسكرية العليا.. والتي يشيد فيه بعبد الكريم كضابط لامع ..

      
أما عن عبد السلام عارف فقد كتب الداغستاني يقول: إن عارف لا يصلح أن يكون ضابطاً في الجيش العراقي.. ويبدو أن عبد السلام قد قرأ التقرير الذي كتبه الداغستاني عنه.. وظل يكظم الغيظ عليه.. ويتحين الفرص للانتقام منه !
وفي الذكرى الثالثة لثورة 14 تموز 1958 أصدر الزعيم عبد الكريم قاسم عفواً عن جميع أقطاب النظام الملكي فأطلق سراحه.. غادر الداغستاني العراق إلى بريطانيا.. واستقر في لندن..
وفاته :
في 11 كانون الثاني العام 1966 الموافق 13 شعبان 1386 هـ توفيً غازي الداغستاني اثر نوبة قلبية في لندن.. وقررت عائلته دفنه في العراق حسب طلبه.. إلا إن عبد السلام عارف (رئيس الجمهورية.. آنذاك) رفض أن ينقل جثمان الداغستاني إلى العراق.. لكن عائلته نقلته قبل أن تستحصل على الموافقات الرسمية.. وكان باستقبال الجثمان في مطار بغداد رئيس الوزراء طاهر يحيى وعدد كبير من ضباط الجيش!.. فاتصل طاهر يحيى هاتفياً بعبد السلام عارف من المطار.. وقال له أن هناك حشداً كبيراً من الشخصيات العراقية والضباط باستقبال الجثمان.. ولا يمكن منعهم أو منع دخول الجنازة الى العراق.. بلع عبد السلام عارف لسانه وسكت حانقا.. فيما شُيعً الداغستاني تشيعاً مهيباً وحاشداً.. ودفن في مقبرة الأمام الأعظم ..

المصدر الدكتور حسن هادي عليوي  كتاب غير منشور الشخصيات السياسية العراقية من 1921 لغاية 2003
  

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

646 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع