د. سعد ناجي جواد
نواب برلمان يحصلون على مقاعدهم (بالزحف)… نموذج ديمقراطي عراقي جديد
ربما يكون هذا التعبير غريب على غير العراقيين، بل وحتى على الجيل الجديد من العراقيين. وخلاصة قصته ان المرحوم الزعيم (الفريق) عبد الكريم قاسم، عندما وصل الى منصب رئيس الوزراء في العهد الجمهوري عام 1958، اتخذ قرارا غريبا وعجيبا وغير مسبوق اعتبر فيه كل الراسبين في دراساتهم في تلك السنة الدراسية، وفي كافة المراحل ناجحين ولهم الحق في الانتقال الى المرحلة الدراسية التالية، وهذا القرار شمل حتى الذين كانوا مسجلين كطلاب ولم يذهبوا يوما واحدا الى مدارسهم او كلياتهم. هذا الاجراء عُرِف ب (قرار الزحف). وبسبب هذا القرار تساوى الفاشل في الدراسة مع الناجح فيها، وظلت الكليات والمعاهد الاجنبية لمدة طويلة ترفض قبول اي طالب عراقي للدراسة فيها الا بعد ان يقدم شهادته للدراسة الثانوية (التوجيهي)، والتي تؤهله للالتحاق بالجامعة، لتتاكد بانه نجح بحق ولم ينجح بالزحف،
البرلمان العراقي جدد هذه التجربة يوم اول امس وبطريقة اسوا وبابعاد اكثر ضررا، وذلك بان اعتبر فاشلين خسروا في الانتخابات ولم يختارهم الشعب، اعتبرهم نوابا مكتملي العضوية وأجلَسهم في البرلمان ومنحهم كل الحقوق الدستورية والحصانة التي تحميهم من كل مسآءلة، وبذلك اعطاهم الحق ليختاروا من سيشكل الحكومة الجديدة ومن يكون رئيس الوزراء القادم، وحق الرفض او الموافقة على من يكون وزيرا وبعدها من يكون سفيرا وصولا لكل المناصب المهمة الاخرى.
هذه الظاهرة (الديمقراطية) النادرة التي لا يمكن ان تحدث الا في عراق ما بعد الاحتلال، تجسد مدى الاهتمام الذي توليه الاحزاب والوجوه السياسية التي تسيدت المشهد السياسي في العراق منذ اكثر من تسعة عشر عاما لمشاعر ولاصوات الناخبين وللعملية الديمقراطية ولمستقبل العراق والعملية الاصلاحية المطلوبة.
بصورة ملخصة وسريعة فان المشكلة في هذا الامر الخطير وغير المسبوق تتعلق اولا بمدى قانونية هذا الاجراء وثانيا شرعيته الدستورية والسياسية وثالثا والاهم شرعيته الاخلاقية. قانونيا لا يوجد ما يعطي البرلمان الحق في استبدال هذا العدد الكبير من النواب الفائزين الذين يمثلون الاغلبية، (بموجب اصوات الناخبين)، (بنواب) كانوا قد خسروا الانتخابات ولم ينجحوا في الحصول على ثقة الناخبين. نعم القانون اعطى لعضو البرلمان الحق في الاستقالة، ولكنه لم يتحدث عن طريقة استبداله، والاهم ان القانون لم يتحدث عن الاستقالات الجماعية، خاصة اذا كانت من الكتلة الفائزة باكبر عدد من المقاعد. ثم ان كل المعلومات المتوفرة توكد على ان نسبة من شارك في الانتخابات الأخيرة لم تتجاوز ال 20% وبانسحاب التيار الصدري، سواء اتفقنا او اختلفنا معه، فان من يجلس في البرلمان الان لا يمثلون الا 10% او اكثر بقليل من اصوات الناخبين. بكلمة اخرى وفي المحصلة النهائية ان اصوات نسبة عالية من الناخبين قد رميت في سلة المهملات، وان اراء وطموحات 90% من الناخبين العراقيين اعتبرت غير مهمة او لا قيمة لها في تشكيل الحكومة القادمة.
من الناحية الدستورية فان الدستور ينص على ان مجلس النواب يتكون من النواب الفائزين، باعلى الاصوات وليس الخاسرين. ثم كيف آثرت المحكمة الاتحادية السكوت على هذا الاجراء الذي يشكل طعنة للديمقراطية التي يتبجح بها واضعو دستور 2005 المشوه والسيء اصلا. ولماذا لم تصدر اي قرار بشان الاستقالة الجماعية، وهي التي كانت حريصة على تعطيل عمل البرلمان عندما اصرت على حضور 220 عضوا في الاقل كي يستطيع البرلمان اختيار رئيسا للجمهورية وتسمية رئيسا للوزراء، واخيرا كيف يمكن ان تعتبر قرارات هكذا برلمان دستورية وتمثل راي الشعب، وبوجود غالبية من الاعضاء الذين لا يمثلون اختيار الشعب؟ ثم اين موقف رئيس الجمهورية (راعي وحامي الدستور والساهر على تطبيقه) من هذا الاجراء؟ واخيرا كيف يقبل رئيس البرلمان نفسه ان يستمر في عقد الجلسات بصورة اعتيادية ومن دون حتى ان يطلب من المحكمة الاتحادية رايا قانونيا حول هذه الحالة؟
اما من الناحية الاخلاقية فان هذه المشكلة تاخذ ابعادا عديدة لا يمكن اغفالها، اولا كيف يقبل الفاشل في الانتخابات ان يجلس في مقعد نائب فائز؟ (ولو ان في جو الفساد السائد يعتبر هذا التصرف امرا طبيعيا). ثانيا واخلاقيا ايضا كيف تقبل الكتل السياسية الخاسرة في الانتخابات ان تحصل على الاغلبية بهذه الطريقة الملتوية وغير الدستورية، وكيف ستبرر هي والنواب الفاشلين ذلك للجمهور الذي لم يختارهم ولم ينتخبهم؟ واذا ما سارع الفاشلون الى تشكيل حكومة من وجوه فاسدة او في احسن الاحوال فشلت في تجارب سابقة، وهو الاحتمال الارجح قياسا على الاسماء التي يتم تداولها، كيف لهم ان يوقفوا غضب الجماهير التي تعاني الامرين؟ اليس هذا دليل على ان الفساد والرغبة في الحصول على السحت الحرام هو ما جعلهم ان يقبلوا بهذا الحل الذي لا يمكن الا ان يوصف باللاخلاقي من الناحية السياسية على اقل تقدير. ثم من الناحية الاخلاقية السياسية ايضا اين موقف باقي الكتلة التي تضامنت مع التيار الصدري اثناء الانتخابات وبعدها، ولماذا لم تتضامن مع قرار التيار الصدري الذي دعم مرشحهم لرئاسة مجلس النواب مثلا؟ وهل ان الحصول على هذا المنصب اعتبر هو الاساس ولا يمكن التفريط به بالنسبة لكتلة تقدم التي يتزعمها رئيس مجلس النواب نفسه؟ وان ابقاء الحال السياسي على هذه الوضعية سيمنح الحليف الثاني المتمثل بالحزب الديمقراطي الكردستاني فرصة ذهبية اخرى للحصول على تنازلات اكبر من السلطة المركزية الضعيفة والتي ستصل نتيجة للتزوير؟ وهذا ما قد يفسر عدم اعتراضه عليها؟
طبعا التيار الصدري يلام هو الاخر على ما آلت اليه الامور، لقد كان الاجدر بالقائمين عليه ان يجمعوا تواقيع ثلث الاعضاء، وهم يمتلكون ذلك حسب الكتلة التي اعلنوها بالتحالف مع الحزب الديمقراطي الكردستاني وتكتل رئيس البرلمان، ويطلبوا حل البرلمان واعادة الانتخابات، او على اقل تقدير ان يبقوا في البرلمان لمراقبة عمل الحكومة القادمة، والتي تشير كل الدلائل انها ستعمل بحرية وبدون وجود اية مراقبة حقيقية تذكر.
ربما يقول قائل ان كل هذا متوقع، وهو استمرار لما جرى منذ ان احتُلَ العراق، وان انتخابات جديدة في ظل وجود المال الفاسد الذي يستطيع ان يشتري كل شيء وعدم وجود اية محاسبة للفاسدين لن تغير شيئا، وهذا كلام صحيح جدا ووارد، ولكن سبب رفض هذه الحالة والمطالبة برفضها، بالاضافة الى وجود خرق قانوني ودستوري فاضح ، هو ان ماجرى يعني استمرار معاناة العراقيين ومن كل النواحي في ظل هذه الصراعات بين الكتل من اجل المناصب، وخوف على مستقبل العراق الذي يدخل في كل يوم نفق مظلم جديد، والاهم الخشية بل الخوف الحقيقي على الوفرة المالية التي تحققت بسبب ارتفاع اسعار النفط والمهددة بالسرقة والتبذير في ظل الوضع القائم، وفي ظل عدم وجود رقيب او حسيب. ويمكن القول ان بوادر هذا الامر قد ظهرت بتشريع قانون ما عرف ب (الامن الغذائي). ترى متى يشعر العراقيون ان الوقت قد حان لكي يبادروا الى اصلاح الامور بانفسهم وينهوا هذه الحالة الشاذة التي لم يسبق ان مر بها العراق الحديث منذ تاسيسه قبل اكثر من مائة عام؟
1591 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع