حقائق حول بدء دخول الافكار الماركسية الى العراق

   

حقائق حول بدء دخول الافكار الماركسية الى العراق

بذلت روسيا السوفيتية الكثير من الجهود في سبيل نشر الافكار الماركسية  والتنظيمات الشيوعية في دول الشرق، وكان في مقدمة هذه الجهود نشاط الاممية  الشيوعية الثالثة”الكومنترن". فعندما عقد الاخير اجتماعه الاول في اذار  1919، فضح قيام الدول الاستعمارية بدفع العرب مع غيرهم من شعوب المستعمرات  ليكونو وقوداً لما اسماه”الحرب الامبريالية"،

وفي مؤتمره الثاني الذي عقد في تموز 1920، اشار بشكل واضح الى الوحدة العربية،والى اعادة توحيد الدول التي قسمت بشكل مصطنع يتفق ومصالح البروليتاريا في تلك الدول، كما اشار الى قضية فلسطين وما يخطط لتقسيمها.
بعد مؤتمر الكومنترن الثاني، وجهت اللجنة التنفيذية للكومنترن دعوتها الى شعوب الشرق لحضور مؤتمر باكو الخاص بشعوب الشرق. وقد اتخذت هذه الدعوى شكل نداء موجه الى فلاحي وعمال ايران وارمينيا وفلاحي العراق وتركيا وسورية والجزيرة العربية، تحثهم على الثورة وحمل السلاح ضد الوجود الاجنبي، والى ضرورة حضور هذا المؤتمر،فضلا عن توضيح اهداف الاممية الشيوعية. ان اهم ما جاء في هذا البيان”يا فلاحي وعمال ايران ان حكومة طهران وعملاءها تنهبكم. لقد استولى عملاء حكومة طهران على الارض وسيطروا عليها...يا فلاحي العراق لقد اعلن الانكليز استقلال بلادكم، و(80) الف جندي انكليزي لا زالوا يعتدون على ارضكم وينهبون ويقتلون ويستبيحون الاعراض... يافلاحي الاناضول ان القسطنطينية لا تزال تحت مرمى نيران الحكومات الانكليزية والبريطانية والفرنسية... ياعمال وفلاحي ارمينيا انتم ضحايا الرأسمالية الاجنبية منذ سنوات... يا فلاحي سورية والجزيرة العربية ان الانكليز والفرنسيين قد وعدوكم بالاستقلال ولكن جيوشهم تحتل اراضيكم..يا عمال وفلاحي الشرق الادنى وحدوا صفوفكم اقيموا سلطة العمال والفلاحين،تسلحوا وانظموا الى جيش العمال والفلاحين الروس. ويجب ان يلتقي بسلام في باكو الاف العمال والفلاحين والعرب والارمن والايرانيين لتحرير الشرق الادنى"
تحت شعار”ياعمال العالم وايتها الشعوب المضطهدة اتحدوا”عقد مؤتمر شعوب الشرق في باكو، اجتماعاته للمدة من (1-8) ايلول 1920،بحضور (2050) مندوباً من بينهم ستة من العرب. ان هؤلاء العرب كانوا من مصر وفلسطين وسورية والجزيرة العربية. وقيل ان شكيب ارسلان كان احد العرب الذين حضروا المؤتمر، ولا يتوفر ما يثبت ذلك، لان محاضر المؤتمر لم تشر الى هؤلاء العرب، ولم تذكر ان احداً منهم تكلم في المؤتمر،فضلا عن ان الدوائر السوفيتية نفسها لم تشر الى هذا الموضوع وانهى المؤتمر اعماله باصدار نداء الى شعوب الشرق من عمال وفلاحين حثهم فيه على الانضواء تحت راية الاممية الشيوعية لاخراج الاستعمار البريطاني من اراضي الشرق والتخلص من عبودية الرأسمالية والاستعمار، والقضاء على بريطانيا،”اخر قراصنة الامبريالية”كما وصفها النداء نفسه.
 وقد اصدر مؤتمر شعوب الشرق ثلاث وثائق مهمة وهي”بيان المؤتمر الى شعوب الشرق” و”موضوعات في المسألة الزراعية”و"نداء مؤتمر شعوب الشرق الى عمال اوربا وامريكا واليابان". كما اتخذ في اليوم الاخير من المؤتمر عددا من القرارات المهمة بشأن اجتماعات مؤتمر شعوب الشرق، وتأسيس مجلس الدعاية والعمل لشعوب الشرق من (48) عضوا، وهو المجلس الذي كان من المقرر له ان يصبح لجنة تنفيذية تتمتع بصلاحيات واسعة خلال المدد التي تقع بين اجتماعات المؤتمر نفسه، مثل تنظيم العمل الدعائي في كل بلدان الشرق، واصدار مجلة وجريدة، فضلاً عن  الكراريس والبيانات وفتح جامعة للعلوم الاجتماعية خاصة بالعاملين في الشرق، وتوحيد ومساعدة حركات التحرر في بلدان الشرق.

وقد اشار الدكتور كمال مظهر احمد في دراسته الى مايثبت الاهمية التاريخية لمؤتمر شعوب الشرق وتأثيره في العراق واتصال زعماء ثورة العشرين مثل الشيخ الخالصي ومحمد الصدر بعد نفيهم الى(ايران) بالحكومة السوفيتية بشأن رفع شكوى ضد المعاهدة العراقية – البريطاية لعام 1922، الى مؤتمر لوزان. وهو رأي جدير بالقبول والتقدير،ولا سيما بشأن تأثير نداءات هذا المؤتمر في زعماء الحركة الوطنية في العراق.ينظر : كمال مظهر احمد، حقائق عن مؤتمر شعوب الشرق، ص92.ومن الجدير بالذكر ان فكرة الأتصال بالسوفيت قد تولدت لدى زعماء الحركة الوطنية قبل مؤتمر شعوب الشرق،وتحديدا منذ ايام ثورة العشرين ، فقد نشرت جريدة”الفرات”الناطقة بأسم الثورة في عددها الثالث الصادر في 21 اب 1920، مقالاً تخير الثوار فيه، بين الوقوف مع بريطانيا ضد السوفيت بعد ان تحصل من بريطانيا على وعود كافية لنيل الأستقلال، او الوقوف الى جانب السوفيت ضد البريطانيين
فضلاًعن البيانات التي اصدرها مؤتمر باكو والكومنترن، بذل الكومنترن جهوداً في ايفاد المبعوثين الشيوعيين الى دول الشرق لنشر التعاليم الماركسية وتأسيس الخلايا الشيوعية.  ففي مصر وتحديداً في مدينة الاسكندرية أسس”جوزيف روزنتال"،العامل لحساب الكومنترن ،النادي الشيوعي في عام 1920. وفي عام 1921 أسس الحزب الشيوعي المصري بأسم”الحزب الاشتراكي المصري”. احتفظ الحزب بأسمه الذي حمله عند تأسيسه حتى 26 تشرين الثاني 1922، اذ قرر تغيير اسمه الى الحزب الشيوعي المصري بدلاً من الاسم السابق وفي فلسطين أسس”جوزيف برغل"، موفد الكومنترن عام 1922 اول خلايا الحزب الشيوعي الفلسطيني، وكانت هذه الخلايا مزيجا من يهود وعرب الا ان الغالبية القيادية فيه كانت من الاوربيين.
اما في سورية ولبنان فقد تشكلت اول لجنة مركزية مؤقته للحزب الشيوعي في عام 1925،بقيادة ”فؤاد الشمالي” الذي ضمه الى الشيوعية "جوزيف روزنتال" بدعم من الكومنترن.
ان ظهور التنظيمات الشيوعية في البلدان العربية جاء نتيجة دعم الكومنترن،فضلاً عن الدور الذي ادته الجاليات الاجنبية في نشر الفكر الماركسي، مثل الجاليات اليونانية والايطالية التي كانت تقيم في الاسكندرية.كما قام اليهود الشيوعيون بدور في نشر الفكر الماركسي في فلسطين في اطار هجرات اليهود الى فلسطين. مع ملاحظة ان الفكر الماركسي ما كان ليجد له مكاناً في الوطن العربي لولا تردي الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية في اغلب بلدانه انذاك.

اما بشأن انتشار الافكار الماركسية في العراق، فلم يلاحظ من المصادر التي تم الاطلاع عليها اي دور للكومنترن في نشرها، سواء بتكليف اشخاص او تشجيعهم او اسنادهم ماديا او معنويا. وعلى الرغم من تشدد سلطات الانتداب البريطاني على العراق في استيراد اي مطبوع يطبع في الاتحاد السوفيتي، فقد تعددت طرق دخول الافكار الماركسية الى العراق.
 فقد مثلت المطبوعات الماركسية التي بدأت تدخل الى العراق بداية عشرينات القرن العشرين مثل مجلة الحزب الشيوعي البريطاني وصحيفة”اللومانتيه” لسان حال الحزب الشيوعي الفرنسي،التي كانت تصل الى العراق من سورية ولبنان، فضلاً عن المطبوعات المصرية ذات التوجه الاشتراكي  مثل"المقتطف"وغيرها من المجلات المصرية،رافداً من روافد الفكر الماركسي في العراق.
وكان للماركسيين الاجانب الذين استقروا مدد مختلفة في العراق، اثر في غرس بذرة الماركسية في العراق مثل المعلمة الامريكية”المسس كير”"، التي كان لها اثر في توجيه طالباتها لاعتناق الفكر الاشتراكي. وكانت تحثهن على قراءة الصحف المحلية والاهتمام بسياسة البلاد، واستطاعت التأثير في افكار بعضهن في الترويج للفكر الاشتراكي.استقدمت (المسس كير) بناء على رغبة مديرية المعارف العراقية في بداية تأسيس المملكة العراقية في 23 اب1921، للتدريس في دار المعلمات، وهي تنحدر من اسرة امريكية اشتهرت بميولها الاشتراكية.

عنت بنشر كتاب”رأس المال”لكارل ماركس. ولما سمعت السلطة بنشاطها قررت الاستغناء عن خدماتها
وعرف"المستر رايلي”الاسترالي الاصل،الذي عين موظفاً في وزارة المعارف وعمل مدرسا في الموصل واصبح بعدها مديراً للمعارف في الموصل، بمحاضراته التي القاها في مدرسة الهندسة في الموصل بشأن القانون المدني. وكان يركز فيها على افكار حزب العمال الاشتراكي الاسترالي، واستمر في نشرهذه الافكار حتى مغادرته العراق عام 1926.
من جانب اخر اسهمت المكتبات بنصيب في هذا المجال، ومنها”المكتبة العصرية”في سوق السراي، لصاحبها محمود حلمي الذي كانت تربطه علاقة طيبة مع حسين الرحال(مؤسس اول حلقة ماركسية في العراق وتحديدا في بغداد، الذي اقنعه باستيراد الكتب والمجلات الماركسية التي كانت تصدرها دور النشر الخاصة بالحزب الشيوعي الفرنسي عن طريق وكلائه بالخارج. وقد جلبت المكتبة العصرية عددا من الكتب الماركسية لحسين الرحال، منها كتاب لينين"الاستعمار اعلى مراحل الرأسمالية”وكتاب ”الدولة والثورة” وصحيفة”اللومانتيه” لسان حال الحزب الشيوعي الفرنسي، كما قامت”المكتبة  العربية”لصاحبها نعمان الاعظمي بدورمماثل.

اما الدور البارز في مجال نشر الفكر الماركسي في العراق، فكان من نصيب”مكتبة مكنزي” لصاحبها البريطاني الجنسية”دونون مكنزي”الذي كان حريصا على جلب الكتب الاجنبية التي تناولت الاشتراكية وبخاصة منشورات دار النشر الماركسية البريطانية. وقد حصل حسين الرحال على عدد من المطبوعات الماركسية من هذه المكتبة. أسست مكتبة مكنزي في عام 1920، في سوق السراي ببغداد، بقرار من المستشار البريطاني الثقافي. وكان يشرف عليها دونون مكنزي. وفي عام 1925 اشترى دونون وابن عمه هذه المكتبة بالاقساط. وقد عرف دونون مكنزي حتى وفاته عام 1946، بفكره المتحرر وحبه للعراقيين وبخاصة المثقفين. فلم يكن يحرم اي منهم قراءة اي كتاب مهما كان نوعه، فكان اسكتلندياً كارهاً لسياسة بريطانيا في العراق.
وكان للبحارة الاوربيين الذين جاءوا الى ميناء البصرة دور في جلب المنشورات والكتب الماركسية الى العراق، شأنهم في ذلك شأن زوار العتبات المقدسة، سواء كانوا من بلاد فارس (ايران) التي عرفت الفكر الماركسي قبل العراق واصبحت قاعدة لنشره في البلاد المجاورة،

وقد أسس حيدر امواو غالي، الحزب الشيوعي الايراني (توده) قبل الاحزاب الشيوعية العربية، بدعم من روسيا السوفيتيه لتكوين نواة حزب شيوعي في رشت. وعقد الحزب مؤتمره الاول في 22 حزيران 1920 في ميناء انزلي، واعلن برنامجه الاول في العبارات التالية”وضع حد للاستعمار البريطاني والنظام الاقطاعي المتسلط لاقامة نظام ديمقراطي تشترك فيه جميع القوى الوطنية.”وشارك الحزب بوفد من (192) عضو في مؤتمر شعوب الشرق في باكو وقام حيدر امواو غالي بدور مهم فيه. او الزوار العرب مثل السوريين واللبنانيين،او بقية الزوار المسلمين وبخاصة من الاتحاد السوفيتي.
لابد من الاشارة ايضا الى دور الطلاب العراقيين الدارسين في الخارج ممن اطلعوا على الفكر الماركسي وتأثروا به ونقلوه الى العراق بعد عودتهم، و في مقدمتهم حسين الرحال الذي سيأتي الحديث عن دوره في انشاء اول حلقة ماركسية في العراق.
ان من المهم القول ان الافكار الماركسية دخلت العراق متأخره قياساً الى مصر وسورية ولبنان وفلسطين وايران. ومن المرجح ان ذلك مرتبط بطول الهيمنة العثمانية وعمقها في العراق التي ولدت حاله من التخلف الشامل الذي ساد البلاد قروناً من الزمن.غيران حال الدول العربية هذه وبخاصة مصر كان افضل بكثير من العراق، اذ سنحت لها الظروف للاحتكاك بالغرب والاطلاع على ثقافات اوربية عديدة.وفي الاحوال كافة، ظهر الفكر الماركسي في العراق بشكل او باخر، من خلال وجود خلايا ماركسية في عدد من المدن العراقية، مارست نشاطاً فكرياً وسياسياً.



مؤسس اول خلية ماركسية في بغداد

يعد حسين الرحال، رائد الفكر الماركسي في العراق، لجهوده في انشاء اول خلية ماركسية ضمت محمود احمد السيد ومحمد فاضل البياتي وعوني بكر صدقي ومصطفى علي ومحمد سليم فتاح وعبد الله جدوع. وقبل التعرف على افكار هذه الجماعة ونشاطها، لابد من اعطاء فكرة عن خلفيتها الاجتماعية وكيفية تشكيل تلك الخلية.
ان مؤسس الخلية ومحورها الفعال هو حسين علي صائب الرحال، المولود في بغداد عام 1903،وهو ابن عائلة متوسطة الحال، والده ضابطً في الجيش العثماني.وعلى الرغم من مشاغله كان حريصا على اكمال تعليمه. فأدخله في المدرسة السلطانية في بغداد. وكان ابرزمعلميه معلم التاريخ”ارسين كيدور”وذلك عام 1914.و ارسين كيدور : ارمني اقام في بغداد وعمل مدرساً لمادة التاريخ في المدرسة السلطانية. انتمى الى الجناح اليساري لحزب الهشناق الارمني، وطاردته السلطات التركية في بغداد بتهمة تدبير عمليات اغتيال لكبار المسؤولين في الدولة، فأختبأ مدة من الزمن في النجف الاشرف. وفي عام 1917 خرج من مخبأه وعمل مترجما للغة الروسية في صفوف الجيش البريطاني في العراق، ثم غادر العراق الى ارمينيا. وفي عام 1920 عاد الى العراق بصفة القنصل العام لروسيا السوفيتية في العراق. وفي الوقت نفسه كان يدير محل لبيع الخمور في منطقة رأس القرية ويشير”حنا بطاطو”الى ان لكيدور التأثير الكبير في نشر الماركسية في العراق من خلال تأثيره  في حسين الرحال الذي قام فيما بعد  بتشكيل اول خلية ماركسية في العراق. وحقيقة الامر انه ومن خلال الاطلاع على مختلف المصادر لم نجد اثراً لكيدور في تطوير ونشر الفكر الماركسي في العراق. وان تأثير كيدور في الرحال كان ضعيفاً فان الاخير كان عمره (11) سنة عندما كان طالباً لدى كيدور، وهذا العمر قد يتسنى فيه للرحال تلقي بعض الافكار من كيدور بما يناسب عمره،لكن ليس بالشكل الذي رسمه بطاطو، من ان مستقبل الحركة الشيوعية والفكر الماركسي في العراق تطور بسبب هذا التأثير.

د. مؤيد شاكر الطائي   
عن رسالة (الحزب الشيوعي العراقي 1935 ـــ 1939)

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

892 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع