رسالة الى والدي البطل ...

            

                       

رحمك ألله يا أبي البطل .. لقد كنتُ صبياً وبعمر عشرة سنوات في عام 1960 وأعجبتُ ببزتكَ العسكرية  ورتبتك هذه التي تحملها في هذه الصورة ، وقررتُ أن أكمل رسالتك في خدمة الوطن وكنتَ مثلي الأعلى ،

  والحمد لله فقد قدَّمتُ للوطن وللشعب العراقي ما قدَّمته أنت ورفاقك في الجيش العراقي الباسل ، ولكنني يا والدي العزيز أشعر بالحزن والأسى لما حصل لوطني وشعبي  وما حلَّ بجيشنا العراقي وقادته وضباطه البواسل ، فقد تغيرت كل القيم والمفاهيم والأخلاق ، ودائماً ما أتذكر يوم 23 تشرين الثاني 1973 الذي إختارك ألله به لتكون بجوارة وكنت حينها برتبة زعيم متقاعد ونسكن في اليرموك ، حيث بلّغوني بنبأ الوفاة في وحدتي المدرعة بمنصورية الجبل وكنت أنا حينها برتبة ملازم ثاني ، وعند وصولي في الساعة 13:00 من اليوم الثاني تفاجأتُ بوجود أكثر من مائة عجلة مدنية وعسكرية تملأ شارعنا والشوارع القريبة من دارنا وأسمعهم يقولون عندما شاهدوني ( الحمد لله لقد وصل غازي ) ! فترجلت من العجلة وأقتادوني لإلقاء النظرة الأخيرة على جثمانك وتقبيلك ، ثم قاموا بإغلاق صندوق نعشك ولفَّوه بالعلم العراقي وحملناك إلى عجلة الإنضباط العسكري الواقفة في باب الدار .. كانت دموعي تنهمر من عيناي وأنا أُلاحظ وجود العشرات من زملاؤك قادة الجيش العراقي الأبطال ومنهم...

         

عبد الجبار شنشل وسعيد حمّو وصدّيق مصطفي وحسن النقيب وخيرألله الطلفاح رحمهم ألله ، وعندما سار موكب التشييع الفخم من مدينة اليرموك إلى مقبرة الكلدان قرب ساحة الطيران سألت أخي فيصل الجالس بجانبي : كيف بلّغتم هؤلاء الجمع الكبير من القادة والضباط بالحدث ، وكيف حضر فصيل الإنضباط العسكري لينقل الجثمان والوالد متقاعد منذ عشرة سنوات ؟

فأجابني : نحن لم نبلّغ أي ضابط مطلقاً ! وتفاجأنا بحضورهم منذ الساعة 09:00 ! وتبينَ أنَّ الذي قام بالإخبار وبدون علمنا هو جارنا الشاب زيد عبد الكريم المهداوي (17 سنة) ، حيث أخبرنا بأنه إتصل مساء أمس بمقر الإنضباط العسكري وأخبرهم بالحدث وزودهم بالرتبة والاسم والعنوان  ، وبدورها قامت آمرية الإنضباط العسكري بإرسال رسالة فورية لدائرة الإدارة بوزارة الدفاع وجمعية المحاربين القدماء وطلبت تعميم الخبر على القادة ومدراء الصنوف والضباط المتقاعدين لحضور مراسيم التشييع ، وتم نشر الخبر في الصحف المحلية صباح هذا اليوم ، وأضاف أخي فيصل وقال : عندما وصل آمر فصيل الإنضباط  صباح اليوم سألني عن اسم المقبرة وعنوانها لكي يحدد طريق سير موكب التشييع  وإبلاغ مفارز المرور بفتح الطريق  من دون توقف أو قطع وسيكون في مقدمة الموكب  ثلاثة دراجات بخارية من مديرية المرور العامة ، والغرض الثاني هو لتهيئة فرقة موسيقى الجيش بقرب المقبرة  مع حضيرة من 7 جنود ليطلقون 21 إطلاقة وعلى ثلاث رشقات بالعتاد الخلَّب عند وضع الجثمان في القبر ! ...

      

وفعلاً يا والدي العزيز توقف رتل التشييع في ساحة الطيران وترجل الجميع وحمل نعشك من قبل ثمانية ضباط صف من الإنضباط العسكري تتقدمهم فرقة موسيقى الجيش وهي تعزف الموسيقى الجنائزية ونحن وقادة الجيش العراقي والمشيعين نسير خلف نعشكم ، وتوقفت حركة المواطنين على جانبي الشارع وبان الحزن على وجوههم ويسمعونا كلمات التكبير الرائعة ( ألله وأكبر ) وكلمات الرحمة على روحك الطاهرة ورافقونا بالمسير لمسافة تقدّر ب 200 متر ودخل المواطنين معنا إلى مقبرة الكلدان وشاركونا في ذر التراب على نعشكم ، وعند إنتهاء مراسيم الدفن وقفتُ مع إخوتي لمصافحة المشاركين في التشييع ، ولاحظتُ أن أغلب المدنيين كانوا من العمال والفلاحين والكسبة ومن أهل مدينة الثورة الذين كانوا يتواجدون في مسطر العمال قرب ساحة الطيران وقرأو الفاتحة على روحك الطاهرة مع بقية الحضور ... ولكن ومع كل الأسف أقول لك بأن أغلب أولاد وأحفاد سكنة مدينة الثورة شكلوا مليشيات مسلحة قامت بتصفية وتهجير ضباط الجيش العراقي  ونسوره البواسل ، ومنحتهم الدولة رتب ومناصب عسكرية وأعتبرتهم العنصر الأهم في القوات المسلحة ! ... والدي العزيز .. في زمانكم ( 1932- 1963 ) وزماننا ( 1969- 2003 ) كان هنالك منصب في ملاك الوحدة ل ( إمام الوحدة ) وكان واجبه تهيئة المصلّى وإقامة الصلاة والدعاء إلى الباري عز وجل بأن يحفظ حياة المنتسبين ،

        

أما الآن فقد أصبح المعممين في الوحدات هم قادة العمليات والتشكيلات وهيئات الركن ، ويا محلاهم عندما يرتدون البدلة المرقطة وعلى رأسهم العمامة وعلى كتفهم رتبة اللواء وعلى زنودهم شارة القوات الخاصة ويؤشرون بأصابعهم على الخرائط التربيعية مثل ثعلب الصحراء رومل ! وأصبح الضابط الوطني في الوحدة ( إن وجد ) هو من يصلّي ويدعو من ألله أن يجد حلاً لمأساة العراق  ! ... هل تصدق يا والدي العزيز بأن الدولة العراقية في الوقت الحاضر تعتمد على آلاف المستشارين العسكريين الإيرانيين والأمريكان والأوربيين في رسم الخطط الحربية الفاشلة  في حين إنها تعتقل في سجونها أعظم القادة العراقيين والذي يشهد لهم العالم بأنهم من خيرة قادة الجيوش في العالم ؟ ... هل تتصور أن المتخلفين عن السوق والهاربين من الخدمة سابقاً أصبحوا الآن قادة للفرق والتشكيلات  وأصحاب القرار العسكري ؟ ... لقد كنتَ تقص لي قصص عن بطولة جنودك وضباطك العراقيين في معركة جنين عام 1948 بحرب فلسطين ضد الصهاينة ، ولم تذكر لي عن تخاذل أو هروب جندي عراقي واحد من ساحات الوغى وأثناء المواجهه القتالية مع العدو ، وأنا طيلة خدمتي وأثناء المواجهات المسلحة مع العدو لم ألحظ أي تخاذل أو هروب جندي واحد من معيتي ، باستثناء وجود بعض الهاربين في الوحدات الأخرى ولكن لم يهربوا أثناء المواجهه مطلقاً لكونهم يعلمون بأن القانون يحكمهم بالإعدام عند هروبهم أثناء المصادمة مع العدو ، وقد لا تصدِّق لو قلت لك بأن أربعة فرق كاملة مع قادة عملياتهم هربوا تاركين اسلحتهم وملابسهم ورتبهم العسكرية قبل أكثر من عام وسمحوا بإحتلال محافظة نينوى قبل مواجهتهم للعدو البالغ عدده 150 مسلحاً فقط  ! وتكرر الخذلان والهروب قبل عدة أشهر لتهرب فرقتين عسكرية مع قادة عملياتها وسمحوا بإحتلال محافظة الأنبار وبنفس الصورة ولكن كان الإختلاف في العدد فقط فكان العدو يبلغ عدده 50 مسلحاً فقط ! ... والدي الحبيب .. خلال ال 12 عاماً الماضية وعند مشاركتي بتشييع قادتنا وضباطنا البواسل ، دائماً ما أتذكر مراسيم تشييعكم وإحترام وزارة الدفاع وعامة الشعب لقادة وضباط الجيش العراقي آنذاك وفي الزمن الجميل حتى ولو كانوا خارج الخدمة ،

         

وهل تعلم أن مراسيم تشييع زميلك المرحوم عبد الرحمن عارف وكان رئيساً للجمهورية العراقية  لم يحظى بدفن جثمانه في تراب العراق الذي دافع عنه طيلة حياته ، ولم يحمل نعشه الإنضباط العسكري ولم تحضر موسيقى الجيش العراقي لتعزف له المارش الجنائزي الحزين ؟

     

وكذلك الحال لأحد الضباط الذين كانوا من معيتك وهو المرحوم عبد الجبار شنشل ؟ أما زملائي فحدث ولا حرج ، فأغلبهم قتلوا ومثلوا الأوغاد بجثثهم ولم يحظوا حتى على قبر ، أما من يتوفاه الله فيكون تشييعه بصورة سرية ولا يكتب على قبره إنه ضابط في الجيش العراقي الباسل خوفاً من قيام المليشيات من نبش قبره أو خطف جثمانه ! أما العرف الجديد السائد في العراق بعد 2003 فهو قيام رئيس الجمهورية بزيارة قبور الامريكان وقراءة سورة الفاتحة على ارواحهم لكونهم قتلوا في العراق ويعتبرهم المام جلال شهداء أحياء عند ربهم يرزقون ! ومن جهه أخرى يقوم رئيس الوزراء العراقي بحضور مراسيم تشييع ودفن المستشارين الايرانيين الذين يقتلون في العراق ويقدم التعازي لأهاليهم في إيران ! ... والدي العزيز لا أريد أن أطيل عليك في الوقت الحاضر ، لقد مضى على فراقك ما يقرب من 42 عاماً ولم يبقى إلا القليل لألتقي بك وحسب مشيئة الله عز وجل ، وسأقص عليك قصَّة ( كان يا ما كان ، كان في قديم الزمان ، كان لنا وطن إسمه العراق ) ! وأنا متأكد إنك بعد سماعك لقصتي ستنعتني بالجنون أو فاقداً لعقلي وتتهمني بأن قصتي خرافية أو من وحي الخيال ؟ وسأقسم لك بالله العظيم بأن قصتي حقيقية ،

             

وسأستطيع من إقناعك على تصديقها عندما سأذكرك بغالبية الشعب العراقي الجاهل الذي قتل الملك وعائلته الأبرياء وسحلوا ومثلوا بجثث الباشا نوري السعيد والوصي عبد الإله ، وصفقوا لعبد الكريم قاسم ثم قتلوه ولم يعثر على جثته لحد الآن ! وسأثبت لك أن السبب الثاني لدمار العراق هو جراء خلط الدين بالسياسة وسيطرته على القوات المسلحة العراقية

  
إبنك غازي عزيزة

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

843 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع