يوميات مسافر على طريق أحمر..الجزء الرابع

      

    يوميات مسافر على طريق أحمر..الجزء الرابع

 

 

                  الخطوة الخامسة
التحقيق ينتقل إلى المطار

وأمتد التحقيق لعدة شهور بين مكتب القائد الأمريكي في سامراء ومقر القيادة في تكريت ولم تتقدم آمالنا خطوة واحدة إلى الأمام حتى إذا انتهت شهور الصيف وجاء أيلول/ سبتمبر 2004 أملنا أن القضية ستتحرك مرة أخرى، ولكن الصيف ما زال يضغط بوطأة حرارته على العراقيين وجنود الاحتلال على حد سواء، يوم الثلاثاء 7 أيلول/ سبتمبر جاء مروان من سامراء حاملا معه تبليغا رسميا وخطيا من C.I.D يطلب حضوره إلى منطقة مطار صدام حسين الدولي لحضور جلسة تحقيق مع الملازم الأول سافيل وهو آمر الفصيل أو السرية التي نفذت جريمة القتل بأوامر مباشرة منه، كان مروان وقبل أن يأت لبغداد قد اتصل بي وأبلغني بأن الشرطة أبلغته بالذهاب إلى منطقة السايلو لأمر هام، قلت له لا تذهب إلا في حال حصولك على تبليغ خطي رسمي حرصا على سلامته وضمانا لقانونية أية خطوة نقدم عليها أو نستجيب فيها للطرف الآخر، ونشطت الإشاعات مجددا بين الأقارب والأصدقاء في تفسير كل خطوة جديدة تحصل وحتى حين يحصل تأخير في الإجراءات الأمريكية فإن ذلك كان يستدعي تفسيرات تتراوح بين أقصى درجات التشاؤم وبين أعلى مراتب التفاؤل،  السكون له نفس القدر من تأثير الحركة بإثارة عوامل القلق، البعض قال إن الأمريكان يريدون غلق القضية بأي ثمن البعض الآخر مضى أبعد وقال بأن الأمريكان مستعدون لدفع عشرين ألف دولار من أجل سحب القضية، أنا واثق أن مأمون لن يقبل مبدأ التعويض حتى ولو وصل مليون دولار، ولكنني ما كنت لأنوب عنه من تلقاء نفسي في الإقدام على خطوة كهذه قد لا تأتي نتائجها كما أريد، ومع ذلك كان موقفنا فيه من الطبائع العشائرية الشرقية وفيه من البداوة الكثير من مواضع يرى الغربيون فيها تخلفا اجتماعيا تجاوزته الشعوب التي لا تتعامل مع قضاياها الكبيرة والصغيرة بقيم عشائرية أو استنادا إلى مبادئ أخلاقية، فالقوانين هي التي تنظم العلاقات بين الجماعات والأفراد بصورة متوازنة ولا تسمح الدولة لأية مجموعة من خارجها مهما كبر شأنها أن تنوب عنها في مباشرة واجباتها وصلاحياتها في فض المنازعات وإحقاق الحقوق ومن بين ذلك تثبيت مبدأ التعويض المالي، وحتى الإسلام لم يهمل هذا الجانب وأفرد له الكثير من المعالجات والديات المالية جزء من تلك التعويضات غير أن التعويضات الأمريكية كانت من الهزال ما لا يسمح لعراقي يعتز بكرامته وقيمه ومكانة من فقد أن يقبل بها، الكل يعرف كيف فرضت الولايات المتحدة تعويضات بأرقام فلكية على الحكومة الليبية بسب حادث سقوط طائرة لوكربي إذ وصلت تعويضات الأمريكي الواحد إلى ما يقرب العشرة ملايين دولار، على حين أن ما تدفعه القوات الأمريكية عن ضحاياها من العراقيين كانت لا تزيد على 2500 دولار أمريكي فقط، فهل جاء الأمريكي من كوكب آخر؟ وهل تم خلقه من غير الطين الذي خلق منه باقي البشر؟ وهل خرج من غير السبيلين الذي خرج منهما بنو البشر؟ أم هو التعالي وشعور الغطرسة والتفوق العنصري المغروس في نفوس منخورة من الداخل تريد التعويض عن هزيمة داخلية بالتعالي على بقية شعوب الأرض؟ أم أن منطق القوة المادية هو الذي يفرض نفسه على التعامل بين الدول والأفراد والجماعات على أساس ما تمتلك من أسباب القوة وأسلحة فتاكة؟
لو أن جميع العراقيين الذين فقدوا أحدا من أفراد أسرهم رفضوا تسلم هذه التعويضات التافهة لاضطرت أمريكا لإعادة النظر بما تدفعه للعراقيين..

  

على العموم كان علينا بموجب التبليغ أن نكون في مطار صدام حسين الدولي قبيل الظهر دون أن نعرف متى ستبدأ جلسة التحقيق فالفرق بالتوقيت بين بغداد والساحل الشرقي للولايات المتحدة يبلغ سبع ساعات، وهو أكثر مع توقيت المدن الواقعة في وسط الولايات المتحدة أو الواقعة على المحيط الهادئ، علما بأن فرق التوقيت بين نيويورك على الأطلسي وسان فرانسيسكو على الهادئ يبلغ ثلاث ساعات، طريق المطار كان بمثابة خط مفتوح نحو الموت لكل العابرين عليه وبخاصة لأرتال القوات الأمريكية، كانت المقاومة تسيطر على الطريق وتفرض على الحركة فيه رقابة صارمة فمن يذهب إلى المطار أو يأت منه فله خصوصية التعامل مع المحتلين إلى أن يتأكد العكس، كانت المقاومة تنصب الكمائن لعجلات القوات الأمريكية بل وشنت فيه هجمات كبيرة وبأعداد غيرمألوفة من المقاتلين، كان هذا الطريق مصيدة للمحتلين فقدوا على طوله وعلى مدى عام ونصف مئات القتلى وآلاف الجرحى والكثير من المعدات وأهم من كل هذا تصّفرت معنويات جنودهم فيه، ويكفي أن يعرف العسكري الأمريكي أنه مكلف بواجب في هذا الطريق حتى يفقد ما بقي له من رصيد أعصاب،  ووصل الجنود حد الانهيار العصبي والمعنوي ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى ارتكابهم لأي جريمة ضد زملائهم وهذا ما وقع منه الكثير وكانت البيانات الحربية الأمريكية عندما تتحدث عنه ولكنها تصفه بحادث غير قتالي، هؤلاء الجنود المدججون بالسلاح والذين يقتلون بدم بارد وأعصاب جامدة ويثيرون الرعب والهلع في الشارع هؤلاء ما أجبنهم حينما تحصل مواجهة بينهم وبين رجال المقاومة الذاهبين إلى الموت بلا تردد، تراهم يفرون من الموت كجرذان غبية ويجهشون ببكاء مرير ويشترون الحياة الذليلة بالتوسل والخضوع حتى ليعجب المرء من وضعهم في الحالين، وما هو هامش الشجاعة المتوحشة لديهم حينما يتعاملون مع النساء وكبار السن والأطفال؟ يتصرفون وكأنهم يؤدون أدوارا في أحد أفلام الاكشن الأمريكية التي تنتهي عادة برفع الأمريكي علامة النصر بإصبعين مفتوحين إلى الأعلى، فالأمريكي متفوق ولا يغلبه أحد على وفق ما تنتجه صناعة السينما في هوليوود.
المرور العابر عند أي مفترق طريق في بغداد يشد الأعصاب ويثير في النفس مشاعر متباينة ويفلق الأبواب أمام الإدراك السليم ويطلق المخبوء من الانفعالات المكبوتة من مكامنها أمام الحقيقة المطلقة الوحيدة والتي لا مناص منها ومع ذلك فإن الخوف منها يصل مديات تشل قدرة الإنسان على التحكم بسلوكه إلا من رحم ربي، فانتظار الموت وترقب وصوله يطغى على الخوف من الموت نفسه، وحين ينشر الموت جناحيه فوق أرض يحاول كل من هناك أن يغلق بابه دونه أو يفلت منه بجلده، قليلون الذين يفكرون بغيرهم في مثل هذه اللحظات، منهم من يجند إمكاناته وقدراته من أجل تقديم العون للآخرين، ولكن لحظة الوداع أصعب امتحان يواجه الإنسان، نعم يمكن أن تصدر عن المرء حركات تنم عن الرغبة في المشاركة في مصير واحد ولكن الاختبار إذا ما حل بأثقاله فقد يكون من المسلم به لدى الكثيرين التفكير بالنفس أولا مهما كانت درجة القرابة والصلة مع الغير في مشهد اللحظة الأخيرة.
 شوارع بغداد الكئيبة والتي تشهد حركة بلهاء وفي مفترقات طرقها وأزقتها التي تنتهي عند نهاياتها كل المسالك وحيث تحولت الأرصفة الموحشة إلى مقابر للحيوانات والأشجار وكتل الحديد وبعض أشلاء آدمية، واستحالت الطرق التي كانت إلى الأمس القريب مرصوفة بأحدث المعدات ومواد التعبيد إلى حفر وكأنها أرض محروثة متهيئة لموسم الغراس، نتيجة ما تركته سرف دبابات المحتلين من جروح وأخاديد على صفحة وجهها الناعم، كانت كلها تلتقي مع مدن العراق الأخرى عند هذه النتيجة المحزنة والتي لا تسمح بذرف قطرة دمع لفرط ما فيها من مياه آسنة اختلطت ببقايا دماء العراقيين وأعدائهم الأمريكيين على حد سواء، ومع ذلك لم يكن أمامنا أنا ومروان من خيار إلا اجتياز طريق المطار وليرحمنا الله للوصول إلى مقر القيادة الأمريكية في قصر الفاو الرئاسي، كان الطريق أطول بكثير مما كان على حقيقته، لا ندري هل السرعة القصوى هي المطلوبة أم علينا أن نسير ببطء شديد لتجنب سوء التقدير من طرف المجاهدين الذين يستهدفون المارين على طريق المطار، وهل يا ترى سيتفهم من يرانا طبيعة المهمة التي نذهب من أجلها للمطار ؟ عيون الناس تنظر إلى المارين عبر طريق المطار بتساؤل أكبر من ترقب قذيفة أو إطلاقة تبحث لها عن هدف، فالمطار قاعدة عسكرية أمريكية وليس محطة سفر، هل يصدق من يرانا هناك أننا نتابع قضية تحقيقية لولدنا الذي قتلته القوات الأمريكية؟ وهل على الجميع أن يعرفوا بالتفاصيل كي يتفهموا موقفنا؟ ثم هل نحن وحدنا الذين فقدنا ابنا ولماذا لم يحقق الأمريكيون بكل جرائمهم فلماذا حصلنا على هذا الامتياز؟ آه كم تمنيت ساعتها لو أن قصتنا قد انتشرت على طول الكرة الأرضية وعرضها كي تتفهم الأعين التي تختزن أسئلة حائرة سبب مرورنا في طريق المطار، تساؤلات مرت سريعا وما يزال من طريق المطار نصفه ولن تجدي هذه التساؤلات في عودة الساعة إلى الوراء ولا في قرارنا مواصلة الرحلة حتى النهاية لنا حق نريد ملاحقته وإن طال السفر.
كنت أقود السيارة بسرعة وسطى وبهدوء حذر فكل الاحتمالات واردة، الأمريكيون الذين استدعونا للتحقيق هل نتوقع أنهم أحاطوا دورياتهم القلقة على طريق المطار علما بمجيئنا؟ استبعدت هذا الاحتمال فورا فهم لم يسألوا عن نوعية سيارتي ولا لونها ولا رقمها، في الطريق اعترضتنا أكثر من سيطرة أمريكية وضعت فيها آخر ما توصلت إليه مصانع الالكترونيات في الولايات المتحدة من معدات وأجهزة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل جلبوا الكلاب المدربة التي تفحص كل ما يراد مروره، بعد أن وصلناها وقفنا في دورنا بطابور طويل لم نكن نعتقد أن المطار يستقبل كل هذا العدد من السيارات والمراجعين..

 

كنا نتقدم ببطء شديد وبعد أن قطعنا حوالي 100 متر بدأ الجنود الأمريكيون بإصدار الأوامر، هذا يأمر بفتح الصندوق الخلفي، وهذا يأمر بإطفاء المحرك وفتح غطائه، جاءنا جندي يقتاد كلبا أو يقتاده كلب لا فرق فالأمر سيان، أخذ الكلب يدور حول السيارة وهو يؤدي واجبه الذي يتقاضى بسببه راتبا يفوق راتب الجندي الذي يقوده، أصدر الجندي لنا أمرا نيابة عن الكلب بالحركة بعد أن أصدر لنا شهادة التجرد عن المتفجرات والسلاح والعطور، بعد مسيرة قصيرة توقفنا مرة أخرى أمرنا بالترجل من السيارة وفتح غطاء المحرك مرة أخرى وفتح الصندوق ثانية وتسليم الهاتف المحمول، تذمر صامت يكاد يضيء من بين العيون أو يسمع صداه من بين الضلوع، تركنا السيارة لبضعة أمتار فهذه المرة يجب أن تفتش السيارة من الداخل بعيدا عن أعين ركابها، دخلت على الخط هذه المرة أجهزة أكثر تعقيدا من النقطة السابقة، أجهزة التحسس الكهربائي والتفتيش اليدوي المباشر لنا وللسيارة، في باحة الانتظار تقدم نحونا شاب بدت هيئته ملتبسة بادرني، السلام عليكم أستاذ نزار أنا معجب بما تقوله في لقاءاتك على الفضائيات المختلفة وبخاصة قناة الجزيرة، أجبته وعليكم السلام حاول أن يتسلل ولكنني عرفت أن سلامه كان رسالة تشكيك بطبيعة وجودي هنا أراد أن يكافئ وجوده هو في باحة الانتظار أمام مطار بغداد، هنا وجدت الظرف مناسبا أن أبادره بسؤال قد يفاجئه، قلت ماذا تفعل هنا؟ لم أسأله عن اسمه ولا عن منطقته ولكنني سألته السؤال الذي أيقنت أنه حينما سلم علي كان يريد أن يقول لي لقد ضبطتك متلبسا في جريمة الانتظار على أبواب مطار كان اسمه مطار صدام حسين وبات اليوم مقرا لقيادة القوات الأمريكية المحتلة، تلعثم قليلا ولكنه لم يبال على كل حال، ولكنه أجاب أنتظر دوري للدخول إلى مقر عملي في خدمات المتاجر الأمريكية في القاعدة العسكرية بالمطار، إذن هو لا يخجل من عمله وربما ظنني أشاركه أو أزاحمه في البحث عن وظيفة، ولهذا حينما سألني واستنادا إلى مبدأ المعاملة بالمثل، وأنت ماذا جاء بك؟ قلت:

          

أنا محام عن ابن أخي الذي قتله الأمريكيون برميه في نهر دجلة واليوم نحن مطلوبون للتحقيق وربما للمحاكمة، لم يدعني أكمل عبارتي كان قد تلاشى وسط الزحام وبقينا بانتظار إشعارنا بأن تفتيش السيارة قد تم انجازه في ساحة مكشوفة، بعد طول انتظار جاءتنا الإشارة باستكمال تفتيش السيارة فتوجهنا إليها من دون أن نعرف إلى أين نتوجه بعد ذلك.
بعد أن أنهينا تلك الإجراءات تحدثت مع بعض الحراس وسلمتهم نسخة من كتاب الاستدعاء الرسمي الذي جئنا بموجبه، بعد سلسلة اتصالات أخبرنا أحد الحراس بأن مأمورا سيأتي إلينا بهدف إيصالنا إلى الموقع الذي طلبنا، كانت الساعة تقترب من الثانية بعد الظهر عندها جاءت سيارة شيفروليه صندوقية رباعية الدفع وكانت تتقدمها مدرعة من نوع هامر فيها إضافة إلى سائقها جندي يقف وراء مدفع رشاش سريع الطلقات كان منصوبا فوق المدرعة، وجندي يحمل بندقية من نوع M16 كان يجلس بجانب السائق، بعد توقف الموكب ترجلت منه السرجنت سينترون حيث كانت تحمل بندقية آلية ومعها جندي يحمل بندقية آلية أيضا وكان كل منهم يرتدي صدرية مقاومة للرصاص، وجاءت مع السرجنت وحمايتها مترجمة قدمت لنا نفسها، قالت أنا سهام الجعبري سأكون المترجمة المرافقة لكم طيلة تواجدكم في القاعدة، أنا أمريكية الجنسية أقيم في كاليفورنيا، من دون مقدمات قلت لها أكيد أنت فلسطينية من الخليل هزت رأسها موافقة على ما قلت وكادت أن تطلق عبارة دهشة ولكنها أحجمت في اللحظة الأخيرة، وحينما سرنا سوية داخل القاعدة سألتني من أين عرفت أنني من الخليل هل وصلتكم المعلومات عني مسبقا؟ تعمدت عدم إجابتها من أجل أن أتركها قلقة حتى النهاية ربما ذهبت لتصورات بعيدة وربما كانت قد همست بإذن مسؤولها الأمريكي عن ذلك وربما قالت له إن حياتها في خطر لأن عراقيا على صلة بـ (الإرهاب) يعرف عنها معلومات دقيقة جدا وقد تكون بالغت بما ٍسألتها وأضافت من عندها الكثير كي تطلب النقل إلى موطنها بالتجنس وتتخلص من كوابيس الموت التي لا تنتهي، ومع ذلك قلت لها نحن نعرف محمد علي الجعبري رئيس بلدية الخليل المتعاون مع الاحتلال الإسرائيلي، لم تبد عليها علامة تنم عن الرضا أو الغضب حول كلمتي الأخيرة.
بعد أن رحبت بنا وأرادت أن تشعرنا بأنها حريصة على انجاز قضيتنا، طلبت منا الصعود إلى سيارة الشيفروليه التي كانت تقودها بنفسها، أشارت إلى أن أركب معها في المقعد الأمامي وتركت سهام الجعبري ومروان في الخلف، سألتني أين كنتم كل هذه المدة؟ وأردفت لقد بحثنا عنكم في سامراء وطلبنا من شرطة المدينة إحضار مروان ولكننا كنا نواجه بقولهم بعدم القدرة على الوصول إليه، تدخلت فورا لأقطع الطريق على مروان من الحديث، قلت نعم لقد أبلغونا أكثر من مرة ولكننا كنا نصر على طلب الاستقدام بطلب خطي ورسمي من الجانب الأمريكي ولهذا كنا نهمل مراجعات الشرطة العراقية وطلباتها.
عاودت سينترون الحديث مرة أخرى فقالت، اليوم مهم بالنسبة لكم فسوف تعقد جلسة استماع عبر قناة تلفزيونية مغلقة مع هيئة التحقيق الكلفة بالقضية في كولورادو، سيتم إحضار الملازم سافيل أمام قاضي التحقيق وسنكون نحن في إحدى قاعات قصر صدام حسين والذي تتخذه قواتنا مقرا لقيادتها، سنجلس في هذه القاعة التي تجرى فيها مؤتمرات عسكرية على أعلى المستويات مع البنتاغون أو القيادات الأخرى في الولايات المتحدة مع قائد القوات في العراق وهيئة أركانه، سنجلس أمام شاشة نرى فيها هيئة المحكمة وستنقل صورنا لهم عبر الأقمار الصناعية ولكن الجلسة لن تبدأ قبل الثامنة مساء بتوقيت بغداد، تساءلت مع نفسي ما هي دوافع سينترون لتقديم العرض عن قاعة المؤتمرات العسكرية على أعلى المستويات؟ قلت مع نفسي أيضا هي مجرد ثرثرة أرادت أن تقول لنا إنها قريبة من مواقع التحكم بالقرار وصنعه.

   


كان مروان هو الشاهد الوحيد على جريمة أرادها الأمريكيون جريمة كاملة ولكن إرادة الله كانت لهم بالمرصاد، وكنت محاميا عن العائلة بعد أن انتميت إلى نقابة المحامين بعد احتلال العراق عام 2003 حينما حل بول بريمر الحاكم الأمريكي المطلق للعراق الكثير من المؤسسات والدوائر الرسمية وفي مقدمتها حزب البعث العربي الاشتراكي والجيش العراقي وديوان رئاسة الجمهورية الذي كنت مديرا عاما فيه، حينذاك كان هامش عملي محدودا في الظهور على الفضائيات العربية وبخاصة قناة الجزيرة والإخبارية وأبو ظبي وقنوات أخرى، لم أكن قد اتخذت المحاماة مهنة لي فأنا صحفي ولا يمكن أن أوفق بين اختصاصين فضلا عن أنني أفضل العمل الصحفي على أية مهنة، صحيح أنهما يشتركان في الدفاع عن قضايا المظلومين، ولكن الصحافة تقارع الظلم العام بصوت عال وعلى الهواء، على حين أن المحاماة تقارع الظلم الخاص وراء أبواب مغلقة، ومع ذلك رأيت نفسي مدفوعا بكل طاقتي لهذه القضية لاعتبارات كثيرة أولها أن الشهيد ابن أخي وثانيا أن الجاني فيها ارتكب جريمة احتلال العراق التي أواجهها في حركتي الإعلامية وثالثا أنها تسلط الضوء على الجرائم النوعية لقوات الاحتلال وتفضح أساليبه الهمجية في قتل العراقيين أو تعذيبهم وكذلك عمليات الدهم والسطو على الأموال الخاصة أثناء تفتيش المنازل.
اليوم إذن سنشهد جلسة تحقيق مع مجرم أمريكي يستحق وصف الوغد لأنه ابتكر طريقة للقتل ربما لم تخطر ببال أحد من قبل، إنه الملازم الأول سافيل، كنت احذف من اسمه حرف الياء واعتبر ذلك ما يتطابق مع طبعه وسلوكه، كان سافيل قد أصدر أوامره لجنوده بإلقاء زيدون ومروان في نهر دجلة عند بوابة ناظم الثرثار من دون أن يكون هناك سبب يدعوه لهذا الفعل الشنيع، كان علينا أن ننتظر بضع ساعات قبل أن يحين موعد الجلسة، كانت السرجنت سينترون حريصة على التحدث بود فائض عن الحاجة وذلك لإزالة أي أثر للتحسس تجاه الجنود الأمريكان الذين احتلوا منطقة المطار بكاملها واتخذت قيادة القوات في العراق من القصر الرئاسي في الرضوانية مقرا لها، كان وقت الغداء قد حان وجهت لنا سينترون دعوة لتناول الطعام في المطعم المشترك للضباط والجنود، وهو نفسه الذي كان الرئيس الأمريكي قد تناول فيه الديك الرومي مع ضباط قواته وجنودها نهاية العام الأول للاحتلال وقد جاء إليهم خلسة من أجل رفع معنوياتهم المنهارة ولم تتح له بعد فرصة تكرار عمله الاستعراضي، حينما تذكرت ذلك أخذتني غصة ألم أن أرى أرض العراق تدنس من قبل قوات الاحتلال البغيض، لاحظت سينترون ذلك علي وتساءلت عما أفكر فيه، قلت إنني أعجب لهذا الزمن الذي تدور دواليبه بسرعة لا توصف وبصورة لا تصدق.

  

استحثتنا على تناول وجبة الغداء قبل أن يتم استدعاؤنا إلى القاعة، من ذا الذي يرغب بتناول الطعام على مائدة عدوه قاتل أبنه؟ أردنا أن نجلب شيئا نسد به الرمق لا غير، كانت الأطعمة معروضة للجميع على موائد والخدمة فيها تتم بموجب قاعدة اخدم نفسك بنفسك، كانت الخضر والفواكه لكل المواسم، حينما توجهت إلى (البوفيه) تقدم نحوي جندي تبدو على ملامحه سحنة شبه القارة الهندية، وبادرني بعبارة السلام عليكم هل تريد أكلا حلالا؟ قلت له نحن نتناول الأسماك فقط، أشار إلى موضع تكدس الروبيان وبحجوم وأصناف مختلفة.
مقر القيادة الأمريكية في قصر الفاو في الرضوانية من أطراف بغداد الغربية وهو قريب من مطار بغد وهو أحد القصور الرئاسية في عهد الرئيس الراحل صدام حسين وربما يكون هو الأكبر والأفخم بين تلك القصور وقد أخذ اسمه من اسم مدينة الفاو التي احتلها الإيرانيون في شباط 1986 وغيروا اسمها إلى الفاطمية وأقاموا فيها من التحصينات والمواقع والموانع ما ظنوا أنها مانعتهم من الهزيمة، فاستعد العراق شعبا وجيشا وقيادة بوضع خطط تحرير هذه المدينة التي دخل منها الانكليز بداية زحفهم نحو بغداد في العقد الثاني من القرن الماضي وجاء الإيرانيون ليقتفوا خطواتهم، فالمحتلون يفكرون بطريقة واحدة ويسلكون الطرق نفسها، وحتى عندما جاء الأمريكيون عام 2003 قاموا بالشيء نفسه، وعمل العراقيون بكل جهدهم لتحرير مدينتهم من دنس الإيرانيين، فتم لهم النصر المؤزر في 17/4/ 1988 بعد أن سحقوا قوات العدو وكسروا عموده الفقري استلقى راكعا على الأرض وتجرع كأس السم راغما واضطر لوقف إطلاق النار في 8/8 /1988، فأطلق الرئيس الرئيس الراحل صدام حسين على هذا القصر اسم الفاو تيمنا بنصرها المجيد، وعلى الرغم من أنني لم أر هذا الصرح  من قبل ولم يسبق لي أن رأيت أيا من القصور الرئاسية الأخرى باستثناء القصر الجمهوري في كرادة مريم الذي رأيته لعدة مرات فيما مضى...

  

وهو البلاط الملكي تحت الإنشاء عندما قامت ثورة 14 تموز/ يوليو 1958، ولم يتم الانتقال إليه إلا بعد ثورة 14 رمضان/8 شباط فبراير 1963 حينما تحول إلى القصر الجمهوري الرسمي للدولة العراقية، ووقعت في أسر القوات الإيرانية في 24 آذار/ مارس 1982 ولم يكن هناك قصر رئاسي رسمي سواه، وحينما عدت من الأسر في 23 كانون الثاني/ يناير 2002 لم يكن ميسورا لي أن أدخل إلى أي من القصور الرئاسية ولذلك حينما أصف قصر الفاو بأنه الأكبر والأفخم فإنما أقارن بينه وبين القصر الجمهوري في كرادة مريم وربما بما سمعته من مقارنات بين القصور الرئاسية، على العموم لم يتعرض القصر لشيء من ظروف العمليات الحربية الكبرى التي شهدتها بغداد ومنطقة المطار بشكل خاص، ولكن الكثير من محتوياته كانت قد اختفت نتيجة السرقات التي قام بها الجنود الأمريكيون ونقلوها إلى بيوتهم في الولايات المتحدة تحت لافتة أخذ تذكارات من زمن الحرب، حينما دخلت إلى باحة القصر شعرت بدوار عنيف يضرب رأسي وتساءلت بمرارة هل بني القصر كي يشغله أكثر أعداء من بناه كراهية له وحقدا عليه وهم الأمريكيون وأرادوا المبالغة في التعبير عن هذا الحقد حينما حولوا هذا القصر إلى مقر لقيادة قوات غزو العراق واحتلاله، القاعة الكبرى تحمل الرائي على أن يسافر في خياله بعيدا إلى قصور القياصرة والأباطرة وعالم ألف ليلة وليلة وخيال شهرزاد، تتدلى من قبة القصر ثريا كبرى من الكريستال النقي المشدودة مع بعضها بخيوط من الذهب أو مطلية بالذهب ولتتشكل وهجا متلاحق التلألؤ كأنها كوكب دري، حينما دخلت باحة القصر قلت مع نفسي هي مفارقة الزمن الرديء الناتج عن الاحتلال أن أدخل القصر في وقت تطبق عليه قوات وعلى كل مفاصل الدولة العراقية، ولم يتحقق لي أن رأيت هذا القصر في زمن سياسي كنت جزء منه وفيه، كان الألم يعتصرني وأنا أمشي في أروقة القصر لأن شيئا بنيناه وتحمّل الحزب وقيادته بسبب بنائه الكثير من النقد والتجريح، ثم تحول في لمح البصر إلى عدونا وكأننا ما بنيناه إلا لكي ينتقل إلى سيطرة أولئك الأعداء، وإذا مرقت من تحت تلك الثريا فكأنما مرقت تحت وهج الشمس وإذا سلبت القدرة على مقاومة إغراء النظر إليها  فلا بد من المسير فوق أرض من طراز خاص ترغم الجميع على استذكار الآية الكريمة /قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة/ فهي أرض تلمع بصفاء رائق، ومن الخارج تحيط بالقصر حدائق ذات بهجة وبحيرات متلاحقة تربط بينها جسور هي أقرب إلى عيون المها بين الرصافة والجسر، وعلى الرغم من أن قوات الاحتلال لم تدخر جهدا للعبث في بالقصر ومحتوياته وما يحيط به من مرافق بل وبالعراق كله فإن القصر بقي متألقا بالحزام الأخضر الذي يحيط به بعد أن حول أراض قاحلة إلى أجمل الجنان مما يصادف الإنسان، صدام حسين لم يبن لنفسه قصرا ولم يفتح حسابا في البنوك الأجنبية ولو أن أحدا من أعدائه قد ضبط وثيقة واحدة تشير إلى ذلك لكانت الصحافة المرتبطة بالمحتلين الأمريكان والبريطانيين والإيرانيين وعملائهم من عناصر العملية السياسية قد سخرت كل صفحاتها للحديث عن ذلك، ومع هذا لم استطع منع نفسي من طرح سؤال عن جدوى بناء مثل هذا القصر وسواه؟ وهل أن ظروف العراق ما كانت لتستقيم لولا بناء هذه القصور؟ لاسيما وأنها بنيت في زمن الحصار ولو أن ما أنفق عليها خصص لبناء الطرق والجسور والبيوت الشعبية للفقراء لكان ذلك أجدى وأنفع، غير أن صدام حسين قد ترك للعراقيين شيئا من المآثر العمرانية وهم الذين لم يترك لهم الذين حكموهم قبلا شيئا منها، ووصلنا أخيرا إلى القاعة التي أعيد تنظيمها بحث أصبحت القاعة الرئيسة لعقد المؤتمرات وعلى أعلى المستويات بين القيادة الميدانية للقوات الأمريكية في العراق ورئاسة الأركان الأمريكية في واشنطن وقيادة المنطقة الوسطى عبر قناة تلفزيونية مغلقة يتم خلال هذه المؤتمرات بحث المستجدات والخطط البديلة وذلك نتيجة التطورات الميدانية والخسائر المتزايدة للقوات الأمريكية في العراق، أخذ كل منا مقعده المحدد له سلفا، أخذت استراحة لأدور فيها خلال هذه القاعة والتي يمكن أن تكون قد شهدت الكثير من المؤتمرات العسكرية التي أدارها الرئيس الراحل صدام حسين لوضع الخطط التفصيلية وبدائلها التي تقتضيها المستجدات الطارئة من أجل مواجهة قوات الغزو الأمريكي التي تتخذ من القصر مقرا لقيادتها العليا ومن هذه القاعة لعقد المؤتمرات العسكرية ولكن من أجل التصدي للمقاومة الوطنية المسلحة الباسلة والتي تمكنت من إلحاق أكبر هزيمة عسكرية ونفسية بالولايات المتحدة منذ الحرب الفيتنامية...

     

مع فارق بسيط وهو أن المقاومة العراقية تواجه أمريكا بكل ثقلها من دون أن يمد لها الاتحاد السوفيتي يدا الدعم أو الصين الشعبية كما كان يحصل مع كفاح الشعب الفيتنامي لطرد الأمريكان من جنوب بلادهم، بدأ الفنيون بتشغيل شبكة الاتصال مع قاعة المحكمة العسكرية في إحدى القواعد في ولاية كولورادو، حينذاك فقط أيقنت أن الصيحات التي تعالت باللغة الإنكليزية والتي مهدت للربط الفني بين هذه القاعة وقاعة المحكمة في كولورادو أصبحت حقيقة مؤكدة، فالأصل أننا كنا نشك كثيرا بجدية الأمريكيين معنا في كلمة ينطقونها وفي خطوة يخطونها، وبدأت جلسة الاستماع، ومن طبيعة الأسئلة التي طرحها المحققون بدأت أتيقن بأن الجانب الأمريكي وفي سعيه للتنصل عن مسؤولية جريمته فإنه يستميت من أجل البحث عن ضحية أو شماعة يعلق عليها أسباب ما ارتكب من جريمة وحشية وتحويل مروان من شاهد إلى متهم، ولذلك كانت الأسئلة تركز على الوقت، متى وصلتما السيطرة العسكرية عند مدخل سد الثرثار؟ لماذا تريدنا نعتقد بأن الجنود قد ألقوكما في الماء؟ وعشرات الأسئلة تتدفق بلا انقطاع حتى تصورت أن الهدف من طرح هذا السيل من الأسئلة ليس سماع شهادة مروان بقدر ما كان الهدف التشويش عليه علهم يمسكون برأس خيط يجعلون منه سياجا لحماية متهميهم ولذلك كنت أشير إلى مروان بعدم التحدث معهم ما لم يتوقف المحقق عن طرح سيل الأسئلة التي لا علاقة بها بموضوعنا، من قبيل هل تتوقع أن جنودنا على استعداد لرمي شباب أحياء في فوهة سد مائي متدفق المياه؟ أو من قبيل هل تتوقع أننا ذهبنا إلى العراق من أجل تعريض حياة أبنائه للخطر؟ أسئلة غبية لم تحرفنا عن مسارنا خلال الجلسة التي انتهت بعد العاشرة ليلا في بغداد.
السرجنت سينترون كانت في ظاهر القول تتظاهر بأنها ستبذل قصارى جهدها لإظهار الحقيقة وكانت تقول بأن هذه الجريمة لن تمر من دون عقاب وأنها لن تشعر بالراحة أبدا ما لم ينل الجناة عقابهم العادل، ولكن في نهاية الطريق ظهرت عارية تماما عن ثياب الحرير الناعمة التي ظهرت فيها علينا، فقد تبين لنا فيما بعد أنها رفعت تقريرا بحكم مهمتها كمحققة إلى مراجعا شككت فيه بأن يكون الجثمان الذي دفناه يعود لزيدون، كيف سنعود إلى المنزل عبر طريق المطار؟ ماذا سيرسم في ذهنه من صور من يحمل بندقية أو قاذفة يترصد رتلا أمريكيا عن هذه السيارة التي مرت بهدوء في طريق طالما أرّق الجنود الأمريكان عند عبوره؟ كانت الأسئلة تتدافع داخل رأسي دون أن أوفق في جواب واحد على أي منها، وخاصة ماذا سيقول الناس لو استهدفنا بقذيفة دمرت سيارتنا وقتلنا بها؟ هل يصدق أحد طبيعة المهمة الجهادية التي كنا فيها؟
عندما خرجنا من البوابة الرئيسية لقصر الفاو والذي كان يشع بأنوار الثريا العملاقة، غصنا في ظلام دامس وليل أسود وكأن الخطوات المعدودة الفاصلة بين البوابة والممر الخارجي مسيرة دهر قطعناها بين عالمين.
أخذتنا سينترون بسيارة الدفع الرباعي التي جئنا بها من البوابة الخارجية للمطار، وترجلنا في نفس المكان ومضينا إلى سيارتي الخاصة التي كنت قد تركتها في الموقف المخصص لسيارات الداخلين إلى المطار، أدرت المحرك وتوكلت على الله وبأعصاب مشدودة قطعت الطريق بأقل من نصف ساعة وكأنها نصف يوم.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

572 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع