رحلة ألم في العقل الباطن .. قصه حقيقيه

                      

                         بقلم / فؤاد حسين علي

       

     رحلة ألم في العقل الباطن ...قصه حقيقيه

                        

مازال العمر يتقدم

سرعته في التقدم زادت كثيرا عن الاول.

المحطات السابقه تندثر في خلايا العقل التالفه.

ألا واحده..

كم تمنيت أن تزول مثل غيرها كي لاتوقضني كوابيسها من نوم مشوب بالارق.
تشدني الى أربع عقود منه ،يوم تعرفت على صديق في الوحده العسكريه التي نسبت أليها بعد تخرجي من الكليه العسكريه عام 1967 ،يسبقني في التواجد بها بستة أشهر .أقتربت منه في شتاء ذلك العام المعروف ببرودته الشديده وفصائلنا تنفتح رباياه متجاوره على ظهر السمكه ،الجبل المحاذي بموقعه لحوض راوندوز .

غريبة هي أطوار هذا الصديق القادم من ريف الحله الفيحاء ،بعقلية تفوق أهل بغداد أنفتاحا على المدينه.

مخلص للصداقه على الرغم من ضيق الاخلاص في الزمن الصعب ،مسرف في حب الدنيا ،زاهد في بعض جوانبها مثل شيخ صوفي .ناشط في القراءه والمتابعه ،ماجن في السهر والعلاقات الخاصه مع الجنس اللطيف .حالم يتطلع الى مستقبل يبهرك بالتكلم عن صيرورته بعيدا عن المنصب والجاه .لامجال لك ألا أن تكون له صديق ، فكان الأمر كذلك حتى بتنا نقضي غالبية أيامنا سوية ،حتى في الأجازة الدوريه المعتاده شهريا.

مرت ألأيام وألأشهر والسنين ، صرت أحلم مثله بعيش في مكان ليس الذي نعيش فيه ، ومستقبل غير الذي سنحشر فيه،مكان وزمان نتحرر فيهما من قيود الخديعه ،نعبد أو لانعبد بملء ارادتنا .

أسأله عندما نجلس سوية على شاطئ أبي نؤاس أو في النادي العسكري بمنطقة الميدان عن المكان الذي يعتقده مناسبا للحريه التي يتطلع اليها،
والزمان المناسب للتخلص من القيود ،يكتفي بالقول أنه ليس في العراق.كيف لايكون في العراق وأنت بعثي أقنعتني بتأييد الأنتماء الى الحزب ،وفي النضال من أجل الغد ألافضل لأنسان هذه الأمه ؟فيجيب بأقتضاب أنها أمنيات ، يبين الواقع الحالي أنه لن ولن يكون أفضل .

يسألك وانت السائل ،ألم تر مايحدث من حولك من تسابق في التناحر الخفي بين الكبار؟ وألم تلاحظ هذا الغلو في التسليح ،واستعراض القوة الموهوم؟ ويكرر في ختام الاجابه أنه سوف لن يكون في العراق.

جاء العام 1970 ونقل زميلي الى أحدى مديريات وزارة الدفاع في توجيه للدوله الى تبعيث المؤسسه العسكريه ،وأصبحت لقاءآتنا تقتصر على الاجازة الدوريه التي أحضر بها الى بغداد أو يقضيها هو في البصره.

     

وفي خريف العام فاجئني بالحضور الى مقر وحدتنا في الشعيبه ،قائلا جئت بواجب لثلاثة أيام وسأمكث ليلي هنا .ونلتقي بعد الدوام في العشار .كان المشي على شط العرب ممتع ومنظر البواخر الراسيه لتفريغ حمولتها وتلك التي تنتظر دورها للتفريغ جميل لحظة الغروب على وجه الخصوص ، أخذناالمشي الى نهايته ، وفي العوده ،تذكرت المستقبل ،فعاود هو التذكير بقناعته الراسخه من أنه ليس في العراق،بطريقة أزعجتني في حينها ، فسألت عن الحل فأجاب ؟.

الحل في الهجره وترك البلاد ،والبدء في ديار الغربه من جديد،بالاعتماد على شباب قوي البنيه ، وعقل سليم التفكير ، ونفس متفائله بالاحسن والامتع والأوفر حظا للصيرورة التي تريد.

لقد صدمت من العرض أول مره ، صدمة لم يطول أمدها نصف ساعه التي قضيناها في المشي ، حتى أتفقت معه بالرأي وطاوعته على الخطه التي يراها مناسبه بأعتباره صاحبها ومقتنع بنجاحها.

لقد أتخذنا القرار في أن نبدأ أولا بالحصول على أجازه سياحيه الى القاهره ، ومنها نتجه الى أمريكا أو اوربا التي يسهل الحصول على تأشيراتها جميعا في تلك الايام . وتمت الخطوة الاولى ،وأستعجلت أجازتي الدوريه ،متشوقا للشروع بالخطوات اللاحقه ،وحجزنا على رحلة الطائره العراقيه ليوم الخميس.


كل شئ يسير بهدوء حتى ليلة الاثنين على الثلاثاء التي بقيت طوالها أتلوى من أرق أصابني ،كمن فعل جريمة ،يحاول الخروج من مأزقها .أنتظرت حلول الصباح لألتقي صديقي بمكتبه في وزارة الدفاع .

وصلته الساعه الثامنه والنصف صباحا مع بداية الدوام ،ودون أية مقدمات أخبرته أني قد غيرت رأيي بسبب مسؤوليتي عن عائله أغلبها نساء عواجز وأضفت لماذا المجازفه والوضع العراقي جيد ، والوظيفه التي نحتكم اليها أكثر من جيده ، ومستقبلها مضمون .

سألغي حجزي بالطائره وأقطع أجازتي وأعود الى البصره .وكعادته في الرد بأعصاب منقوعة بالثلج ،حاول أقناعي بالعدول عن القرار ،مسرفا في عرض المستقبل الغائم في العراق ،كأنه يقرأ بكتاب مفتوح أو يتوقع مثل قارئ الكف والفنجان ،ولما تيقن من اصراري ، قال بصوت فيه نبرة أحباط ، ستندم ياصديقي ، سيأتي اليوم الذي تلوم فيه نفسك على تأخرك في تنفيذ هذا القرار ، وستندم لأنك غيرت رأيك واستعجلت في تغييره .

كمن أغلق منافذ منزله بأرادته كي لايرى مايحصل خارجه من أحداث .

كان القرار صعبا ، لم يؤثر على طبيعة العلاقه التي أستمرت لتقوى بعد مجيئي للوزاره وبنفس الدائره التي يعمل بها، بعد أشهر من هذا التردد في اتخاذ القرار ،ليسدل الستار تماما عن موضوعه الذي أصبح بالنسبه لي ماض أتذكره مع تطور الاحداث التي بدأت تتوالى سلبا على العراق نهاية سبعينات القرن الماضي ، وتذكرته بشده مع بدايات الحرب مع ايران ، وفكرت فيه بقوة عندما سنحت لي الفرصه تنفيذه عام 1983 وأنا موجود خارج العراق،حتى أني هممت ، وتوقفت بعد أن تملكني ذات الشعور الذي منعني من السير في طريقه مع صديقي القريب قبل أن يصنف العراق بلدا طاردا لأهله ودافعا للمهاجريين بعشرين سنه.

عندما أغلقت منافذ التفكير بالموضوع بعد أن أضيف الى عائلتي الممتده زوجة وأطفال ، وأضيف لتنفيذ المشروع عقبات في الأمن ،ومجازفه يصعب حسابها بأي حال من الاحوال.

لقد حصل فعل التناحر ، وقويت سلطة الفرد والمنطقه والعشيره كما تنبأ الصديق، وفتحت الحرب الاولى مع ايران أبوابها بوسع لم يفهمه أحد من السياسيين والعسكريين ،حتى سارعت لأبتلاع الاصدقاء المشاركين واحد تلو الآخر سبقهم جدوع خلف ،أرد ته رصاصة قناص ،وحاتم عبدالامير

أماتته في الطريق الى المستشفى شظية عابره من الساتر الترابي في الطريق الى معايشة أبتكرها السياسيون ، وتحسين ياسين حمودي ،تعرفنا على بقايا جسده الطاهر من ملابسه وساعة وأجزاء من هويته العسكريه التالفه بعد أنتهاء الحرب بخمسة عشر عاما ،كانت كافيه لتنفيذ تبادل الجثامين بين الجارين المسلمين ،ورمزي الذي أعدمه القائد بتهمة التخاذل وهو الضابط الشجاع . أنها الحرب التي لاتشبه مثيلاتها من الحروب .

أنها نوع خاص ،قلقها آت من عدد في المواجهه وآخر لايقل شدة ، آت من القيادة الاعلى التي لاتفهم سياقات الحرب،معارك فيها تلهب الحماس وآخرى تشعر باليأس وثالثه تذكر أنفعالاتها بنبؤة ذاك الصديق وتقديره لمستقبل أراده بعيدا عن العراق .وفرصة النجاة فيها عود الى بغداد في أجازات يغلف أجسام أصحابها غبار من نوع خاص ، ولقيا ذاك الصديق في البيت الذي أقتصر على حديقته اللقاء ، تجنبا لتسجيله صورة وصوت أذا ماتكلم خلاله عن أمنيات أيام زمان التي وأدتها بقراري العدول عن الاتفاق .خاتمها التسليم الى القدر المكتوب والمصير المحتوم كما عودنا الآباء في التنشئه التي أسسوها قائمة على ثقافة الاستسلام .

لقد انتهت فترة الشباب ،وتعطلت العقول التي أفسدت قدرتها ضغوط الحروب التي تكرر دخولها ، ولم تنتهي طموحات الهجره الى بلاد الغرب عند ذاك الصديق ،كررها عندما زرته في مكان حبسه في السجن العسكري الرقم واحد بمعسكر الرشيد ، عندما أتهم بتوجيه أنتقادات للقياده فسرت أهانة لرموزها. تفاجئت وأستغربت معاودة طرح الموضوع بعد مضي واحد وعشرون عاما ، وسألته ؟ألم تيأس ،فاجاب لا، لأني هذه المره أفكر بها ليس من أجلي ،وليس من أجلك بطبيعة الحال ، هناك اولاد لنا أتمنى لهم العيش ،بعيدا عن زوابع سيزداد عصفها بمرور الايام فلم أسمعه هذه المره كما كنت أسمعه من قبل ،وتمتمت مع نفسي بكلام غير مسموع فسره اصرار على الموقف السابق ورغبة في تغيير أصل الموضوع .

   

مرت الايام وأشتعلت حرب آخرى ،أسميت بحرب الخليج الثانيه ،اجتاح فيها القادة السياسيون الكويت بعسكر خرج مرهقا من حرب قريبه ،وبدأ الحصار ،وبدأت الايام تمر بوقع بطئ كغير عادتها ،وخرج صاحبنا من السجن وزارني في أوج أيام الحصار قائلا ....

جئتك هذه المره مودعا ، لقد قررت الرحيل وترك البلاد الى الابد ،لا يمكنني العيش وسط تهديد لأولادي في الشارع والمدرسه والبيت، سأمت التفكير بكثر الأفخاخ المنصوبه وعمليات المراقبه ، وأحتمالات التسجيل وكتابة التقارير ،أريدهم أن يعيشوا ، وقبل أن يغادر همس في أذني ،سأعود يوما وأعاود تذكيرك بالخطأ الذي ارتكبته أول مرة والخطأ الذي ترتكبه الآن ،وسأقول لك بملئ فمي أنك لم تفهم مايجري حولك ،أننا نعيش على مقربة من غابة وحوش يجري تجويعها ، لأن لانعلم متى تكسر أسيجتها لتنطلق صوبنا وتلتهمنا من شدة الجوع.

لقد حزنت كثيرا لفراق الصديق الذي طالما لجأت اليه في الكثير من القضايا ، ولجأ لي بمثلها عند الحاجه ،وصل صديقي الى ليبيا وعمل أستاذا بجامعة الفاتح لأربع سنين ،قال في رسالة بعثها لي بيد أستاذ زار أهله في بغداد أن العيش في الجماهيريه الليبيه لايحسب من العمر ، وسيتركها بحثا عن الأمل الذي راوده أيام الشباب ، وفي العام 2000 أستلمت رسالة مشفره أنه في سوريا ،ثم انقطعت أخباره الى حين أتصل معي السيد يعقوب كريم اليعقوبي طالبا حضوري في بيته الذي لايزال في منطقة حي الجهاد ،كان يعقوب مشدوها ،أدخلني سريعا الى غرفة خاصه فيها تلفاز ،قال أنه مربوط على جهاز الستلايت ،يسحب قنوات فضائيه أظهرت صديقك معارضا للنظام من لندن،أنتظرت ساعات حتى أعادت قناة المستقله البرنامج ثانية ، فتيقنت أنه وصل الارض التي كان يقصدها ،

فلم أتماسك نفسي من بكاء على ماض قد رحل ومستقبل يؤكد صديقي في حواره مع آخريين بنفس اللقاء أن سنينه عجاف ، وسوف لن يرى العراق مثلها من قبل .

بعد سنتين من ذاك اللقاء ولقاءآت آخرى تكررت ،ينقل أخبارها السيد يعقوب كريم اليعقوبي ،طرق بابي ذلك الصديق عصر يوم 26-4-2003 كم هو جميل عناق يأتي بعد فراق طويل ،وكم هي المتعه لذيذه في الجلوس بنفس المكان بالركن الجانبي من الحديقه التي شاخت أشجارها بسبب الاهمال الذي أصابها في سني القحط أبان الحصار.

أستأذن بالذهاب بعد نصف ساعة من الجلوس ،لانه متعب من الطريق الذي سلكه من عمان الى بغداد ،واعدا بتكراره في اليوم التالي بعد انتهاء مؤتمر سيحضره في قصر المؤتمرات ببغداد.وقبل تخطيه باب الحديقه ،

توقف وسألني .

ألم تغير رأيك وتترك العراق؟؟

ماذا تقول؟؟

سأترك وانت تعود ، أي منطق هذا ؟؟؟؟؟

لقد عدت لكثر أشتياقي ،وأملي في أن نسهم بتقليل الثمن الذي سيدفعه العراق .

وهل هناك من ثمن آخر ؟؟؟؟

نعم هناك ثمن مطلوب تسديده تفوق كلفة الثمن المدفوع .واضاف أعيد عليك المقترح ثانية ،وأتمنى لو تفكر بالهجره وتنفذ فكرتها قبل الشروع بدفع الثمن المطلوب ،لم أستوعب الكلام الذي دار على عتبة الباب ،وظننت أن صديقي قد أنهكته سني الغربه والتقدم بالعمر ،حتى مستوى التخريف .وألا مالزوم هذا الكلام عن الهجره والثمن الذي سيدفع لاحقا،

والنظام المسؤول عن حصوله قد تغير منذ أيام .

دارت العجله سريعا وعدنا سوية الى الوظيفه ،وبتنا نلتقي بتكرار أقل من تلك التي كانت تحدث أيام الشباب ،وجاءت السنة الثانية بعد التغيير ،ثم الثالثه التي بانت مؤشرات الثمن المدفوع بوضوح ،يتعرض صديقي خلالها الى محاولة أغتيال فاشله ،يستمر في عمله ،تضربه جلطة في القلب ،بقي بسببها في مستشفى النعمان يصرخ من الالم حتى حلول الصباح وحضور الطبيب الاخصائي الذي أعطاه الدواء الصحيح .وعند زيارتي له في المستشفى ، ذكرني بضرورة التفكير جديا بترك العراق ، وأنه سيتركه ويعود الى لندن بمجرد النهوض من على السرير ، مؤكدا أن العمر مضى ولم يبقى فيه ما يستحق العيش وسط القلق المجنون .

       

كتمت أنفاسي ،ولملمت جراحاتي ،وعدت الى البيت مكسورا بعدما اوصلته الى المطار،وأكدت له أني سأفكر جديا بالمشروع ،وبقيت في دوامة حيرتي ثلاث سنوات منذ رحيله،حتى أتيحت لي فرصة الهجره عام2010 فتيقنت بعد فترة من الوصول الى السويد أني جئت متأخرا ،في عمر بات اللجوء فيه مرا والعيش لما تبقى من اواخره أمر منه بكثير .

واني وصلت في زمن لايسمح بالبقاء بعيدا عن الامتدادات العائليه بلا عمل ولاشعور بالأنجاز ، سألت صديقي الذي أعتاد القدوم لزيارتي من لندن بين الحين والآخر ، عن مشاعري هذه وحيرتي بين البقاء غريبا مع نفسي وبين العودة والعيش تحت ضغط التهديد والفقدان شبه الدائم للخدمات فأجاب ببساطه؟

ألم أقل لك يوما ستندم ،لأنك تأخرت عن الموعد المقبول للعيش غريبا بكثير.

وسألته ماذا بصددك أنت في هذه الغربه التي لاتطاق؟؟فأجاب لقد أعددت نفسي لها بالكتابه عن آلامي وآلامها ،والثمن المدفوع ،فوجدتها طريقة مسليه لقضاء الوقت، والقبول بالنظر المشوش الى وطني الجريح من على التل البعيد .

وماذا عن مستقبل العراق؟

لقد حصل المحذور وكل ماأتمناه ،أن أدفن في مقبرة تكسوها الخضره ،وتتخلل قبورها أزهار الزنبق ،وهي ياصديقي العزيز سوف لن تكون موجودة في العراق لمئات سنين قادمه

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

529 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع