إسدال الستار / للتاريخ والعبرة ح 18

                                             

                                 مثنى عبيدة

في فصول حياتنا وحياة المجتمعات أو مشوار عمرنا القصير تتوالى الأحداث والقصص التي تاخذنا نحو النهاية التي ننتظرها أو تباغتنا لتعلن إسدال الستار عن الفلم أو المسرحية أو الحياة نفسها ، كذا الأمر بالنسبة للمجتمعات والدول والشعوب لأنها مهما عاشت من فصول فإنها ستصل إلى نهايتها عاجلاً آم أجل ، وكل تلك الفصول ستتكرر في حياتنا أو حياة الآخرين وان تباعدت بينهم المسافات واختلفت البدايات والنهايات .

في عام 2000 م وما تلاه من أعوام قليلة كانت فصول حياتنا تسير بنا نحو نهايتها المفتوحة على كل الفصول حيث بلغ اليأس مبلغه والإحباط تسلق أكتافنا والدنيا سائرة والهموم تقصف أعمارنا مختزلة بل وخاطفة شبابنا وأيامنا.
 
كنتُ حينها أحاول جاهداً أن أحيى بقدر معقول من التفاؤل والأمل عسى أن يسهم ذلك في رفع روحي المعنوية ومن حولي من أفراد العائلة والأصدقاء والمعارف من خلال اللقاءات والزيارات المنزلية .
 
في هذه الأثناء تم تشكيل جيش جديد في العراق حمل أسم جيش القدس أبان  الانتفاضة التي حدثت في فلسطين وبدأت الفرق الحزبية والإعلامية تبشر بهذا الجيش وتحشد له كل طاقات الدولة العراقية حتى خيل لنا وللعالم أننا سائرون بهذا الجيش نحو القدس سيكون أوله على أساور المدينة وأخره في بغداد ، المهم إننا أسوة بكل العراقيين وقتذاك دعينا إلى التطوع بهذا الجيش وأذكر أنني تكلمت مع المسئول الحزبي الذي جاء إلى بيتنا لدعوتنا للتطوع وقلت له تعرف أنني وأخي سعد من معاقي الحرب وقد تم إعفاءنا من الخدمة العسكرية المسلحة وغير المسلحة وأخوتي الآخرين يكدحون من أجل العائلة قال طيب حاولوا أن تتواجدوا مع الآخرين في مكان التدريب حيث سيتم تخصيص مكان لكم مع بقية كبار السن والمرضى في المدرسة الابتدائية التي تم اتخاذها مكان للتدريب ، فقلت له طيب ما الفائدة من وجودنا نحن المعاقين وكبار السن قال المهم نريد من كل بيت رجل في هذا الجيش طبعاً يعرف الجميع طبيعة المرحلة وآليات التعامل مع الحدث وقتها والذي للأسف الشديد تم تصويره على أنه شيء طبيعي أن يرتدي الجميع ملابس العسكر وأن نتوجه إلى هدف جديد بينما نحن نعاني من مشاكل إنسانية واجتماعية لا حصر لها وأن المجتمع العراقي بات مثل الملاكم المنهارة قواه نتيجة لكثرة اللكمات التي تعرض لها في نزالاته الكثيرة والطويلة ، وأن هذا الملاكم الشجاع يحتاج وقتاً للراحة وتجميع قواه من خلال التغذية الجيدة من وجبات غذائية حرم منها طوال سنين الحصار وأن من حقه أن يعرف ما يجري حوله من خلال أعلام واضح صريح يعرفه بقوة الخصوم لان أن يستهزئ بهم ويقلل من شانه في محاولة بائسة لتغيب العقل والمنطق كان هذا الملاكم يحتاج الصدق والوضوح وليس الكذب والركض خلف السراب...   
 
في ذلك الوقت العصيب ضاعت قيماً وطنية كبيرة بل أن قيمة الوطن نفسه وقيمه الأخلاقية والإنسانية قد تعرضت للاهتزاز والتراجع فكيف بحال قضايا الأمة أو الآخرين وهل يستطيع المواطن المسحوق أن يتجاوب معها ويسعى لها ؟؟ .
كان المواطن يحتاج من يحترم إنسانيته ووطنيته ويـُنميها وليس العكس...
 
خلال تلك السنين قضيت ُوقتي متنقلاً بين بيوت أخوتي وأخواتي نظراً لارتباط أزواجهن بالواجبات العسكرية وهكذا تمضي أيامي متجولاً متأملا لما ستؤول إليه الأيام وهل سينتهي هذا الفصل من حياتي وحياة المجتمع ويسدل الستار لكي يرتفع عن فصل أخر من فصول حياتنا .
 
أذكر ُحينها حواراً دار في بيت كريم من بيوت منطقتنا حيث كان النقاش يدور حول الضربة العسكرية وكيفية تفاديها أو ماذا سيكون الحل في الخطوات المقبلة وما يعانيه الوطن وقد صرح كل منا برأيه وكانت بعض الآراء تتسم بالحدة والتهويل من قدرات باتت متآكلة مع الزمن وشعارات لن تفيد حين يحل الندم وبعض الآراء انصبت على توضيح الحقائق وترك الحكم للزمن كانت جميع الآراء تنطلق من حب الوطن ، من بين الحضور كان هناك رجل زائر من مدينة أخرى ظل طوال الوقت مستمعاً قليل الكلام وبعد أن خرجت ُ ومعي مجموعة من الأخوة من هذا البيت علمت بان الرجل كان ضابطا كبيراً في جهاز المخابرات العراقية . وللأمانة فإنه تعامل مع كل تلك الآراء بروح متفهمة لصدق وطنية القائلين حتى وأن اختلفت أرائهم مع أطروحات الدولة وإعلامها .
 
طبعاً في العائلة العراقية الواحدة بدأت مشاعر الخوف والقلق على الأبناء تعود من جديد لتشكل هماً مضافاً لهموم المعيشة وتوفير مستلزمات الحياة ، كنتُ وأخي سعد متعلقين بالمذياع والتلفاز ووسائل الإعلام المتوفرة لكي نعرف ماذا يجري في الطرف الأخر كان التوجس والترقب على حال البلد مسيطراً على عقولنا وقلوبنا كما الخوف مسيطر على تفكيرنا لوجود أخينا الحبيب علي وهو أصغر أخوتنا ونحن من تولينا تربيته لكونه يتيم الأب منذ ولادته وقد أحب علياً الجيش رغم كل ما مر بنا ، ذلك لأننا كنا نحرص على زرع حب العراق في قلبه وليس حب الفرد في عقله كنا نحول جاهدين الفصل بين ما تعرضنا له من ظلم وهضم ٍ للحقوق وبين حق العراق علينا وفعلاً أختار علي طريقه ليتقدم الصفوف مع أقرانه إلى الكلية العسكرية العراقية رغم أننا أيضا عارضنا بالبداية خوفاً عليه لكي لا يمر بتجربتنا المريرة ولكن أحد الأخوة الكرام قال لنا دعوه ربما على يديه وأيدي الشباب أمثاله يجري التغير والخلاص ، عشنا مع علي خطوات التدريب والتعب خطوة خطوة وكانت العائلة بأكملها في استنفار تام يومي الخميس والجمعة لكي يتمتع أخي  بالراحة البسيطة مع تجهيزه بما يحتاجه من ملابس أو أدوات أو طعام كانت أمي تودعه ونحن معها بالدموع والماء الذي ترشه أخواتي خلفه ويوم قررت الكلية العسكرية إجراء تدريب القفز إلى الماء كانت أخواتي وأخوتي تتقدمهم أمي عند جرف نهر دجلة تحت جسر الصرافية في بغداد الكل تبكي وتدعو وهي في صوم ٍ منقطعة عن الأكل والماء ، بل أن أبن شقيقتي وأسمه محمد وكان في سن مقاربة لخاله الصغير وكان يجيد السباحة قال سوف أعوم تحت الماء وأنتظر خالي حينما يقفز لكي أتلقفه وأنقذه قالها لكي يخفف من حالة الخوف والتوتر التي سيطرت علينا جميعاً ،كان أخوتي  أحسان وناصر ومعهم بقية شباب العائلات يترقبون خروج الأبطال من الماء وهو يحملون بأيدهم المناشف وبعض الملابس لكي يـُهدون من روعهم في يوم بارد جداً ،
 
لحظة قفز علي من الجسر كانت لحظة قفزت فيها قلوبنا معه وغطست بالماء وعيوننا تسبحوا بالدموع وأيدينا إلى الله مرفوعة بخشوع خرج علي وهدأت أنفاسنا قليلاً ونركض نحوه ونـُقبله بكل مشاعر الفخر والاعتزاز كيف لا ونحن نرى أعز أنسأن عندنا قد أصبح رجلاً نفخر به بين الرجال وتستمر رحلة الاعتزاز والفخر لنصل يوم تخرج الوجبة الجديدة من الضباط الشباب وهناك رأيتُ ضابط المخابرات الذي ذكرته أعلاه حيث كان له أبناً تخرج مع أخي علي ضابطاً في الجيش العراقي البطل والذي أصرت أمي أن تصوغ ُ له  نجمات ذهب ٍ تليق بالذهب نفسه أبنها الحبيب علي .
 
يستمر ُرفع ُالستار لنصل الفصل الأخير من المأساة عام 2003 م فقد بدأت الحرب التي كنا نتوقعها ونخشى من عواقبها لما بات يعرفه جميع العراقيين الذي عاشوا تلك السنوات ومدى الانهيار الذي عاشه المجتمع نتيجة لسنوات الحصار القاسية بكل معاني الكلمات ، ارتجت الأرض بقصف الطائرات والصواريخ المحمولة على ظهر البوارج والسفن في البحار والمحيطات ولا نعرف أين نذهب وسط جحيم قد فتحت أبوابه علينا من كل اتجاه ، كنتُ أنظر إلى بغداد في ذلك الفجر ولا أرى إلا اللهيب والانفجارات تفتك بحبيبتنا بغداد وكل مدن العراق كنت ُ وأنا في ضواحي العاصمة أشاهد الدخان يتصاعد مع انبلاج فجر الصباح الذي يبد أنه سوف يغير وجه العراق .
 
أخذت أطفال أختي وعدت إلى بيتنا لكي أكون بالقرب من أمي وكنا نترقب إخبار الحرب ونحن نرى الدبابات تملأ الشاشات مستبيحة أرض العراق والطائرات تتجول بحريتها فوق سماءه وليس هناك من رادع لها أو عقاب فقد تبخرت كل أوهام المنافقين والكاذبين الذين أغرقوا البلاد بكذبهم وعدم توضيحهم الحقائق لقادتهم وللعباد لكي نعرف حجمنا بالضبط دون مزايدات ... ولا أدري هل كان معيباً أن نعترف بان الأخر يتفوق علينا عدة وعتاد ؟؟ وهل يلثم الوطنية أن قلتها دون زيف ٍ أو خداع ؟؟ ...
 ( قضيت جزءً من أيام الحرب في زيونة لدى بيت عمي المرحوم ناصر حسين أبو علاء وكان خطيب الجامع يخطب ونحن نسمع قصف المدفعية يدك مناطق بغداد )
 
 
كان أخي علي الضابط الشاب يقود فصيل في موقع تعرضت له الطائرات بالقذائف القاتلة والمحرقة للأخضر واليابس وكنا نسمع بذلك ونحن نقول قد ضاع أخينا كما ضاع الشباب وبعد مرور أيام والحرب تخلع القلوب والأبواب مهدمة البيوت والحجرات جاء أخي ماشياً على الإقدام بملابس رياضية قديمة ركضت قلوبنا وقلوب أبناء الجيران إليه  بالدموع والهلاهل واحتضنته أمي الكبيرة التي أمضت عمرها بالحسرات احتضنت أخر العنقود والأبناء باكية ضاحكة مستبشرة بعودته سالماً .
 
قصفت وحدتنا العسكرية قصفاً مدمراً دون أن نطلق أطلاقة واحدة هكذا ابتداء علياً حديثه وبين قتيل ٍ وجريح تقافز من نجا بين الحقول والبساتين مخترقاً الجداول متلطخاً بالطين حتى وصلنا إلى بيت ٍ كريم ٍ من بيوت العراقيين المشعة بالطيب والمحبة والأخوة حيث استقبلنا رجل كبير وعجوز بكت لمنظرنا وحالنا وأدخلونا إلى داخل الدار الواقعة قرب مدينة سيد الشهداء كربلاء العراقية ذات الآباء وتجمع أفراد العائلة المستضيفة وأكرمونا غاية الإكرام وهذا معدن أهل العراق كنا ثلاثة ضباط من بغداد ومن أهل الغربية والناس من كربلاء والكل أبناء العراق ...
 
لا زال علي يكمل حديثه حيث قال أخذت العجوز ملابسنا العسكرية وأعطتنا ملابس أبناءها الشرفاء الذين أمرهم أبوهم أن يتركونا نرتاح وفعلاً قضينا الليل نائمين باطمئنان لدى عراقيين يحبون كل أهل العراق وبعد أيام ٍ كنا فيها معززين مكرمين قال الرجل الكبير وتحت إلحاح منا أن نعود إلى أهلنا هيا يا أولادي اركبوا معي في السيارة وفعلاً أوصلنا إلى مدينة المحمودية ومن هناك ودعنا بحفظ الله ، حيث وجدنا آلاف الجنود والضباط يسيرون على الإقدام نحو بغداد المحترقة باللهب والدخان وبعد أن وصلت إلى منطقة الدورة وجدت هذه السيارة التي أوصلتني إلى بيتنا وأنا بينكم ولله الحمد والنعمة ،
 
انتهى كلام أخي الحبيب علي والذي توقفت رحلته العسكرية قبل أن تبدأ حيث لم تدم خدمته بالجيش إلا سنة وبضعة شهور لتضع حداً لطموحات شاب عراقي أحب العراق وجيشه البطل.  
 
اليوم بعد مضي عقد ٍ من الزمان أحب أن أسجل موقف ليس بالغريب على العراقيين النجباء وهو أبلغ رد على من يسعى لتفريق أهل العراق...
 
هل تعرفون ماذا صنع رب العائلة الكربلائية بعدما ودع علي ورفاقه ؟؟ وهل أرتاح ضميره وذهب إلى غير رجعة ؟؟ وقد عمل الذي عليه ؟؟
 
 لا...  وألف لا .. أنما أرسل أولاده إلى بغداد والحرب مستعرة ملتهبة وقد وصلوا إلى منطقتنا وسألوا عن علي سألوا رجلاً  كريماً من أهل العمارة الكرام  أصلاً ونسباً وهو يعمل في مهنة القصابة وكنا نحترمه ونناديه بصفة الخال وجاء الخال أبو ستار إلى بيتنا وسألنا هل لديكم مشكلة مع أحد قلنا له لا ولله الحمد قال لأن هناك أناس في بيتي وقد جاءوا يسألون عن أخيكم علي وخشيت أنهم يريدون به سوءً لذا أبقيتهم عندي وجئت أليكم وما أن نطق بأسمائهم حتى هب علي إليه يحتضنه ويقول خالي هؤلاء أهل كربلاء الذين استضافوني وأكرموني خذنا إليهم وذهبنا نحن إلى بيت هذا العراقي الكريم ووجدنا ضيوفنا أهل الكرم أهل كربلاء جالسين وأمام سفرة كبيرة من الطعام وحولهم أولاد أبو ستار والذين ما أن شاهدونا حتى أفسحوا لنا المكان لكي نأكل معهم وبعد أن انتهينا اصطحبنا شباب كربلاء إلى بيتنا ونحن نـُقبلهم ونحفُ بهم حتى أن استقبلتنا أمي أخذتهم بالأحضان وقالت أنت أولادي وهذا البيت بيتكم ، أما أنا ونيابة عن أخوتي وعائلتي كلها أقول لكم  أن فضلكم وموقفكم هذا دين في أعناقنا جميعاً ولن ننسى لكم أبداً هذا الصنيع فجزاكم الله كل خير ومن هذه اللحظة أنتم أخوتنا إلى يوم الدين طبعاً هم أخبرونا بأن أبيهم وأمهم لم يناموا ولم يهدأ لهم بال بسبب عدم معرفتهم بمصير علي وبقية الشباب الذين معهم لذا أصروا عليهم أن يذهبوا ليعرفوا مصير هؤلاء الشباب ..
 
 يا الله .. يعني يضعون أنفسهم بالخطر من أجل معرفة مصير هؤلاء الضباط الشباب ضيوفهم الأعزاء.
 
طبعاً حتى هذه اللحظة نعتز بهم نحن عائلة علي وتتواصل العائلتين بكل محبة وأخوة ولا يفرقها أي حاقد أو جاهل بمعرفة طبيعة أهل العراق
 بعد أيام فاصلة بتاريخ العراق أسدل الستار على مرحلة وحقبة طويلة في حياتنا الشخصية والعامة والتي ما أن أغمضت عينيها قليلاً حتى يرتفع الستار على فصل وفصول أخرى تستحق الشرح والكلام...
والله من وراء القصد .. وللحديث بقية أن كان بالعمر بقية بإذن رب البرية

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

650 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع