السلطة لم تفسد رجال الدين

                                             


                             إبراهيم الزبيدي

كان أغلب الظن أننا فئة قليلة فقط من الكتاب كشفت حقيقة النظام الذي يحكم العراق من عشر سنوات، وقالت إنه نظام (إخوان مسلمين شيعة) لا يقل تخلفا وظلامية وديكتاتورية وعدوانية عن نظام (الإخوان المسلمين السنة) الذي لم يتحمل المصريون بذاءاته أكثر من عام.

ولكن بعد متابعة ما كتب حول هذا الموضوع، ومن تعليقات كثرةٍ كاثرة من القراء، من كل الطوائف والقوميات والأديان والمناطق، تأكد لنا أن ثلاثة أرباع العراقيين أدركت هذه الحقيقة قبلنا من زمان، وعرفت من أسراره أكثر مما نعرف، وذاقت من شروره ما يشعل الصخر غضبا وغيرةً وحميَّة وحبا بالشهادة لطرد هذا الكابوس.

وأبرز ما أثبته المعلقون حقيقتان، الأولى أن النظام دينيٌ طائفي ديكتاتوري مختوم بالشمع الأسود، تهيمن عليه أحزابٌ ومليشيات يقودها حزب شيعي واحد، باسم الطائفة الشيعية ورغما عنها، وبالتخابر مع دولة أجنبية مجاورة. أما المشاركون (المصلحيون) القادمون من خارج العُصبة الحاكمة فلا يعدو كونهم نمنمات ترقيعية لا تغير شيئا من هيكلية النظام الراسخة. فمَن أكثرُ أهمية وأثقلُ وزنا وهيبة واقتدارا في الدولة، سعدون الدليمي وهو وزير وزارتين في الحكومة، أم أحمد الجلبي وهو خارج السلطة ويشتم المالكي ليل نهار؟ ألم يصف هادي العامري سيادة نائب رئيس الوزراء الدكتور صالح المطلق بأنه مطي؟

أما الثانية فهي فسادُه، من عمامته حتى أصابع قدميه. وهو ليس سبة. بل حلال وبلال. فالقادة يعتبرونه واحدة من أدوات الحكم الفاعلة لتبيت السلطة وإدامتها. فبالسرقة والاختلاس يمكن إبقاءُ الموالين من المحازبين المجاهدين يجرون لاهثين خلف القيادة جريَ الكلاب الجائعة. وبه أيضا يمكن إلهاء الانتهازيين من الخصوم وشراء نفاقهم، ولو إلى حين. أما الذين يصعب إذلالهم بالرشوة وباحتلال المباني العامة، والسطو على أموال الدولة والناس، وقبول الهدايا الدسمة من دول قريبة أو بعيدة، فيجري تسقيطهم بالأمن والمخابرات، أو بحشد الجيوش حول قصورهم، أو قتل المتظاهرين من أتباعهم، أو بالقضاء الذي لا يوجد أسرع منه في إصدار أحكام الإعدام، ولا أسرع منه في إلغائها.

بعبارة أخرى. إن كلَّ ما فهموه عن السياسة أنها فن الغش والغدر والخداع. والشاطر فيها من يتقن القتل على الهوية ولا يترك وراءه أثرا يدل عليه، حتى لم يسلم من أذى مقالبهم إخوتهُم المجاهدون في الائتلاف. أما تقلبات كبيرهم نوري المالكي مع شركائه من خارج الائتلاف فهي أبرز مواهبه التي لا يملك غيرها.

أغبياءُ وقصارُ نظر. أضاعوا المشيتين. خسروا الناس، وخسروا الدين. فلا أرضوا شعبَهم، ولا حتى طائفتهم ذاتها، ولا فازوا برضا الله ورسوله والمؤمنين.

كذابون معروفون من أيام الهرب الأعظم من أمن النظام ومخابراته. فقد كانوا طيلة سنوات المنافي يبكون العدلَ الضائع في عراق صدام حسين، ويشكون من طائفيته وفساد ولديه وإخوته وأبناء عشيرته، ويُقسمون على أنهم، إنْ هم ورثوه، سيحكمون بالعدل والنزاهة، ويساوون بين الناس، ويحترمون كرامة المواطن وحريته، ويحافظون على وحدة الوطن، ويدافعون عن سيادته واستقلاله حتى النفس الأخير.

لكنهم فور أن هبطوا من طائرات الأمريكان أو من دبابات جارتنا العزيزة إيران تراكضوا خفافا وثقالا لاحتلال البنايات والقصور والمزارع والحقول، وتدافعوا كالذئاب الجائعة ليملأوا جيوبهم وكروشهم بالمال الحرام، وكأنهم موقنون بأن أيامهم في السلطة محدودة، وساعة الحظ لا تأتي إلا مرة واحدة.

ولكي يأمنوا غدر الزمان وشرور المؤامرات والانقلابات عمدوا إلى امتلاك الدولة واحتكارها، بقضائها وأمنها واقتصادها وجيوشها وفضائياتها، وباشروا، من أول أيامهم في السلطة، باجتثاث خصومهم بشتى أنواع التهم والقصص الملفقة التي غالبا ما كانت تنتهي بالقتل العمد، أو بالاغتيال، أو التسقيط، وكانت فزاعة البعث والقاعدة والإرهاب سيوفَهم اللامعة التي لا تخيب.

وانظروا ماذا حل بالعراق في عهدهم غير السعيد، وماذا جرَّت عليه ديمقراطية الحكام الذين يضعون عمائمهم على رؤوسهم أو الذين يضعونها على أبصارهم وقلوبهم.

بالمناسبة، نوري المالكي يرتدي بدلة أوربية آخر موديل مع ربطة عنق إيطالية أنيقة، رغم أنه أكثر المعممين تطرفا وتزمتا وتشددا وضراوة.

لقد كان عليهم أن يختاروا واحدا من اثنين، إما أن ينزعوا عمائمهم ويدخلوا عالمَ السياسة في القرن الحادي والعشرين، وينصاعوا، دون مواربة، لمفاهيم العصر الحديث وثقافاته وقوانينه، ويعملوا على تثبيت سلطانهم بكسب رضا الناخبين بالعمل الصالح والنزاهة ونظافة القلب واليد واللسان، أو أن يغادروا شوارع السياسة وأزقتها وقبابها، ويعودوا إلى جوامعهم وحُسينياتهم، ويتفرغوا للصلاة والدعاء، ويتركوا السياسة لأهلها وفرسانها.

والآن تعالوا نتساءل. إذا كانت النيابة العامة المصرية فتحت تحقيقا جنائيا مع محمد مرسي وقادة الإخوان المسلمين الآخرين بتهم التخابر مع جهة أجنبية، والتحريض على قتل متظاهرين، وإحراز أسلحة ومتفجرات، والاعتداء على الثكنات العسكرية، والمساس بسلامة الدولة وأراضيها، وإلحاق الضرر باقتصادها، فماذا كانت (نيابتنا) الجنائية ستوجه لـنوري المالكي ورهطه، ولإبراهيم الجعفري وحبايبه، وعمار الحكيم ومريديه ومقلديه، ومقتدى الصدر وجيوشه، وهادي العامري ومليشيا بدر وعصائب الحق ومئات القادة المعممين الآخرين من (إخواننا المسلمين) العراقيين؟ علما بأن مصائب (إخوان) الكنانة لا تشكل أمام فضائح (إخوان) الرافدين سوى أذن جَمَل؟؟

من كل هذا نصل إلى الخلاصة وهي أن من المستحيل وجودَ عراقي واحد يحترم نفسه وأهله ووطنه يقبل بديمقراطية وديمقراطيين من هذا النوع.

وهنا يأتي دور السؤال الأسخن الذي يفرض نفسه بعد هذا الاكتشاف المرير. لماذا يسكت العراقيون كل هذا السكوت على الضيم والذل والهوان، وهم العارفون ببواطن الأمور؟ هل لقلة شهامة؟ أم لهوان كرامة؟ أم لجبن؟ ألله أعلم.

وقبل أن أختم هذا المقال دعوني أهنيء السيد نوري المالكي على نزاهته واحترامه للقضاء وحرصه على استقلاله وعدالته. فقد نما إلينا أن جميع الأحكام الصادرة بحق السيد رافع العيساوي سوف تلغى بوساطة أمريكية حازمة، وسوف يعود إلى عرينه في المنطقة الخضراء نائبا للسيد رئيس الوزراء، تماما كما حدث لمشعان الجبوري، وكما حدث أيضا لعشراتٍ غيرِهم من الوزراء والمدراء والسفراء الذين أدينوا بسرقة أو رشوة أو جرائم قتل أو اغتيال ثم تم تهريبهم إلى (ماما) إيران أو (ماما) أمريكا، وسلامٌ على القانون وعلى دولته المصون.

وأخيرا. إن السلطة لم تفسد هؤلاء المعممين، كما يظن البعض. فهُم قبلَها وبدونها فاسدون حتى النخاع، فهل تصدقون؟.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

811 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع