الأسلاميون وتجربة المشاركة الديمقراطية

                                   

                   د .محمد عياش الكبيسي
 
قد يختلف الناس في تصوراتهم وتعريفاتهم للديمقراطية، إلا أن سمات الديمقراطية الأساس قد لا تكون محل خلاف وهي:

أولا: أن الديمقراطية منتج بشري، توصلت إليه الخبرة البشرية بعد قرون من تجارب الحكم المختلفة.
ثانيا: اقتران الديمقراطية بالحرية وأنها نجحت بالفعل في حل كثير من المشاكل الناتجة عن الاستبداد والتسلط والإقصاء السياسي، بحيث لم يعد هناك مجال للمقارنة بينها وبين أنظمة الحكم الديكتاتورية التي عرفتها البشرية في تاريخها الطويل.
ثالثا: أنها ليست حكرا على ثقافة أو معتقد أو مجتمع معين، فهي لا تعدو كونها منظومة قيم سياسية وإدارية مرتبطة بمجموعة من الإجراءات والوسائل القابلة للتشكل بحسب ثقافة المجتمع وطبيعته وإمكاناته ومستواه التعليمي.
أما الإسلام فهو دين سماوي شامل، له منهاجه الخاص في عالمي الغيب والشهادة، وشريعته التي تنظم حياة الإنسان من قبل ولادته إلى ما بعد وفاته، والإسلاميون لا شك أنهم يستندون إلى هذا الإسلام، فهو عقيدتهم وهويتهم ومرجعيتهم الشاملة في كل شؤونهم السياسية وغير السياسية، لكنهم ميّزوا أنفسهم عن عامة الأمة بالعمل للإسلام والدعوة لتحكيم شريعته في المسلمين.
وفق هذه المقارنة الأولية بين (الإسلام) و (الديمقراطية) كان من الطبيعي والمنطقي أن يحصل قدر من التمايز بين دعاة الإسلام ودعاة الديمقراطية، وهذا ما حصل بالفعل مع بواكير الصحوة الإسلامية ورعيلها الأول، وقد كانت كتابات سيد قطب -رحمه الله- بمثابة التأصيل العميق لهذا التمايز، فكل نظام أو قانون أو سلوك لا يستند إلى حكم الله فهو جاهلية سواء كان مستبدا أو ديمقراطيا، وراثيا أو تداوليا {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.
إلا أن هذه القطيعة لم تدم طويلا، حيث تعرض الإسلاميون لحملات من التعذيب والتنكيل والملاحقة في ظل حكومات الحزب الحاكم والقائد الأوحد، فاضطر الكثير منهم للهجرة إلى بلاد أخرى كل ما فيها مختلف عن بلادهم، فالحاكم موظف بعقد معين وصلاحيات محدودة ولفترة محددة أيضا، ويخضع لرقابة صارمة رسميا وشعبيا، وهو قبل هذا وذاك ينفّذ ولا يشرع، أما السجون فهي للمجرمين وليست للمفكرين أو السياسيين، والمجرمون هؤلاء لا يتعرضون للضرب والإهانة، بل كرامتهم محفوظة وحقوقهم مصانة، السجون فيها مكتبات ودورات تربوية ووسائل ترفيه.. إلخ في الحياة العامة وجد الإسلاميون أنفسهم في بيئة تشجع التعددية الفكرية والسياسية، وأتيحت لهم هناك فرصة كبيرة للتعبير عن معتقداتهم وأفكارهم وللتعبير عن طموحهم أيضا بإنشاء المنظمات والمعاهد والمؤسسات بمختلف توجهاتها ومشاريعها.
بدأ بعض الإسلاميين يتمنى بصدق لو كان في بلادهم مثل هذا الذي رأوه في بلاد الغرب، إنها ليست مخادعة ولا دعاية سياسية كما يتوهم البعض، إنها قناعة تشكلت عبر مقارنة واقعية وموضوعية، نعم هناك فساد في الغرب، وهناك أفكار شاذة وسلوكيات منحرفة، لكن هذا كله لا يفرض على الناس بالقوة، بل هو إفراز طبيعي للمبالغة بالحرية الفردية والتي تعتبر القيمة المحورية العليا في الثقافة الغربية، وهذا يعني استعداد تلك المجتمعات للتغيير الذاتي بمجرد أن يقوم الدعاة والمصلحون بواجبهم، وقد لمس بعض الإسلاميين هذا بأيديهم بعد أن اعتنق الإسلام عدد ليس بالقليل من الناس في تلك البلاد، حتى توصّل الكثير من الدعاة إلى نتيجة أن الدعوة إلى الإسلام في الدول الغربية أسهل بكثير منها في البلاد العربية والإسلامية، حتى من حيث سرعة الاستجابة والاستعداد للتغيير.
بمرور الزمن تحولت هذه الأمنيات إلى مجادلات عريضة داخل الصف الإسلامي، والنقطة المحورية في هذه المجادلات هي كيف يجوز للإسلامي أن يدعو إلى نظام غير إسلامي؟ وكان الآخرون يرصدون هذا الحراك الفكري ويقيسون مستوى التغيّر في الفكر الإسلامي ودرجة القناعة الذاتية للالتزام بقواعد النظام الديمقراطي، حيث إن بعض هذه المجادلات قد أوصلت رسائل بالفعل أن المطالبة بتطبيق الديمقراطية لا يعدو كونه مرحلة مؤقتة تمليها ضرورة الواقع، وهو ما يفسّر بنوع من المخادعة أو التقية السياسية، وقد عملت الأنظمة الاستبدادية في الدول العربية والإسلامية على ترسيخ هذا الهاجس داخليا وخارجيا.

ما يجري في مصر اليوم من انقلاب على الشرعية والديمقراطية ليس كله بسبب المؤامرات الخارجية، أو المنافسات الحزبية والفئوية الضيقة، بل هناك مخاوف حقيقية لدى شريحة كبيرة في مجتمعاتنا من إمكانية انقلاب الإسلاميين على الديمقراطية ونشوء أنظمة الديكتاتوريات الدينية بمبادئ البيعة والسمع والطاعة لأمير المؤمنين وإمام المسلمين، وقد كان شعار (يسقط يسقط حكم المرشد) استثمارا ماكرا لهذه المخاوف من قبل التيارات المختلفة والتي يجمعها العداء المتأصّل للتوجه الإسلامي.
كما أن الماكينة الدعائية للأحزاب العلمانية والليبرالية قد استفادت كثيرا من بعض الخطابات الدينية التكفيرية والعدائية، كما استفادت من بعض الممارسات المقرفة لتيارات دينية تقوم بقطع الرؤوس والأيدي والأرجل في الكهوف والخرائب المظلمة بلا قضاء ولا دفاع، مع أن الإسلاميين هم ضحايا هذا الشذوذ الديني كما كانوا من قبل ضحايا الشذوذ القومي والعلماني، وهذه الحقيقة يجب أن يعلنها الإسلاميون بشكل قاطع، وأن هذا الموضوع لا يحتمل الضبابية والمواقف الرخوة، ولا شك أن تشويه الإسلام بهذه الدرجة من الشذوذ لهو أخطر على الإسلام ومستقبله على الأرض من كل المخططات والمؤامرات الخارجية.

لقد آن لنا قبل كل شيء أن نعلن بوضوح أن الذي يتبنى الديمقراطية كذبا وخداعا سواء كان إسلاميا أو علمانيا فهو مدان بكل المقاييس، وأن الإسلام لا يجيز لأتباعه أن يمارسوا هذا النوع من الخداع، ولو كان ذلك جائزا لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة بعد أن عرض عليه المشركون أن ينصبوه عليهم ملكا مقابل أن يتخلى عن دعوته، وقد كان بإمكانه أن يقبل ذلك ثم يبسط دعوته من خلال الملك الذي بيده، لكنه رفض وتحمل جراء هذا الرفض أصناف التعذيب الجسدي والمادي والمعنوي حتى اضطر للهجرة عن أحب بلاد الله إلى قلبه.
إن المطلوب من الإسلاميين اليوم وهم يخوضون تجربتهم الجديدة وبهذا الزخم الكبير والمتميز أن يجيبوا بوضوح عن كل الأسئلة المطروحة عليهم داخليا وخارجيا، وهذا هو الذي يمنحهم القوّة والمصداقية وأن لا يعتمدوا على العواطف الدينية لعامة الناس، فإن ثقة الناس بالإسلام شيء وثقتهم بالإسلاميين شيء آخر.
من التوفيق بين مبادئهم الإسلامية وثوابتهم الشرعية وبين مبادئ الديمقراطية الوافدة وثوابتها؟
هذا السؤال يتطلب تأصيلا شرعيا عميقا ومفصلا ومقنعا لقواعد الإسلاميين في الداخل قبل الخارج، وإن من الخطورة بمكان أن نتبنى في هذه المرحلة خطابا داخليا وآخر خارجيا، فهذا لا يحافظ على تماسك الصف الداخلي ولا يكسب التأييد الخارجي، بل من شأنه أن يحرج القيادات الإسلامية في كل مفصل من مفاصل العمل السياسي.
وأيا ما كان مستوى التأصيل أو الخطاب الإسلامي فإنه من السخف السياسي والأخلاقي أن يقوم دعاة الديمقراطية بهدم ديمقراطيتهم بأيديهم حتى لا يستفيد منها الإسلاميون

 

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

823 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع