حلب مدينة تحترق صمتاً

                                             

                          كاظم فنجان الحمامي
 
ليس للذين يحملون أسلحة الدمار الحق في التفاخر بانتصاراتهم المزعومة عندما تدوس أقدامهم على جثث أهلنا في حلب, وليس للذين يحملون معاول الشر أن يتباهوا بما حصدوه من أرواح بريئة زُهقت ظلماُ وعدواناً بخناجر الغدر بين حارات حلب وأسواقها ومساجدها.

ربما تنتمون أنتم إلى هذه الجبهة المسلحة أو تلك, وربما تتحيزون إلى هذه الراجمات وتفضلونها على تلك القاذفات, وربما تهللون وتكبرون على انطلاق أصوات القنابل, التي دكت الصروح الحضارية في حلب, أو تهللون وتكبرون على دوي الانفجارات, التي نسفت المدينة العتيقة وقلبت عاليها سافلها, فقد صارت أصوات التكبير. للأسف الشديد, هي الماركة المسجلة لكل جرائم القتل والتشريد والدمار, ولا فرق في المحصلة النهائية بين ما يقوم به هذا الفريق من مجازر أو ما يقوم به ذاك الفريق من مهالك, فالخاسر الوحيد في كل الأحوال وفي كل الغارات هم سكان حلب الشهباء وأهلها النبلاء. .
http://www.youtube.com/watch?v=4y3R7naFTpY
حلب أقدم مدن الشرق والغرب, كانت على مر الزمان ترنيمة صوفية تصدح بها حناجر المنشدين في حلقات الذكر, وقدوداً داعبتها الأوتار في موشحات الطرب, وسِفراً عظيماً رسمت فيه الحضارات أروع صورها, وعقبة كأداء مستعصية على الغزاة والطغاة والبغاة والحشرات, وحباً عذرياً خفقت به قلوب العشاق, وقصيدة عصماء طرزت دواوين الشعر العربي. .
يشتاق أبناؤها إليها شوقاً شديداً إذا ما ابتعدوا عنها, فغنوها بأشعارهم الرقيقة ووصفوها بعواطفهم الصادقة, قال فيها بن سعدان:
يا حبذا التلعاتُ الخضرُ من حلبٍ
وحبذا طللٌ بالسفحِ من طللِ
يا ساكني البلد الأقصى عسى نفسٌ
طال المقام فوا شوقاً إلى وطنٍ
بين الأحصِ وبين الصحصحِ الرملِ
وقال فيها الناصر يوسف:
أيا راكباً يطوي الفلاة بشملهِ
عُذافرةٍ وجناءَ من نسل شَدقم
إذا حلباً وافيتها حيِّ أهلها
وقل لهم مشتاقكم لم يُهوَّم
صارت حلب اليوم ساحة مفتوحة للقتال والاقتتال, يحاصرها الموت منذ أكثر من عام, حتى أتى على  البشر والحجر, مواقع أثرية نادرة تلتهمها النيران, تحترق بصمت ثم تتلاشى, لم نعد نسمع صوت المدينة, ولا حفيف أشجارها, ملاعب غاب عنها الأطفال, وتبعثرت في أرجائها الشظايا, كل ما فيها أصم, حتى الفجر توارى هناك خلف أكوام الحجر, مسامير تطرز النعوش لتجمع الأشلاء المبعثرة, حدائق تحولت إلى مقابر, مشردون يفترشون الأرصفة, عزرائيل يرفع مجرفته فوق الخرائب, صرخات حائرة تتعالى نحو السماء, ثم تستيقظ المدينة المذعورة على أصوات المعارك الضارية, فتتمزق واجهات بيوتها القديمة بين مروحيات النظام وهاونات أعداء النظام. .
http://www.youtube.com/watch?v=Ua7vVISyyDI
اختفت الآن ملامحها الحضارية التي كانت تشهد بأصالتها وعراقتها, حتى قبور الأنبياء والأولياء والصالحين تعرضت للنبش والتخريب المنظم بمعاول البرابرة, ولم يسلم منها حتى سيدنا زكريا عليه السلام الذي أعلن من جديد صيامه عن الكلام, فنذر للرحمن أن لا يكلم اليوم إنسيا حتى تتحرر حلب وتنعم بالأمن والأمان. .
الحلبيون يموتون بصمت ألماً وحزناً وحسرة على مدينتهم التي تقطعت أوصالها, فوقفوا يذودون وحدهم في مواجهة عجلات التخريب والتدمير, المنكوبون يدفنون موتاهم في الحدائق, والأحياء يلفظون أنفاسهم الأخير, ويعيشون على فتات ما تبقى لديهم من غذاء. بطون خاوية, وأجساد ذاوية, ووجوه شاحبة, لا دواء ولا ماء ولا كهرباء ولا مواصلات ولا اتصالات, ولا أمن ولا أمان. .
http://www.youtube.com/watch?v=d08JEki-2W4
توقفت الحياة تماماً, في مدينة لا تسمع فيها سوى أصوات مكبرات المآذن في المساجد والجوامع إلا وهي تردد صيحات ونداءات وشتائم القوات المسلحة, والميليشيات المسلحة, والعناصر المسلحة, والجيوش المسلحة, والفلول المسلحة, والعصابات المسلحة, والكتائب المسلحة, والأحزاب المسلحة, كلهم تسلحوا بأدوات التخريب والتدمير الشامل لينسفوا سجلات المدينة العريقة, ويقتلوا أهلها شر قتلة, بينما تحترق أسواقها ومتاحفها ومدارسها ومرابعها وروابيها بصمت في حرب ضروس ليس فيها رابح وسط ذهول العالم كله. .
والله يستر من الجايات..

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

939 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع