حقيقة مصدر القرار الالماني

                                              

                             بسام شكري

حقيقة مصدر القرار الالماني

كثرت في الفترة الأخيرة تداول معلومات في مواقع التواصل الاجتماعي العربية عن المستشارة الألمانية انجيلا ميركل تظهر السيدة ميركل وكأنها المرأة الحديدية والعادلة والمحبة للبشرية من جانب والمرأة صاحبة القرارات الصائبة من جانب اخر، وأثارت تلك المعلومات التي كانت شبيهة بالدعاية المجانية ومحاولة ادانة أنظمة الحكم العربي اهتمامي لكتابة هذا المقال حتى يعرف القارئ العربي حقيقة الأمور وأسلوب إدارة الدولة الألمانية ومصادر القرار فيها وحقائق غائبة عن القارئ العربي .
انجيلا ميركل تحمل شهادة الكيمياء الفيزيائية مواليد 1954 من أصول المانية بولندية ابوها قس لوثري الماني وامها مدرسة بولندية وجدها لأبوها بولندي أيضا متزوج من المانية , كانت انجيلا ميركل خلال الحقبة الشيوعية تعيش في المانيا الديمقراطية ولها دور كبير في منظمة الطلبة الماركسيين , انتمت للحزب الديمقراطي المسيحي سنة 1991 بعد توحيد المانيا وتدرجت في الحزب لتصبح رئيسة الحزب سنة 1998 بعد الإطاحة برئيس الحزب السابق نتيجة فضيحة التبرعات و أصبحت ميركل مستشارة بعد فوز حزبها الجزئي وتحالفه في انتخابات 2005 من خلال التحالف الكبير الذي جمع حزبها الاتحاد المسيحي وشقيقه البافاري والحزب الديمقراطي الاجتماعي علما بان الحزب الديمقراطي الاجتماعي قد تفوق على حزبها لكن الضغوطات الهائلة التي مورست عليه تنحى رئيسه والمستشار السابق جيرهارد شنودر عن المستشارية لصالحها.
لقد تم ترتيب نظام الحكم في المانيا بعد ولادة اول دولة في المانيا بعد الحرب العالمية الثانية وقد استفاد الشعب الألماني من تجربة نظام هتلر في خلق نظام ديمقراطي متماسك يفرض رقابة صارمة على كل أجهزة الدولة والسياسيين من جانب ويعطي مساحة واسعة للشعب لممارسة الديمقراطية من جانب اخر والنظام السياسي هو نظام برلماني حيث هناك ستة عشر حكومة محلية في المانيا للولايات الستة عشر ولكل ولاية برلمان ينتخبه سكان تلك الولاية واسمه البوندسرات ويتم انتخاب حكومة الولاية من برلمان تلك الولاية وينتخب من كل برلمان أيضا ممثلين للولاية في البرلمان الألماني في برلين ومن ذلك البرلمان المسمى البوندستاغ يتم تشكيل الحكومة المركزية في برلين واختيار المستشار من الحزب الفائز في الانتخابات.
منذ تأسيس المانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية سنة 1949 التي اتخذت مدينة بون عاصة لها فقد كان مركز الحكم فيها وبون قرية صغيرة على نهر الراين تم اختيارها من قبل اول مستشار لألمانيا الغربية بعد الحرب الثانية وكان يشغل قبل ذلك منصب عمدة مدينة كولونيا وهو من مدينة بون طبعا وهو السياسي كونراد ادناور أبو المعجزة الاقتصادية الألمانية وكان يشغل منصب رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي , والقصر الذي سكن فيه والواقع في مدينة بون هو عبارة عن غرفتين وصالة وقاعة اجتماعات لعشرين شخصا ومطبخ صغير ومرافق صحية وكان مبني من مادة الزنك والالمنيوم والخشب المضغوط وهي نفس المادة التي تبنى منها حظائر الحيوانات في ذلك الوقت ( البنكلة ) وقد تم تغليف جزء من ذلك البيت بالطا بوق الأصفر المشوي بعد سنوات عديدة , وبقي كل مستشار جديد يسكن في ذلك البيت لغاية توحيد المانيا سنة 1991 وانتقال العاصمة الى برلين حيث اصبح هناك مقر للحكومة وسكن منفصل للمستشار وكان ذلك البيت البسيط يمثل سكن للمستشار ومقر عمله واجتماعاته وفي احدى السنوات عندما كان هيلموت كول مستشارا ويسكن في ذلك البيت احتاج ان يعمل مطبخ صغير لأنه كان معتاد ان يجلس في الليل يعمل ويحتاج ان يشرب القهوة ويدخن وهو لا يريد ان يستعمل المطبخ الرئيسي حتى لا يزعج زوجته التي تنام في الغرفة المجاورة للمطبخ وقد قام بتقديم طلب للبرلمان في برلين وعبر عن رغبته في عمل مطبخ صغير من ضمن البيت وقريب من غرفة الاستقبال لكي يعمل قهوة فتمت الموافقة بعد التأكد من حاجته الفعلية من قبل لجنة برلمانية قامت بزيارة البيت وكان حجم ذلك المطبخ متر طول ومتر عرض ويحتوي على طاولة عليها طباخ صغير فوقه رف عليه القهوة واكواب القهوة وبعض الصحون الصغيرة وذلك البيت البسيط والمكتوب على واجهته المستشارية مازال في مدينة بون يفتح للجمهور مرة واحدة سنويا بمناسبة عيد الاستقلال ويمكن لاي سائح يدفع تذكرة بمبلغ 6 يورو لزيارة البيت , ان تاريخ البيت وحكاية مطبخ هيلموت كول واي تعديلات جرت عليه مكتوبة في مدخل البيت وعند باب كل غرفة في البيت.
ان صلاحيات المستشار الألماني محدودة وكل القرارات الجديدة يتم اتخاذها تتم في البرلمان الرئيسي البودستاغ والمكون كما اسلفت من ممثلي برلمانات الولايات الستة عشر وبذلك فان ممثلي الشعب هم من يوجه السياسة وليس المستشار واما رئيس الدولة حسب الدستور الألماني فهو بدون أي صلاحيات وواجباته هي تمثيل الدولة الألمانية في العالم وحضور المناسبات الرسمية الداخلية والخارجية ويتم انتخابه أيضا من الحزب الذي يقود السلطة او من حلفاء ذلك الحزب ويسكن في قصر متوسط الحجم يستقبل فيه الضيوف وله مكتب اخر في مقر الحكومة.
ان كل من يشغل منصب في حزب سياسي او حكومي وكل أعضاء برلمانات وحكومات الولايات والحكومة المركزية والبرلمان الرئيسي البوندستاغ عندما يستلمون مناصبهم يقدمون كشف بممتلكاتهم في ذلك الوقت ويتم مراقبة حساباتهم البنكية طول فترة شغلهم للمنصب ومن جانب اخر فان كل مواطن الماني يقوم بإيداع مبلغ يزيد على عشرة الاف يورو في المرة الواحدة وخلال الشهر الواحد يجب ان يقدم للبنك وثيقة تثبت مصدر ذلك المال والمواطن الألماني الذي يزيد دخله السنوي على عشرة الاف يورو يدفع ضرائب للدولة تتراوح تلك الضرائب بين 15% الى 37% من الدخل ومن ما تقدم نلاحظ مدى الرقابة على الجميع.
بعد هذه المقدمة يتمكن القارئ العربي من فهم طبيعة النظام السياسي الألماني، لكن هل فعليا ان الشعب الألماني هو صاحب القرار؟ وهل ان هناك دولة عميقة تمثل مصدر القرار؟
من المعروف ان المانيا هي اكبر دولة صناعية في العالم واقتصادها يعتمد على شركات كبري لها تاريخ عريق وتجارب متراكمة ولها أنظمة صارمة تم تطويرها على مدى السنوات وتلك الشركات تراعي مصالحها بالدرجة الأولى وباعتبارها تمثل الثقل الأكبر في المجتمع الألماني فإنها قامت بتعيين الكثير من السياسيين الحاليين في الماضي بوظائف مرموقة في مجالس ادارتها وخصوصا من أعضاء الحزب الديمقراطي المسيحي حزب المستشارة ميركل ومن خلال تلك العلاقة نشأ نوع من الولاء في البداية تحول فيما بعد الى أدوات فاعلة لتلك الشركات في البرلمان الألماني لنقل رغبات تلك الشركات تحت الطاولة باعتبارها طلبات الشعب ومن هنا مثلا جاء قرار المستشارة ميركل بقبول ملايين اللاجئين لحاجة الاقتصاد الألماني للأيدي العاملة بضغط من الشركات الكبرى في اصدار القرارات للحصول على ايدي عاملة جديدة , حيث يقول خبراء الاقتصاد ان السنوات العشرين القادمة يحتاج الاقتصاد الألماني الى 15 مليون عامل جديد لكي يستمر بنفس الوتيرة وهذا يفسر قبول لاجئين من دول ليس فيها حروب مثل الهند وبنغلاديش والباكستان ودول شمال افريقيا والكثير من الدول الافريقية خلافا لقانون اللجوء الألماني الذي ينص على منح الحماية لكل من تتعرض حياته للخطر من جراء الحروب في بلده ويلجأ الى المانيا وخلال فترة حكم ميركل صدرت الكثير من القرارات الألمانية ليست في مصلحة الشعب الألماني بل بناء على رغبة الشركات الكبرى التي يمكن ان نسميها الدولة العميقة في المانيا .
رب سائل يسال أي الأحزاب الألمانية تقع تحت سيطرة الشركات الكبرى؟ ان معظم الأحزاب الالمانية الحالية بعيدة عن تأثير الشركات الكبرى ماعدا حزبين الأول هو الحزب الديمقراطي المسيحي حزب المستشارة ميركل وهو حزب يمين الوسط والحزب الاخر هو حزب البديل من اجل المانيا وهو حزب يميني نازي متطرف تأسس في نهاية 2013 , وكوادر الحزبين المذكورين لهم وظائف كبرى سابقة في الشركات الصناعية فمثلا وزير الخارجية السابق الذي كان من حزب ميركل والذي استقال على فضيحة التوسط في الازمة الخليجية كان عضو مجلس إدارة تحالف كبرى شركات للسيارات فترة عشر سنوات قبل تقلده منصب وزير الخارجية , اما الحزب الثاني في التسلسل فعد حزب ميركل فهو الديمقراطي الاجتماعي وهذا الحزب يتمتع باستقلالية عن الشركات الكبرى وليس عليه تأثير ملحوظ حاليا ويمثل يسار الوسط واخر مستشار له كان جيرهارد شنودر لغاية 2005 الذي رفض غزو العراق ووقف بوجه أمريكا ورفض دفع مبالغ لإسرائيل وقوله المشهور : انا لن ادفع أموال لإسرائيل لكي تقتل الفلسطينيين وتغزو الدول المجاورة لها وبالمناسبة حزب جيرهارد شنودر فاز في اخر انتخابات بنسبة اعلى قليلا من حزب ميركل لكن الضغوطات الهائلة التي مورست عليه جعلته يعطي منصب المستشارية لحزب ميركل , والحزب الذي يأتي بالمرتبة الثالثة هو حزب الخضر وهو حزب بيئة ويرفض معظم قرارات الشركات الكبرى والحزب الرابع في الترتيب هو حزب اليسار الذي يمثل تحالف ثلاثة أحزاب يسارية وحزب اليسار هذا يرفض كليا ما تطرحه الشركات الكبرى. ويأتي حزب البديل من اجل المانيا الحزب الشعبوي اليميني المتطرف في اخر القائمة. ان الشركات الكبرى تتعامل مع من يمثل مصالحها في البرلمان الألماني لكن هناك فضائح في مستويات دنيا تخرج للعلن بين الفينة والأخرى مثل فضيحة شرطة برلين وتعاملها مع قضية تاجر المخدرات التونسي الذي قام بعملية قتل جماعية بواسطة شاحنة في سوق عيد الميلاد في برلين وادعاء الشرطة انه عمل إرهابي في الوقت الذي تبين فيما بعد انه صراع بين مافيات المخدات التي تسيطر على بعض مفاصل شرطة برلين والفضيحة الثانية هي فضيحة مكتب الهجرة في مدينة بريمن والرشاوى التي كان يتقاضاها خمسة من موظفي الهجرة مقابل منح اللجوء لأشخاص لا يستحقون اللجوء وخلافا للقانون.
ان الشركات الكبرى في الغالب كانت طول فترة حكم المستشارة انجيلا ميركل توجه سياسة الحكومة وتؤثر عليها خلال السنوات الماضية لكن لو فاز الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني في الانتخابات القادمة فان تلك الشركات ستجد صعوبة كبيرة خصوصا بعد التفاهمات الأخيرة بينه وبين حزب الخضر.
بقي ان نعرف ان السيدة ميركل معروفة على مستوى الشارع الألماني انها تختار نساء فقط في المناصب المهمة لسهولة السيطرة عليهم فقد اختارت وزيرة الدفاع الألماني والتي هي من حزبها رئيسة الاتحاد الأوروبي على الرغم من قلة خبرتها واخفاقات عديدة صاحبت مسيرتها المهنية وكذلك قد اختارت خليفة لها في رئاسة الحزب قبل ثلاثة اشهر امرأة أخرى وبعد فترة استقالت تلك السيدة من منصبها بسبب فضيحة مالية ومرشحها التالي لرئاسة الحزب كان ارمين لاشيت والذي فاز برئاسة الحزب في الأسبوع الماضي وهو تابع مخلص لها يشغل حاليا منصب رئيس حكومة ولاية شمال الراين وهو سياسي متقلب عندما فاز في منصب رئيس حكومة الولاية قام بعد أسبوع من فوزه بزيارة لإسرائيل قدم فيها وعودا اعتبرها الإعلام الألماني وعودا مبالغ فيها وخارج صلاحياته.
ليس هناك نظام ديمقراطي نموذجي في العالم يستمر بنفس المستوى بل هناك أنظمة تتمتع بنسبة من الديمقراطية ويتغير مستوى الديمقراطية بحسب القوى الحاكمة فعلى الرغم من القوانين الصارمة والشديدة في تنظيم إدارة الدول الألمانية والتي ذكرتها في بداية المقال الا ان ثغرة واحدة قد تخرج النظام من حالة الديمقراطية وتجعله تحت سيطرة قوى خارجية مثل تأثيرات الشركات الكبرى على الحزب الديمقراطي المسيحي حزب السيدة ميركل، أتمنى قد وفقت في إعطاء صورة واضحة وتفصيلية عن الوضع السياسي الألماني وأقول للقارئ العربي ان أنظمة الحكم العربي ليست بالسوء الذي يصوره البعص لان لكل دولة تسلسل منطقي في التطور وظروف محلية ترسم شكل نظام الحكم .
الباحث
بسام شكري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1536 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع