مسبار الأمل

                                                  

                              مينا العريبي

مسبار الأمل

الواقع العربي مليء بأحداث تجسد الإخفاقات والفرص الضائعة والحسرات في القلب على مر العقود الماضية؛ من فلسطين ونكبتها إلى العراق وحروبه، إلى سوريا وجراحها الداخلية، إلى اليمن وكارثته الإنسانية، إلى التدخلات الخارجية التي تضعف دولة تلو الأخرى.

ولكنْ هناك أيضاً واقع عربي مليء بالطموح والبحث عن فرصة للإنجاز والفرح والفخر، خصوصاً بين الشباب، من الشعوب والدول. وقد لا نرى مثل هذه اللحظات كثيراً، ولكننا بحاجة ماسة لها. وها هي دولة الإمارات العربية قد أعطتنا هذه اللحظة في الساعات الأولى من صباح 20 يوليو (تموز) 2020. فقد انطلق في الساعة الواحدة و58 دقيقة بعد منتصف الليل من صباح الاثنين مسبار «الأمل» الإماراتي إلى المريخ، حاملاً معه أحلام الآلاف من المهندسين والعلماء الذين عملوا على مدار ست سنوات لتحقيق هذا المشروع. وحمل معه أيضاً آمال كل من يتطلع إلى عالم عربي يعجب به العالم، خصوصاً بعقوله وقدراته، بدلاً من أزماته ومآسيه. وتصدر العالم العربي الصحف العالمية هذا الأسبوع بسبب تطور علمي، تم في موعده وضمن الميزانية المخصصة له.
اهتمام الإمارات بالفضاء ليس جديداً، فقد كان مؤسس الدولة الشيخ زايد بن سلطان، رحمه الله، قد تحدث عن الفضاء والتقى بعلماء الفضاء منذ عقود. وقال يوم الاثنين العالم المصري الشهير فاروق الباز: «لم أسعد منذ فترة طويلة كما أسعدني إطلاق مسبار الأمل في موعده، وكما خطط له. ذكرني هذا الحدث المتميز بلقاءاتي مع الشيخ زايد في أوائل سبعينات القرن الماضي، وكيف كان يأمل أن يكون لأبناء وبنات الإمارات فرصة التميز العلمي». وهذا ما تحقق فعلاً من إنجاز، حيث أسهم 3 آلاف شاب وشابة إماراتيين، من بينهم وزيرة الدولة المتميزة سارة الأميري والمهندس عمران شرف، مدير مشروع الإمارات لاستكشاف المريخ. ومن المثير أن نسبة مشاركة النساء في هذا المشروع 36 في المائة، وهي من أعلى النسب النسائية مساهمة في أي مشروع فضاء في العالم. الهدف الرئيسي من المشروع هو بناء الإنسان العربي وبناء القدرات على المدى البعيد. وقد تم ذلك بالفعل بإدخال تخصصات جديدة كلياً في الجامعات الإماراتية، وتخصيص أموال للبحوث تشجع العلوم المتقدمة والتطبيقية للمرة الأولى خلال السنوات الماضية.
تطوير برنامج الفضاء يدعو الإنسان العربي للنظر إلى المستقبل، بدلاً من الوقوف والبكاء على الأطلال. تطوير برنامج الفضاء يشير إلى أن الثروة العربية يمكن أن تكرس للعلم والتقدم. تطوير برنامج الفضاء يمثل الأمل، ولهذا كانت تسمية المسبار باسم «الأمل» لها دلالة فارقة. كما شهد إطلاق مسبار الأمل العد التنازلي باللغة العربية للمرة الأولى لأي مشروع فضائي، لتعزيز أهمية الشق العربي في هذا المشروع وسعياً لإشعال شرارة الطموح لدى أي طفل أو طفلة يرون الصاروخ وهو ينطلق إلى السماء بعد عد تنازلي بلغتهم الأم، وعبر شاشات التلفاز حول العالم.

وبسبب الانشغال بتطورات وباء «كوفيد – 19» الذي أثر على جميع نواحي الحياة، قد يغفل البعض عن أهمية هذا الحدث. بل البعض اعتقد أنه من المستحيل أن تتم عملية إطلاق المسبار وسط وباء عطل أعمال العالم بأجمعه، متوقعين تأجيل الإطلاق. وهذا ما قامت به دول عدة أخرى فيما يخص مشاريع فضاء أخرى. ولكن كان الفريق المشرف على البرنامج مصراً على الاستمرار وإطلاق المسبار في موعده. الأنواء الجوية في اليابان، حيث انطلق المسبار كانت مضطربة الأسبوع الماضي، ما أدى إلى تأجيل الإطلاق من يوم 15 يوليو (تموز) إلى 20 يوليو، وهو أمر طبيعي فيما يخص مشاريع الفضاء.
سيحلق مسبار الأمل على مدار 493 مليون كيلومتر نحو المريخ، في رحلة تستغرق 200 يوم ممكن أن يحدث خلالها كثير من التقلبات والتطورات. ومن دون شك، المعلومات التي سيجمعها المسبار في غاية الأهمية. وبينما يتمنى العرب كل نجاح للمسبار وقد أثبت جودته العالية في الساعات الأولى من الإقلاع، يجب الإدراك أن المشاريع الخاصة بالفضاء تواجه نسبة نجاح منخفضة لا تتعدى 50 في المائة. ولكن في نهاية المطاف، تم تطوير المسبار وأثبت برنامج الفضاء الإماراتي قدرته على هذا الإنجاز. وقد تم العمل على أن تنتهي مهمة المسبار العام المقبل، لتتزامن مع الذكرى الخمسين لتأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة.
برنامج الفضاء الإماراتي يطمح لأن يكون المحرك الأساسي للتقدم العلمي في العالم العربي، وأن يجد طلاب العلوم المتقدمة في دولة الإمارات بل في العالم العربي، البرامج المجدية والتقدم العلمي للبقاء في العالم العربي، بدلاً من استمرار هجرة العقول التي تبحث عن فرص علمية ريادية.
هذا العام، تقوم كل من الولايات المتحدة والصين والإمارات بإطلاق مشاريع تتعلق بالمريخ. أن تلعب الإمارات دوراً في هذا المجال أمر مثير للإعجاب ودليل على الحرص على أن تكون الإمارات في مقدمة الدول من حيث الابتكار. وبينما تم إطلاق الصاروخ من اليابان، كان فريق التحكم في مركز محمد بن راشد للفضاء في الخوانيج، وقد أسهم علماء من دول عدة في هذا المشروع، في دليل آخر على أن الإمارات إحدى الدول التي تمثل أفضل ما يمكن أن تجلبه العولمة والتعاون الدولي. وقد حرص قادة الإمارات على الإشارة إلى هذا المشروع على أنه عربي، بدلاً من التركيز فقط على أنه إنجاز إماراتي.
لا شك أن هناك أزمات ومشاكل تواجه العالم العربي، على رأسها البطالة بين أغلبية الشباب العربي وهي أعلى نسبة بين شباب العالم. ولكن في الوقت نفسه، يجب التفاؤل عند رؤية مثل هذه الإنجازات، والإيمان بأن مع الرؤية الطموحة والنظر إلى المستقبل، لا يوجد مستحيل. ولنفرح بالأخبار السارة الصادرة من العالم العربي، على الرغم من ندرتها.
ومسبار الأمل ضمن سلسلة من المشاريع المتعلقة بالفضاء تقودها الإمارات، بما في ذلك إرسال رواد إلى الفضاء، مثلما حدث مع الإماراتي هزاع المنصوري. وفي مارس (آذار) الماضي، تم التوقيع في أبوظبي على ميثاق تأسيس المجموعة العربية للتعاون الفضائي، ليكون أول مشروع للمجموعة إطلاق قمر صناعي جديد. وتم الاتفاق على تسمية هذا القمر الصناعي بـ813، إشارة إلى التاريخ الذي شهد بداية الازدهار لبيت الحكمة في بغداد في عهد المأمون، ولما شهد ذلك العصر من تنوير واحتضان للعلم والعلماء. فربما ماضي العرب يلهم الشاب العربي للنظر إلى المستقبل وإعادة أمجاد الماضي البعيد، رغم صعوبات الماضي القريب.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

779 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع