"أم هارون" والجهل العربي لليهود

                                                

                        بقلم: تسيونيت فتال*

"أم هارون" والجهل العربي لليهود

دعاني قبل عامين صحفي من إحدى دول الخليج للانضمام إلى مجموعة بالتواصل الاجتماعي، الواتس أب، تضم كتابا وصحفيين من العالم العربي. سألته: "هل المجموعة على استعداد للتحدث مع امرأة يهودية من إسرائيل؟" فأجابني: "كلهم متعلّمون ومتنوّرون، وبقصد مناقشة الكتب التي وضعتموها".

انضممت إلى المجموعة في الساعة الواحدة ظهرا. وفي الساعة الواحدة والربع اتصل بي رئيس المجموعة واعتذر لي لأنه اضطر لإخراجي من المجموعة. قلت وقد شعرت بخيبة أمل، وقد غرس بي الآمال عبثا: "حيث يسود الجهل لن نجد أشخاصا متنوّرين".
لقد تذكرت هذا الحدث عندما اخترت هذا العام مشاهدة المسلسل "أم هارون، من بين عشرات المسلسلات التلفزيونية التي يتم إنتاجها في رمضان. يوجه الإعلام بكثافة لمشاهدة هذه المسلسلات، وتحظى بمشاهدة عشرات الملايين من الناطقين بالعربية في كل الشرق الأوسط.
يعالج مسلسل "أم هارون" العلاقات بين السكان المسلمين والمسيحيين واليهود في بلدة خليجية في فترة قيام دولة إسرائيل. وتبثها القناة الفضائية السعودية أم بي سي، ونشأت حولها مناقشات ساخنة وصاخبة بين الفلسطينيين، الذين يعارضون التطبيع مع إسرائيل، وبين الذين، وفي مقدمتهم سكان في دول الخليج، الذين يريدون الانفتاح على الغرب والتقرب من إسرائيل، ويطبّقون الإصلاحات في بلدانهم، على خلفية الأزمات الاقتصادية والتهديدات لأمنهم من إيران والإخوان المسلمين، وتبيّن أن هذا التيار مستعد لأن يزيل من الأجندة العربية الانشغال بالقضية الفلسطينية، (تحت الإشارة "فلسطين ليست مشكلتي").
الكوميديا السعودية "مخرج 7" (التي تعالج القضايا المدرجة على الأجندة السعودية)، والتي سخرت الحلقة الثالثة فيه من محاولة منع التطبيع مع إسرائيل، مما زاد من حدّة الجدل. في هذا المسلسل، يكتشف والد الأسرة أن ابنه زياد يلعب بالإنترنت مع صديق من إسرائيل، ويستشير عائلته في كيفية التصرف.
أذهله رد فعل والد زوجته: "إسرائيل موجودة، سواء كنت تريد أم لا.. ما جعل العرب عالقين طوال هذه السنوات في القضية الفلسطينية، وإذا كنتم تظنون أنكم إذا منعتم زياد من اللعب مع صديقه الإسرائيلي، فإن إسرائيل ستزول من الوجود - إذن أنتم على خطأ... العدو (الفلسطيني) هو الذي لا يقدّر وقوفك إلى جانبه ويلعنك ليلاً ونهاراً أكثر من الإسرائيليين.. شاركنا في الحروب لأجل فلسطين، أوقفنا النفط لأجل فلسطين، نحن ندفع النفقات والرواتب للسلطة الفلسطينية، بينما نحن بحاجة إلى هذا المال. وفي النهاية، إنهم يبحثون عن كل فرصة لمهاجمة السعودية".
أثارت هذه النصوص ردود فعل عديدة، لدرجة أن إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، أعلن أن "التطبيع مع العدو الصهيوني جريمة كبرى وخطيئة لا تغتفر وطعنة خيانة في صدر شعبنا وأمتنا". ونشرت الصحافة الفلسطينية صورا كاريكاتيرية شجبًا للسعودية، مما حدا برئيس الحكومة الفلسطينية، محمد شتية، للاعتذار للسعوديين.
في الوقت الراهن، لا يشير الانفتاح الذي تتميز به عادة الشبكات الاجتماعية إلى تغيير كبير في العالم العربي والإسلامي حيال إسرائيل واليهود. ولا تزال كلمة "يهودي" تعتبر كلمة نابية في الدول العربية، على الرغم من وجود بضعة آلاف فقط من ضمن مئات آلاف اليهود الذين عاشوا هناك في الأربعينيات، يتم تصوير إسرائيل والصهاينة بأنهم يريدون السيطرة على العالم. حتى أن الشبكات الاجتماعية العربية تهاجم هذا الادعاء، عن طريق نشر إضافات عربية مزيفة على النشيد الوطني الإسرائيلي، والتي تصف كيف يغرز اليهود حرابهم في صدور الشعوب الكنعانية، والمصرية والبابلية ويجزّون رؤوسهم.
ومع ذلك، فإن الخطاب الإيجابي بشأن اليهود وإسرائيل أصبح أكثر انتشارًا وجرأة. يطالب المثقفون العرب - الذين ينتقدون سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين - بإلغاء المقاطعة الثقافية لها، على الرغم من أن هذه التصريحات تثير انتقادات شديدة لهم ولأعمالهم. هذا ما جرى للكاتب الجزائري د. أمين الزاوي، الذي نشر (في يونيو 2019، في الإنديبندنت باللغة العربية) مقالا بعنوان "لماذا يخشى العرب ترجمة الأدب الإسرائيلي إلى لغتهم" وللمترجم عمار زكريا من مصر، الذي ترجم العديد من الكتب من العبرية إلى العربية، بما في ذلك كتابي "الصور على الحائط" وكتاب "ألف ليلة. كوم" للكاتب الصحفي جاكي حوغي.
في الحلقات التي تم بثّها حتى الآن في مسلسل "أم هارون"، والناطق بالعربية الخليجية - يعيش المسلمون والمسيحيون واليهود معًا ويتمتعون بحرية العبادة. يمكن تمييزهم بغطاء الرأس، أو العقد على العنق أو مسبحة الصلاة في اليد. والأنباء المتعلقة بإقامة دولة إسرائيل والمصير المرير للفلسطينيين، المنبعثة من الراديو، تؤثر على نسيج العلاقة بين سكان البلدة الذين تمتعوا حتئذٍ، ظاهريا، بحسن الجوار والعيش المشترك، خاصة بين النساء اللواتي يعانين من قسوة أزواجهن وكل منهن تستمد القوة من الأخرى.
إن الافتقار إلى حرية الاختيار بالزواج ممن يهواه القلب وأسرار الماضي الصامتة، هي الأفكار التي تكمن وراء الأحداث. سلسلة حبّ عابر للأديان: مريم المسيحية النسوية التي تعشق جابر المسلم، والذي يضطر للزواج بابنة عمه المسلمة علياء، والتي تعشق محمد ابن الإمام، والذي يعشق راحيل ابنة الحاخام اليهودي. هذه القصة كلها تسبب توترات داخل الأسرة وبين الجيران أبناء الديانات المختلفة. هناك من يضحي بنفسه من أجل الحب وهناك من يصبح بغيضا وينتقم جشعا.
لم يكن اختيار أغنية "نبعة الريحان" عبثا، التي تتحدث عن آلام الحب، المرافقة للمسلسل. إذ تؤدي الأغنية الفنانة اليهودية العراقية سليمة باشا (التي تزوجت بمطرب مسلم)، ووضع ألحانها الملحن اليهودي العراقي الكويتي المعروف، على أثر فراقه المؤلم من المطربته المسلمة زكية جورج.
المسلسل يذكّر المشاهد العربي بالوجود الهام لليهود في الدول العربية في الماضي غير البعيد. فمن ناحية، يعرض العالم الديني والثقافي لليهود برموزه (المزوزا، الشمعدان، نجمة داود، القبعة والشال) من خلال تقديم الصلوات والبركات والأغاني باللغة العبرية.
ومن ناحية أخرى، فإنه يرسّخ القوالب النمطية المعادية للسامية. يصوّر اليهود كبخلاء ومرابين، كمتآمرين متعصبين على نقاء الشعب المختار، لدرجة محاولة قتل كل من يحاول منهم الاختلاط والزواج بابن ديانة أخرى (أحرق والدا أم هارون منزلها في محاولة لقتلها، لأنها تزوجت سراً بمسلم، والحاخام يحرق الكنيس الذي نامت ابنته فيه، لكي يمنعها من التبرع بدمها لعشيقها المسلم). كما لم يرحم المسلسل المسيحيين – الذين يظهرون كاذبين، محرّضين أبالسة، وكل مبتغاهم هو نشر المسيحية في أوساط المسلمين.
الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، الذي يبعد 1200 كيلومتر عن بلدة أم هارون، يلقى في قِدرٍ تغلي، ويزيد من الغليان في المسلسل. إنه يكشف المفاهيم الأساسية للمسلمين بأن اليهود هم طابور خامس، ناكر للجميل ولحسن الضيافة، لذا ينبغي طردهم. وإن قتل اليهودي والكتابات التحريضية على جدران بيوت اليهود، بعد قيام دولة إسرائيل، يؤدي إلى حدوث شرخ في المجتمع اليهودي: بين الذين يتمسكون بوطنهم ويثبتون ولاءهم بالانضمام إلى المظاهرات ضد إسرائيل ويدعمون النضال الفلسطيني ماليًا، وبين الذين يفهمون أن مستقبلهم في وطنهم غير مضمون ويجب عليهم العودة إلى وطن آبائهم.
تم تصوير المجموعة الأخيرة، ومعظمها من جيل الشباب، بأنها لا تتخذ أي إجراءات لتشجيع الهجرة إلى إسرائيل، بما في ذلك إلقاء الزجاجات الحارقة على منازل اليهود، بتشجيع السلطات البريطانية. وبذلك يصبح المسلسل أمينا للرواية الفلسطينية، وبموجبها إن اليهود يتمتعون بحياة رغيدة في الدول العربية ولم يرغبوا بالهجرة إلى إسرائيل، في حين أن الحركة الصهيونية، بتشجيع من إسرائيل، أقنعتهم بالهجرة باستخدام سبل العنف، وذلك كي يصبحوا خدامًا لليهود الذين قدموا من أوروبا إلى إسرائيل. تظهر هذه الرواية في كتاب أبو مازن "الصهيونية - البداية والنهاية" (1977) وفي مقاله "اليهود العراقيون" (7 أبريل 2012، في وكالة الأنباء الفلسطينية "معا"). يتجاهل المسلسل بشكل أساسي الملاحقات التي تعرّض لها اليهود أيضًا في الدول العربية، بما في ذلك العراق.
عندما لا نراقب القِدر الذي يغلي، فإن الماء ينزلق إلى الخارج. وهكذا يضطر اليهود إلى مغادرة مسقط رأسهم. وتمثّل بلدة أم هارون كل مكان في الدول العربية حيث عاش اليهود طيلة قرون، واضطروا للتخلّي عنهم بسبب التغييرات السياسية التي طرأت في سنوات الثلاثين، وبلغت ذروتها بإقامة دولة إسرائيل. ليس عبثا انتقد بعضهم الكويت التي نسبت إلى نفسها قصة اليهود العراقيين أو البحرينيين. وجنح النقاش من مسألة التطبيع إلى سؤال حول من هي أم هارون الأصلية - أهي أم شاول من البصرة أم أنها أم جان البحرينية.
من الواضح لماذا صبّ الفلسطينيون جام غضبهم على "المخرج 7". لا يتضح سبب انزعاجهم من "أم هارون"، التي لا تدعو للتطبيع مع إسرائيل واليهود، بل تشوّه صورة اليهود وتحمّلهم مسؤولية الأذى بهم على يد العرب. يبدو المسلسل في نظر كثيرين في العالم العربي، تعبيرا عن الانفتاح الذي تقوده العناصر البراغماتية في الخليج، التي تروّج للنظرة التنويرية حيال إسرائيل. علاوة على ذلك، بالنسبة لهم، فإن أي ذكر لليهود الذي يصوّرهم على أنهم بشر، حتى لو من وجهة نظر سلبية، هو تطبيع لا يطاق، وخيانة ومسّ بقصة التضحية للفلسطينيين. من وجهة نظرهم، ممنوع أن يسمح لليهود وللإسرائيليين أي مجال للحديث، كما جرى معي في مجموعة الواتس أب. يزداد هذا النقد عنفوانا كذلك في أوساط النقاد الفوريين "لأم هارون"، الذين كتبوا عنه رغم أنهم لم يشاهدوه.
تدلّ هذه الانتقادات مرة أخرى إلى أي مدى كان المستشرق البروفيسور برنارد لويس محقًا عندما شرح في كتابه "ما الخطأ الذي حدث؟" (2002) عن الضعف المستمر للعرب منذ العصور الوسطى، في حالات الانغلاق التي ميّزت مواقفهم حيال الثقافات الأخرى. قال لويس إنه لو استمرت شعوب الشرق الأوسط في المسار الحالي - فسوف يدهورون أنفسهم إلى واقع الكراهية والشر والشفقة على الذات والفقر والقمع. ولكن إذا توقفوا عن الشكوى لمرارة مصيرهم وشعورهم كضحايا، يمكنهم أن يجعلوا الشرق الأوسط مرة أخرى مركزا ثقافيا هامًا.
كما ختم الكاتب أمين الزاوي مقاله بقوله - على العرب أن يقرروا ما إذا كانوا يريدون الانضمام إلى رحلة التاريخ. وللقيام بذلك، يجب عليهم أيضًا الانفتاح على مجموعة متنوعة من الأدب الإسرائيلي، أو البقاء على الهامش، مع الانغماس في التاريخ.
*كاتبة يهودية إسرائيلية ذات أصول عراقية. مؤلفة رواية "الصور على الحائط" التي تعالج يهود العراق، وصدرت عام 2017 باللغة العربية في العراق.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

945 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع