نهجان في العمل السياسي

                                                    

                         د. علي محمد فخرو

نهجان في العمل السياسي

في عالم ممارسة السياسة هناك اتجاهان في منهجية تلك الممارسة. فقبل السقوط المدوي لمنظومة الاتحاد السوفييتي، ومعه تراجع الايديولوجيات الكبرى تراجعا هائلا وحاسما، طرح البعض توجها جديدا مفاده أن أفضل طريقة في العمل السياسي هي اقتصارها على الاحتجاجات المحلية السلمية المتقطعة وتركيز شعارات تلك الاحتجاجات على مواضع محددة من مثل المساواة بين الجنسين أو حماية بحيرة من التلوث الكيميائي أو زيادة أجور العمال العاملين في شركة صناعية محددة.

الصفات الأساسية في ذلك النهج المقترح، اذن، هي أولا أن تكون في صورة احتجاجات شبه عفوية غير مرتبطة بنظرة سياسية شمولية ولا بنظرة ايديولوجية محددة وتقودها عدة قيادات متفاهمة بدلا من قيادة واحدة ملتزمة بفكر واحد. وهي ثانيا أن تطرح شعارات قطاعية لحل اشكالية مجتمعية واحدة بدلا من طرح تلك الاشكالية ضمن استراتيجية سياسية شاملة تسعى لاحداث تغييرات كبرى جذرية في المجتمع.
لقد تزامن ذلك الطرح المبسط للعمل السياسي، الى حد الغاء المنظم منه، مع انتشار الاحباط واليأس بين المفكرين والقادة اليساريين بسبب الممارسات التسلطية والغياب الكامل للحريات في بلدان مثل الاتحاد السوفييتي والصين وغيرهما من حاملي شعارات الايديولوجية الماركسية، بأشكالها المتعددة والمنقسمة على نفسها. كما ترافق مع طرح وانتشار ثرثرات الفلسفات النظرية البحتة، من مثل الفلسفة البنيوية في فرنسا، أو فلسفة مابعد الحداثة التي بدأت في انكلترا وأميركا ثم انتشرت.
ان فيلسوفا بنيويا بارزا مثل الفرنسي فوكو أوصلته براءته الطفولية السياسية الى الاعتقاد بأن أهم مانحتاجه في الحياة السياسية هو توسيع وتعميق الوعي السياسي لدى الأفراد والجماعات، وأن ذلك سيؤدي الى أن يقوم الناس، باستقلالية عن التنظيم، بحل مشاكلهم السياسية والاجتماعية. كانت لديه شكوك بشأن ضرورة وجود قيادات تجيش وتقود أو ضرورة وجود استراتيجيات سياسية كبرى تتوجه الى حل كل المشاكل في نفس الوقت.
وصبّت في نفس الاتجاه أطروحات مابعد الحداثة، المركزة على نسبية كل شيء، الرافضة لوجود أي حقيقة مطلقة، المهاجمة بعنف لحقل العلوم واستنتاجاته، المسلعة للمعرفة، الطارحة لشعارات فخفخة نظرية مبهمة شبه سرية لا علاقة لها بواقع الحياة ومتغيرة بصور سريعة جنونية، وبالتالي غير مهتمة باحداث تغييرات كبرى في الواقع الاجتماعي.
وهكذا تهيأت الأجواء لطرح الشعارات النيولبرالية الرأسمالية العولمية المتجهة نحو تشييئ وتسليع كل شيء، نحو فردية تقترب من محو فكرة العائلة وكل أنواع الاجتماع البشري، نحو استهلاك مبتذل لكل شيء، نحو اضعاف لمسؤوليات الدولة الاجتماعية، نحو قبول هيمنة اقتصادية لبضع شركات وأفراد، نحو تدمير ممنهج للبيئة، نحو صعود قيادات سياسية شعبوية بهلوانية تقود ملايين ضائعة غاضبة عنصرية، نحو تهميش لكل ماهو جدي واعلاء لكل ماهو سطحي ترفيهي، نحو نظام تعليمي في شكل مصانع تنتج يداً عاملة تحتاجها الأسواق ولا دخل لها بحاجات المجتمعات الانسانية والقيمية والروحية.
تلك هي ملامح النهج الأول المقترح والذي يزداد الترويج له بصورة مذهلة من قبل اعلام تجاري نفعي أو اعلام حكومي مستفيد من ذلك التمزق المجتمعي، ومن قبل كتاب ومغردين انتهازيين مدفوعي الأجر بسخاء لتدمير كل ماهو سياسي جدي منظم.
أما النهج الثاني الذي يحاول أن ينهض في وجه ذلك الطوفان من التشكيك والكذب، فهو النهج القائل بأن العمل السياسي يجب أن تقوم به مؤسسات مدنية منظمة، حاملة لاستراتيجيات سياسية شاملة ومترابطة مع كل حاجات المجتمع الحياتية، لها قيادات تفكرُ وتثقف وتجيش وتقود بحكمة وعقلانية والتزام أخلاقي نحو المجتمعات والبشر.
ذلك هو نفس النهج الذي طرح منذ بدايات القرن العشرين بصورة خاصة، مع تعديلات جوهرية في الفكر والمنهج والوسائل من خلال نقد موضوعي صادق لكل أخطاء الماضي من رجالاته وأحزابه وسياساته وأوهامه.
انه نهج يتعايش مع فكرة الاحتجاجات شرط أن تكون ضمن استراتيجية كبيرة وشرط أن تكون متناسقة مع كل مكونات تلك الاستراتيجية الأخرى.
انه نهج يؤمن بضرورة وجود قيادات تاريخية لكتل تاريخية تقوم مكوناتها السياسية لا على اسس انتهازية مصلحية مؤقته وانما على أسس توافق على مبادئ وأهداف وأساليب عمل نضالية مستمرة غير موسمية وغير مكتفية بالعمل المحلي والشعارات الجزئية.
لوفتشنا عمن كتب عن تفاصيل ذلك التوجه في ثلاثينيات القرن الماضي لكان المفكر السياسي الايطالي غرامشي في مذكراته التي كتبها في السجن.
لنعد الى مايهمنا بالدرجة الأولى بالنسبة لهذا الموضوع: نهج العمل السياسي في الوطن العربي. منذ عشر سنوات والوطن العربي يزخر بحراكات سياسية كبرى، وسيستمر في نهجه هذا لسنين طويلة قادمة. ذلك أن الأخطار الهائلة التي تحيط بهذا الوطن، ومقدار التخلُف التاريخي الذي وصلت اليه الأمة، والحاجة الماسة لاحداث تغييرات كبرى في حياة الوطن والأمة، تحتم أن يختار شباب وشابات الحاضر والمستقبل نهجا في العمل السياسي فاعلا في الواقع، مستمرا في الزمن، قوميا في المساحة الجغرافية والسكانية، تاريخيا في مكوناته، ديموقراطيا في كل خطواته، قيميا في كل مايتوجه اليه.
الحق واضح والباطل واضح، وعليهم الاختيار، بالرغم من كل الغبار والضجيج وثرثرات المتفرجين.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

992 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع