أزمة ثقافة أم محنة مثقفين

                                             

                          ضرغام الدباغ

        

                    دراسات ـ إعلام ـ معلومات

                         العدد : 172
                       التاريخ : 2019

 

أزمة ثقافة أم محنة مثقفين

هذا عنوان يصلح لأن تقام حوله ندوات نقاشية عريضة، يساهم فيها اخصائيون ومثقفون من حقول معرفية شتى، بهدف تحليل عناصر الأزمة التي ينبغي حقاً أن توصف بأنها أزمة. من أولى سماتها أنها متشعبة الأسباب منها ما هومن العناصر الكامنة ((invisible أو الظاهرة (Visible)، وفي تعدد العناصر الضاغطة (Preßfaktor)، الخارجية منها (External factor ) والداخلية منها (Inerenn factor). والتخلف (backwardness ) المتعدد الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، والثقافية.

بتقديري أن هذه هي أهم عناصر الموضوعة (Theme)، التي تمثل المؤشرات الأساسية للبحث، ولا يمكن أن نضع الأزمة وأبعادها على كاهل المثقفين، كما لا يمكن تبرئة المثقفين من بعض أبعادها. وقد يضيف عليها زملاء باحثون جوانب أخرى من أجل أن يأخذ البحث أبعادة الحقيقية. فالأزمة هي نتاج تلاقح عناصر عديدة، نرجح أن يكون للتأثيرات الخارجية التي عانى منها العراق والأقطار العربية، منذ أن أنطفأ سراج النهوض والتواصل، وفقدت البلاد إرادتها السياسية، وأستمر هذا الانكفاء قرون طويلة، كان العراق وأقطار الأمة بصفة عامة بعيدة (جوهرياً) عن المسارات التي تضعها في فلك التطور، فتواصلت أسباب التخلف حتى القرن التاسع عشر.

وهذا المقال يأخذ على عاتقه استهلال لمهمة التشخيص (Diagnose)، على أن مجهوداً كبيراً كهذا، يستحق مساهمة واسعة النطاق، إذ يبدو لنا أن الموقف الحالي يحمل مؤشرات هامة كثيرة ربما تحمل في ثناياها علامات مفصلية، وأن بلادنا والأمة تعيش مرحلة في غاية الأهمية والخطورة معاً، لذا أدعو مفكري الأمة ومثقفيها كافة، إلى موقف يتجرد الكل عن هواه السياسي والعاطفي للتنقيب في فروع الأزمة، من أجل خلق تصورات علمية عن المسببات، وخلق صورة فيها قدر من التنبؤ العلمي (Prognose) وجهد فكري لإنضاج مبكر لما هو الآن في حالة جنينية. وبتقديرنا أن حوارات في جو من الموضوعية والعلمية كهذه ستساهم إلى حد بعيد في استشراف ما يدور في أذهان المفكرين والكتاب، ولكي نمنح المرحلة التاريخية استحقاقاتها.

ــ الأسباب الكامنة (invisible): وهي العناصر المتمثلة بالموقع الجغرافي، وطبيعة الأرض والمناخ، وطبيعة المحاصيل الزراعية والمواد المستخدمة في البناء. ولكل من هذه العناصر تأثيراتها في التكون والتشكل السياسي والاقتصادي والاجتماعي لبلداننا العربية إن كانت في المشرق العربي أو في المغرب العربي. ومن البديهي القول أن البلدان الواقعة على البحر تتيح لها ظروفها الاتصال النشيط بمصادر أجنبية، وتكون التجارة النشاط الاقتصادي الرئيسي، والنشاط التجاري يدفع إلى التعارف ومعرفة الآفاق والمغامرة والمجازفة، وكل هذه توسع من المدارك والمعارف في معرفة الطريق واكتشاف آفاق المستقبل وتحديد علاماته.

ــ الأسباب الظاهرة (Visible): وهي العناصر المتمثلة بالتطورات التاريخية لبلدان المنطقة وتفاعل تجاربها بأطوارها السلبي والإيجابي، الأقطار العربية كلها خضعت تحت هيمنة قوى أجنبية، استعمارية، لذا تأخر عصر النهضة العربي، وحين بزغ فجره، (بتقديري 1850) كانت الولادة قيصرية، تمت في ظروف دموية، فهناك عناصر كثيرة تتخلل عصر النهوض، عناصر دافعة للأمام، ولكن هناك أخرى تسحبها إلى الخلف وتبطئ من حركتها. ولا مناص من ذكر حقيقة ساطعة ، أن الصراعات الدولية وضعت امتنا لأسباب عديدة في مهب تفاعلاتها

ــ العناصر الدافعة تتمثل بنهوض جيل جديد، أدرك أن تخلف الأمة، فيكفي أن يقرأ المتعلم العربي مقدمة أبن خلدون، وكتاب الأحكام السلطانية، وكتب أبن أبي الربيع، وأبن الأزرق، وكتاب الخراج، ابن رشد، والطرطوشي، والفارابي، وأبو حامد الغزالي، ليعرف أن سبات الأمة كان (أو ربما ما يزال) بفعل عناصر خارجية مدمرة بالدرجة الأولى، وليس بسبب عجزها وضعف أبناءها.
ــ لابد من الإقرار أن الأمة تأثرت بمحيطها الخارجي، وهذا لا ينقص من أصالتها، بل نجده من غير المنطقي أن يتأثر أي وسط بما يحيط به، وهذه عملية تدور منذ أقدم العصور وحتى الآن دون توقف بين المراكز الحضارية الكبرى في العالم، أن النهوض كان مرتبطاً بالتحرر، وخلق حركة تحرر تضيئ الأفاق.

ــ العناصر الضاغطة الداخلية (Inerenn factor): وهي العناصر المتمثلة بالثقل الذي تتمتع به المؤسسة الدينية بصفة رئيسية، منذ العصور الوثنية، ثم الديانات السماوية التي انبثقت من قلب المنطقة وكذلك التراث العريق من التقاليد والعادات المتأصلة والمتجذرة ولها تأثيرها في تكبيل المساعي للتطلع وتجاوز عقبات الحاضر في رؤى مستقبلية للأنماط الإنتاجية والعلاقات الاجتماعية.

ــ العناصر الضاغطة الخارجية (External factor): وهي العناصر المتمثلة، بالقوى الأجنبية التي حاولت غزو المنطقة، ولكنها رحلت بعد أن خلفت أنماط من علاقات واتجاهات ثقافية، ولمحات من حضارتها،

ــ التخلف الاقتصادي / الاجتماعي / الثقافي (backwardness): وهي محصلة لكافة العناصر السلبية التي أثرت بصورة مباشرة وغير مباشرة في التشكل النهائي في بلدان المنطقة.

ولو وجهنا نظرة دقيقة فاحصة، لوجدنا أن الموقف الثقافي في جميع بلدان العالم يعاني من مشاكل، قد تتفاوت في حجمها وطبيعتها، ولكن المشاكل موجودة على أية حال. وهي نابعة من مصادر عديدة، منها أيضاً الذاتية والموضوعية، ولكن في جميع الأحوال هناك شكوى من الانتشار والتوسع وقد يكون لهذا التوسع المتزايد لعالم الانترنيت نتائجه السلبية أيضاً، فحقوق الملكية الفنية، تتعرض للضياع، وكذلك التزوير المتقن للأعمال الفنية والأدبية، وعناصر أخرى عديدة. ولكن لابد من القول أيضاً، أن الدوائر الثقافية والفنية تحاول جهدها تقليص الآثار السلبية، ولكن الأزمة ما تزال تطل برأسها.

وبتحليل عناصر الموقف في بلادنا والوطن العربي نجد أن العناصر تتداخل وتتلاحم بطريقة يصعب فصمها حقاً، ولكن لا شيئي يستعصي على التحليل العلمي والجرد لفقرات أية موضوعة. ولكن لابد من الإقرار بالتفاوت الذي يبدو أنه ليس سهل أو بسيط، بين البلاد العربية وغيرها، كأوربا وأميركا مثلاً. ولكن مع وجود عناصر متشابهة جوهرياً. فلا يعتقدن أحداً بأن حرية النشر مفتوحة على مصراعيها دون حسيب أو رقيب، نعم قد لا يكون هناك القمع الجسدي الموجود في بلداننا، ولكن هناك خطوطاً ملونة عندما يجتاز الكاتب الخطوط الأولى، ويصل الخط الأحمر، بعدها لن يكون بوسعه متابعة مغامرته وليس بالضرورة بأساليب قسرية، فقد يحرم من الكتابة في الصحف الممتازة، وعليه أن ينزوي في صحيفة بسيطة وبوضع مالي أبسط، بلا طموح ولا أمل بالتقدم، وهناك تفاصيل أخرى.

ولكن الأمر لن يبلغ إلى مستوى التصفية لجسدية بالقتل الصاخب أو برصاصات سلاح كاتم للصوت، وقبل أيام فحسب اغتيل أديب عراقي (علاء مشذوب) لينظم في الواقع إلى قافلة شهداء الثقافة والعلم مؤلفة من المئات وتتسع القائمة حتى تكاد أن تبلغ الألف، وقمع الثقافة والعلم والمتعلمين قاد إلى نتائج كارثية في إنحدار مستوى التعليم بكافة مستوياته إلى درجة التلاشي (الشهادات العراقية غير معترف بها )، واختفاء الحياة الثقافية بكافة مظاهرها، وهنا تطغي العوامل وتتداخل فلا نكاد نتبين الذاتي من الموضوعي، والسبب الخارجي عن الداخلي.

ويشير الرقم الكبير للاغتيالات (أكثر من 800 شخصية) وأعداد أكثر من العلماء والمثقفين والأدباء والكتاب ممن غادروا العراق إلى المهاجر أولاً لعدم إمكانهم الكتابة في وطنهم، والثاني هو خشية اغتيالهم بدم بارد، ولم تكشف أبعاد حادثة اغتيال واحدة من هذه المئات، فالأمر إذن هو عام وبتوجيه من قوى كبيرة، لا يهم الآن أن نحقق بالتفصيل ولكننا نتوصل إلى حقيقة ثابتة واضحة للعيان : أن الثقافة والعلوم ممنوعة وحتى إشعار آخر. بأمر من ذات القوى التي مثل العراق تقدماً غير مقبول بالنسبة لها، وهناك برنامج تفصيلي لم ينجز بعد، وهو فحوى موضوع بحثنا هذا.

قرأنا من خلال متابعاتنا، أن هناك شخصيات متنفذة في الشأن العراقي من دول الاحتلال، تتذمر بأن ما حاجة بلد (صغير) كالعراق بهذا العدد من الجامعات، ولماذا تمثل العلوم الثقافة والأدب والفنون ثقلاً كبيراً سياسيا واجتماعياً وثقافياً ضخماً لا يمكن تجاهله في العراق، فتقدم الفنون التشكيلة مثلاً (الرسم والنحت) في العراق مثلت ظاهرة ملفتة للنظر، وهي أسباب لها جذرها التاريخي، فهو ليس سوى امتداد لما جبل عليه الناس وأبدعوا منذ فجر الخليقة بوصفه من رواد الحضارة الإنسانية، قبل ألاف السنين، بأعمال فنية هي مثار الإعجاب في بوابة عشتار، والثور المجنح، وأبنية وعمائر مدهشة تعد من معجزات إنجاز البشر كالجنائن المعلقة والمدرسة المستنصرية وجامع الخلفاء، والقصر العباسي، وهنا رسم الواسطي قبل أكثر من 800 عام، رسوماً خالدة في قيمتها الفنية والتكنيكية، ومن نافلة الكلام القول أن انتشار التعليم والثقافة ومظاهرها وتعبيراتها، هي من العوامل الأساسية التي لها إشعاعها على سائر الفعاليات الاجتماعية الأخرى، بما في ذلك الاقتصاد والسياسة. فلا يمكن تصور مجتمعاً متطوراً، دون أن تكون الحياة الثقافية فيه مزدهرة، بل أن شتى الفعاليات الثقافية هي عنصر أساسي من عناصر شد المجتمع.

وتشير التجارب الواقعية، وتجارب الشعوب في النضال ضد الهيمنة الأجنبية من أجل السيادة والاستقلال ، وبموازاة ذلك نضال دائم في رفع المستوى الثقافي والعلمي، وقوى القمع الأجنبية منها والمحلية تدرك أن قمع الإنسان يبدأ بقمع فكره وقلمه، وقد قيل دائماً " لا يوجد وطن حر إلا بمواطنين أحرار " وهي قاعدة صحيحة تماماً، فكيف تطلب من شخص العمل ويداه مقيدتان ... بل وفكره في علبة حديدية مقفلة ..؟ وحتى خياله الثري العابر للزمن لذلك تشير المعطيات أن الانحدار يبدأ بإبادة المنجزات العلمية والثقافية. لذلك شاهدنا عبر التاريخ القديم والوسيط، بل وحتى شواهد في العصر الحديث، التدمير الممنهج للثقافة ومؤشرات الحضارة، واحتلال مخطط مدبر للمتاحف (متحف بغداد)، ونهب وتخريب للمكتبات العامة(المكتبة المركزية / بغداد)، وقصفها بالطائرات (جامعة الموصل)، وتدمير للآثار (بابل وأور)، وقتل الفنانين (قصف مسكن الرسامة ليلى العطار)، والكتاب وتشريد الفنانين، فهذه لم تكن أعمال عشوائية، بل هي فقرة أساسية في مشروع التدمير الشامل، وفاتحته، ومنسجمة مع الهدف العام المعلن بتصحير البلد، وهنا كان رواد الثقافة والعلم هدف هذا المخطط ومظهره الأساسي.

العلماء والمثقفون والفنانون هم ذاكرة البلد الحضارية، وواجهته الأمامية، ومصد للتيارات الغريبة، وهويته الوطنية والقومية، لذلك لم يكن غريباً أن تكون هذه الفئات هدفا لم يغب عن أسلحة الغزاة الأجانب، وأجهزة الغزاة والاحتلال تتشابه في عقليتها الاعتدائية، ويكتب المؤرخ الأمريكي ولين شرير في عمله الموسوعي الكبير " سقوط الرايخ الثالث " أن الإدارة النازية عندما فكرت باقتحام الجزر البريطانية في الحرب العالمية الثانية، كانت مخططات دوائر الاستخبارات تعد قوائم منظمة لعلماء والمثقفين والفنانين في بريطانيا، والشخصيات الاجتماعية التي تعتبر نقاط استقطاب في البلاد

مساعي التوسع والهيمنة، هي مساعي مدانة إنسانياً وأخلاقياً، لذلك ليس بوسع جهة ما الإدعاء أنها تمارس خططاً دموية بدواعي الخير، أو التحضر، حتى لو قامت بذلك أمم تدعي الحضارة، الثقافة مستهدفة، والمثقفون معرضون للقمع اغتيالاً واعتقالاً، وقمعاً بشتى الأساليب. المثقف مطلوب منه أن يكون طليعياً ولا يخضع للابتزاز، وأن يضحي قدر ما يستطيع ليستحق أن يكون نبراساً لشعبه. المثقف يواجه مخاطر جمة فهو كالجندي في مهمته بل وأكثر تضحية، فهو الساع لاقتحام الظلام وتمزيق ستائر سميكة من الجهل والتخلف والقوى الرجعية ويتربص به الأعداء في كل زاوية ومنعطف.

قلما يعرف الناس أن الشاعر والكاتب المسرحي الألماني المشهور، بيرتولد بريشت، كان كاتباً مرموقاً أيضاً، ولطالما كتب بحوثاً ومقالات لها قيمتها العلمية والفنية. بعض من هذه المقالات التي تلج في عالم الفن والسياسة، كتبها بريشت في فترات متقطعة، في ثلاثينات القرن المنصرم، ضمها في كتاب: حول الفن والسياسة (Über Kunst und Politik) والبحوث التي تضمنها هذا الكتاب شيقة ومهمة، اخترنا لقرائنا هذا البحث الهام وهو بعنوان (Fünf Schwierigkeiten beim Schreiben der Wahrheit)، خمسة صعوبات عند كتابة الحقيقة، وكنت قد قرأت هذا الكتاب خلال دراستي الجامعية العليا في ألمانيا، واقتبست منه مقاطع ضمنتها في دفاعي وسط دهشة الأساتذة. والذي أجد من الضروري أن يطلع كتابنا عليه.

وبريشت في هذه المقالة يمزج بين وظيفته ككاتب سياسي، وكمناضل، وهو ما وضعه في مهب العواصف القمعية، وهو يضع على كاهل الكتاب السياسيين والفنانين والأدباء الذين ينحازون لقضايا الوطن، مهمة مقدسة، لا ينبغي أن يتملص من هذه الفئة الطليعية من الشعب. فيقول له بصراحة تامة : قف مع شعبك وإلا فأنت مع الجلاد. كتب بريشت هذا البحث في الثلاثينات (1935)، أبان اشتداد النضال داخل ألمانيا ضد النازية، وعلى الأغلب لم يكن منتمياً لأي حزب سياسي من أحزاب المعارضة، وهذا يمنح موقفه الثوري مصداقية أكبر، تحدى بريشت نظاماً إمبريالياً (النظام النازي)، كان يعد بحملات دموية داخل ألمانيا، ويخطط لأكثر دموية في أوربا والعالم. دولة كانت تسعى للحرب بألآف الطائرات والدبابات، وبملايين الجند المدججين بالسلاح حتى الأسنان، نظام يريد فرض إرادته بقوة السلاح، كل هذه الضجة الكبرى، والضجيج، ولهيب يستعر، مقابل كل هذا .. رفع المثقف بريشت قلمه .... قلمه فحسب.

وبتقديري، أن الطليعي لا يستطيع أن يتبرأ من ضميره، لا يستطيع أن يتنكر للأيدي التي رفعته، وعن مئات بل ألاف الرموز المادية والحسية، ويشبع حين يتغدى، ويتخم عندما يتعشى، ويتجشأ ويلف رأسه وينام ... هكذا غير مبال بالعمليات التي تدور من حواليه وصخبها يصم الآذان .. الفنان أو الأديب، والمثقف، هو إنسان طليعي وتقدمي بالضرورة، االأطفال. منطقياً مع العملية الصاعدة، مع المسيرة المتقدمة إلى الأمام تشق عباب بحر الظلمات بقلمه بريشته بأزميله، هو مع المحرومين والمظلومين، وليس من المعقول أن يدافع عن القوى التي تهين بلاده وتحتلها، أو عمن بيد سوط، أو سلاح يهرق به دماء الآخرين ويبدد أحلامهم في الحياة .. لابد له أن يتضامن مع صيحات العذاب، لابد له أن ينفعل مع بكاء الأطفال .. لابد ... وإلا فهو فاقد لمشاعره، فهو ليس إذن بإنسان طليعي، بل هو ربما أداة بيد القوى الغاشمة المحتلة والمستعمرة أو الطغيانية.

في حسابات من ينزوي وراء الجدران العالية، فإن نعمل المثقف / الكاتب جنونياً لا محالة، ولكننا اليوم وبحسابات بسيطة ودونما كثير ذكاء، نقر أن هذا العمل الإشعاعي في قمة الذكاء، ليس لأنه ناصب العداء معسكرً فولاذياً تسيل الدماء من جوانبه، بل لأنه أختار الحق، والحق سينتصر وإن يتأخر مجيئه، فلكي تغرب مرحلة وتأتي مرحلة أخرى، هناك استحقاقات مادية يجب أن تكتمل حلقاتها ... وهناك ضحايا حتماً، وهناك أبرياء سيسحقون، وإلا كيف سنصدر إدانتنا جميعاً بصوت واحد وعال ... للمجرمين ..للقتلة ..إدانة جماعية وتاريخية، إلا إذا خضنا غمار المرحلة الرهيبة ودفعنا استحقاقاتها الباهظة.. لابد أن يحدث هذا التدمير لتنشأ وتتكون حركة مضادة .. كيف يمكن أن تمسح النازية بكل قوتها ما يكن هناك متملقون، قتلة، وضحايا، وعمود تراكم لابد أن يمتلئ حتى آخر قطرة منه، فيطلع الجديد النظيف، حتى يندحر الظلام إلى الأبد ..

الكاتب الطليعي يقرر أن ينحاز إلى المظلومين والمقهورين، وأن يكون واحداً منهم، ويتخذ موقفه هذا بقرار وجده بديهياً لأنه لم يصله دفعة واحدة، بل عبر تثقيف ذاتي طويل المدى، ولمسيرة طويلة المدى، ولكن لكي يكون رفضه وموقفه برمته ناجحا ومثمراً عليه أن ينظم رفضه، ويهندس انتفاضته الداخلية، لتنجح خارجياً، ينصح المثقفين ككاتب طليعي، أكتبوا اليوم، واكتبوا غداً، واكتبوا كل يوم، ولكي تكتبوا كل يوم فإنكم لن تستطيعوا أن تقولوا كل ما عندكم دفعة واحدة، وإن فعلت ذلك فماذا ستفعل في الأيام والمراحل المقبلة، ثم أنك ستثير انتباه من حولك، لذلك فإنك لن تستطيع أن تؤثر في مجاميع بشرية هائلة إلا عندما تعلم ماذا تكتب وكيف تكتب، ولمن تكتب ...

الكاتب الطليعي يرى صعوبات في الكتابة الموجهة ... بالطبع فالقوى المعادية لها آذان تسمع وعيون تلاحظ، والكتاب ... ينبغي أن ينتبهوا لمتاعب الكتابة، هي حرب ولابد أن تكون لك قواعدك ..

وأخيراً فالكتابة هي عمل نضالي وقد تنطوي على مخاطر .. عليك أن تتقبلها .. من أجل القيم، ومن أجل من تكتب لهم.... أمض في طريقك لا تخف، وتقبل ما ينجم عن ذلك ..وإن سقطت دون مبادئك وقناعاتك وما تؤمن .. فهي نعم النهاية، والشعب لن ينسى مشاعله وأشجاه الباسقة الباسلة. أما غير ذلك فستذروه الرياح أثراً بعد عين ...!

المثقف لشعبة كشجرة السنديان الصلبة التي لا تهزها الرياح، تشع بالأمان وبنور الإيمان والمعرفة ...

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

531 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع