انتشار التدخين ومكافحته في التاريخ

                                                 

                   الـدكتور محمود الحاج قاسم محمد
                 طـبيب أطفال - باحث فـي تاريخ
                     الـطـب الـعــربـي الإسـلامي

انتشار التدخين ومكافحته في التاريخ

تاريخ انتشاره في أوربا :

تشير الدراسات والأبحاث على أن التبغ كبقية النباتات التي خلقها الله سبحانه على الأرض لا يعرف بالضبط متى بدأ وفي أي وقت وعصر ، ولكن من المعروف أنه وجد في حالته البدائية في كثير من بقاع الأرض وخاصة القارة الأمريكية .
ويقال بأن سكان المكسيك عرفوه منذ أكثر من ألفين وخمسمائة سنة ، حيث كان يستخدم أثناء الاحتفالات الدينية ، وانتشر في جميع أنحاء أمريكا الشمالية والجنوبية ... وقد كان يستعمل منذ تلك الأزمنة للتدخين بالغليون المصنوع من الخشب ، كما أنه كان يستخدم مضغاً أو للعطوس مع بعض النباتات الأخرى .
ويؤكد الراهب الدومونيكي الإسباني ( بارتلميو دله كاسا 1471 – 1566 م ) في كتابه التاريخ العام للهند ، أن الهنود الحمر في أمريكا الشمالية كانوا يدخنون التبغ في غلايين صنعت من حجارة حمراء لا لنيل اللذة والشعور بالانتعاش ، بل لأن له علاقة بالسحر والأديان .
(( وعندما اكتشف كريستوفر كولومبس جزر البهاما ثم وضع قدمه على أرض أمريكا ظناّ منه أنه قد وصل إلى الهند عام 1492 م قدم له سكانها ( الذين أسماهم الهنود الحمر ) التبغ عل هيئة غليون ... وكان أول أوربي يشاهد ويمارس التدخين بنفسه ، وقد سجل هذا الحدث الفريد في مذكراته )) . وفي سنة 1493 م قام أحد البحارة المرافقين لكريستوفر وهو رودريجو دي جيرز Rdreigo de JEREZ لأول مرة بالتدخين في أوربا وذلك بعد عودته من العالم الجديد .
وفي سنة 1497 كتب القسيس رومانو بانو Romano pano الذي كان مصاحباً لكريستوفر في رحلته الثانية إلى أمريكا رسالة من مكان إقامته في سان دومينجو Santo Domingo ذكر فيها معلومات عن طرق ممارسة عادة تدخين أوراق نبات التبغ .
وكان المؤرخ هرماندردي توليدو أول من دون معلومات حقيقية عن خصائص ومواصفات نبات التبغ من حيث زراعته واستعماله في كتابه الذي ألفه في سان دومينجو عام 1535م .
وإذا كان من المؤسف حقاً أن يكون أول ناقل للمعلومات عن التبغ هو رجل دين معروف ، فإنه من المؤسف أيضاً أن يكون أول شخص أدخل هذا النبات إلى أوربا هو طبيب إسباني اسمه فرانسيسكو فرنانديس عام 1558م الذي كان قد أرسله الملك فيليب الثاني ملك إسبانيا للبحث عن المحاصيل ، حيث أحضر معه إلى إسبانيا بذور التبغ وقام بزراعتها ومنها انتشر .
ثم قام السفير الفرنسي لدى البرتغال جان نيكوت Jean nicot سنة 1559 بزراعة بذور التبغ في حديقة السفارة وبعد أن حصل على أوراقها قام بتجفيفها وقدمها على شكل مسحوق إلى ملكة فرنسا ( كاترين دي ميدسيس ) ليعالجها من الصداع المزمن والذي استعملته على شكل سعوط ( نشوق ) . ومن البلاط الفرنسي بدأت موجة التدخين تنتشر .
وعندما عاد نيكوت إلى فرنسا أحضر معه بذور التبغ وبذلك بدأت زراعته في فرنسا . وبقي استخدام التبغ على هيئة سعوط إلى عهد لويس الرابع عشر حيث بدأ استعماله على هيئة التدخين . وفي عام 1560 أدخل المكتشف والتر رالي Walter Raleigh عادة التدخين إلى بلاط الملكة إليزابيث الأولى ملكة إنكلترا .
وفي سنة 1565 نقل جون هوكنز Sir Jon Hawkins التبغ إلى إنكلترا ، وفي عام 1586 أدخل فرانسيس دريك Sir Francis Drako عادة تدخين التبغ بواسطة الغليون إلى إنكلترا .
وفي روما عرف التبغ عام 1561 حيث تم نقله من قبل الكاردينال برومير . وفي العقد الأول من القرن السابع عشر بدأ استعمال التبغ ينتشر في أقطار العالم ، فدخل ألمانيا ، روسيا ، وتركيا وإفريقيا
( المناطق الغربية ) والفلبين ، واليابان ، والصين .
ويقول المؤلف التركي صالح زكي في كتابه (التتن في تركيا ) والمطبوع باللغة التركية سنة 1938 :
(( وأدخلت سفن أوربية التتن إلى استنبول لأول مرة سنة 1601 )) .
وكان الروس أول من ابتدع استعمال السجائر وتعلمه منهم الأوربيون والعثمانيون خلال حرب القرم سنة 1855 ومنهم انتقل إلى جميع بقاع العالم .
تاريخ انتشاره في البلاد العربية :
لم يستعمل العرب التبغ للتدخين سواءً في الجاهلية أو في الإسلام ولكنه انتقل إليهم في العصور المتأخرة ، وأن بداية ظهور التبغ في البلاد العربية لا يمكن معرفته على وجه التأكيد ، فقد اختلف الباحثون اختلافاً بيناً في تحديد ذلك التاريخ ومع ذلك فإن اختلافهم هذا ينحصر بين سنتي 999 و 1020 الهجريتين ، أي بين سنتي 1590 و 1611 بالتاريخ الميلادي وقد استشهد بعض الباحثين بشاعر مجهول ، قالوا أنه أرخ ظهور التبغ في بلاد الشام يقول :
سألوني عـن الدخان وقـالوا .......... هل له فـي كتـابنا إيمـاء
قلت مـا فرط الكتاب بشيء .......... ثـم أرخت يوم تأتي السماء
أي (( يوم تأتي السماء بدخان )) . فإذا صح ما قيل على لسان الشاعر ، يكون ظهور التبغ فيها سنة 999 الهجرية وهو حساب حروف (( يوم تأتي السماء )) بالجمل ، المقابلة لسنتي 1590 أو 1591 الميلاديتين أي بعد قرن كامل من اكتشاف الأوربيين له .
جاء في شرح النجم الغزي الشافعي لمنظومة أبيه البدر في ( الكبائر والصغائر ) أن التبغ ظهر في دمشق سنة 1015 الهجرية المقابلة لسنتي 1606 و 1607 في العام التالي لظهوره في تركيا على وجه التقريب .
وإذا رجحنا الاعتقاد بأن التبغ ظهر في بلاد الشرق العربي عن طريق تركيا ، أو عن طريق الموانئ الأوربية على البحر الأبيض فيبدو أن ظهوره ، في بلاد المغرب العربي كان عن طريق آخر .
فقد ذكر أحمد بن خالد الناصري في كتابه ( الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى ، أن التبغ
– وسماه التابغ – ظهر في مراكش منقولاً من بلاد السودان التي تعرف الآن بجمهورية مالي في سنة 1001 الهجرية المقابلة لسنتي 1592 و 1593 الميلاديتين ثم ظهر في فاس سنة 1007 الهجرية أي بعد ذلك بستة أعوام )) .
وقد ذكر اللقاني في رسالته (( نصيحة الأخوان باجتناب الدخان )) كما سنرى ، أن شجرة التبغ ظهرت في مدينة تنبكتو التي تتبع جمهورية مالي في الوقت الحاضر سنة 1005 الهجرية .
ويقال أن بداية إدخال زراعة التبغ إلى سوريا ولبنان كان سنة 1625 م عن طريق تركيا ، بينما كان دخول زراعته إلى العراق في منتصف القرن الثامن عشر عن طريق إيران .
أما في القطر المصري فإن أول دخول أوراق التبغ كان سنة 1601 – 1602 م وزاد استيراده في عام 1732 م ، وقد ورد من سوريا إلى دمياط وابتدئ بزراعته في هذه السنين .
مكافحـة التدخين في التاريـخ :
مكافحة التدخين في أوربا :
عند انتشار التدخين في أوربا كان هناك فريقان ، فريق قام بتشجيعه مثل الملك هنري الرابع ( 1557 – 1610 ) ملك فرنسا بقصد الحصول من ذلك على ضرائب ، وفي ألمانيا فردريك الكبير وفي روما البابا بندكت الثالث عشر ( 1724 – 1730 ) أصدر أمراً بالسماح باستعمال التدخين لأنهما كانا مدخنين مدمنين على ذلك .
وقاوم فريق آخر بشدة استعمال التدخين ، من هؤلاء الباب أوربان الثامن ( 1633 – 1644 ) الذي أصدر أمراً عام 1638 بتحريم التدخين وخاصة داخل الكنائس ، وفي إنكلترا استعمل الملك جيمس الأول سنة 1619 منتهى الشدة لمكافحة استعماله . وفي روسيا اتخذ عاهل روسيا سنة 1650 عقوبات صارمة بحق المدخنين وصلت إلى حد الحكم بالإعدام . ومنعه أيضاً القيصر بطرس ألكبر ( 1672 – 1725 ) وفي بروسيا صدر عام 1848 أمراً بمنع ممارسة التدخين في الشوارع العامة ثم تراجع عن ذلك بعد مطالبة العمال بحرية التدخين .
مكافحة التدخين في البلاد العربية والإسلامية :
في الدولة العثمانية أصدر السلطان أحمد الأول عام 12607 أمراً بتحريم التدخين ، ويقال أن رجال الشرطة كانوا إذا ضبطوا شخصاً متلبساً بتهمة التدخين دفعوا ساق الغليون في إحدى فتحتي أنفه وأركبوه حماراً وعرضوه على الناس في السواق والشوارع ليكون عبرة لغيره . ولما تولى السلطان مراد الحكم فرض عقوبات صارمة على متعاطيه وصلت إلى حد الإعدام . وفي إيران بالغ الشاه عباس الأول في معاقبة المدخنين إلى درجة قطع أنوفهم واستعمال الخازوق لقتلهم .
وأصدر الوالي العثماني محمد البدقجي الذي ولي مصر سنة 1743 أمراًَ بمنع التدخين في الشوارع والدكاكين ، وعند أبواب البيوت وفي السعودية أصدر الشريف مسعود بن سعيد في سنة 1146 هـ / 1743 م أمراً بمنع الناس من التظاهر بتدخين التبغ . وفي السودان كان المهدي يحرم التبغ ويعاقب من يتناوله بجلده ثمانين سوطاً وسجنه مدة أسبوع.
الدراسات العلمية حول أضرار الـتـدخين :
نتيجة لملاحظات بعض الأطباء وجهت كلية الأطباء الملكية في لندن في سنة 1765 تحذيراً رسمياً حول مضار التدخين . وفي سنة 1838 اكتشف العالمان الألمانيان ( بوسلت Bosselt ورايمان Reimen ) المادة الفعالة في التبغ سمياها ( نيكوتين Nicotin ) نسبة إلى جان نيكوت .
وقام بدراسة مادة النيكوتين وتأثيراتها على جسم الإنسان العالمان النمساويان ( دافيرزاك Divorzak وهاينريش Heinreich ) وذلك في العاصمة النمساوية فيينا في سنة 1868 .
أما تركيب النيكوتين الكيميائي فقد اكتشفه العالم الكيميائي ( بينير Pinner ) سنة 1893 م .
(( وفي سنة 1948 اكتشفت الجمعية الطبية لمكافحة السرطان في أمريكا علاقة سرطان الرئة بالتدخين ، ولكنها لم تستطع نشر تقريرها إلاّ في سنة 1953 بسبب تدخل شركات الدخان العالمية )) .
(( أما أول تقرير علمي شامل يتناول بحث ودراسة الأمراض والأضرار الناجمة عن التدخين ، فهو تقرير كلية الأطباء الملكية في لندن ( التدخين والصحة ) والذي صدر عام 1962 )) ثم أعقب ذلك دراسات عديدة ومؤتمرات حول أضار التدخين ومكافحته ، منها سنة 1975 إصدار منظمة الصحة العالمية تقريرها الأول بعنوان ( التدخين وآثاره على الصحة ) وفي سنة 1980 إعلان المنظمة تلك السنة هي السنة الدولية لمكافحة التدخين ، وأخيراً وليس آخراً إعلانها بأن 7 نيسان 1988 هو اليوم العالمي الأول للامتناع عن التدخين تحت شعار (( التبغ أم الصحة فلتكن الصحة اختيارك )) .
وقد أثبت الدراسات العلمية على أن أهم المواد المسؤولة عن التأثيرات المرضية للتدخين هي :
1 – النيكوتين وتأثيره على صحة الإنسان ويشمل :
‌أ- يزيد إفراز الأدرنالين مما يؤدي إلى زيادة ضربات القلب وتقلص الأوعية الدموية وارتفاع ضغط الدم .
‌ب- يزيد تركيز المواد الدهنية في الدم مما يساعد على تكوين تصلب الشرايين .
‌ج- يزيد سرعة التصاق الصفائح الدموية وهذا يؤدي إلى زيادة احتمال الإصابة بالجلطات .
وبشكل عام فإن النيكوتين يؤثر على أغلب أجهزة الجسم .
2 – القـطـران وتأثيره هو أنه :
‌أ- يترسب ويعلق بالرئتين والقصبات الهوائية .
‌ب- يسبب السرطانات والأمراض للفم والشفتين واللسان وكذلك المعدة .
‌ج- لاحتوائه على المواد السرطانية ( بنزاتراسين ، ووبنزوبيرين ، ونتروزامين ) فهو المسؤول عن سرطانات الرئة والجهاز الهضمي والمثانة .
3 – أول أوكسيد الكاربون :
في حالة دخوله إلى جسم الإنسان بكميات قليلة وبشكل مستمر يؤدي إلى الإصابة بالتسمم المزمن ، الذي يولد حالة مرضية من أعراضها وجع الرأس وضيق التنفس والإرهاق الذهني والدوخة .
4 – مـواد أخـرى :
وهي قرابة ( 400 ) مادة ذات تأثيرات على حياة الإنسان وصحته على سبيل المثال :
‌أ- مواد غازية : مثل ميثيل نتروزأمين ، داي أثيل نتروزأمين ، نورمالدهيد ، مثيل فلورايد ... الخ وهي مواد مسرطنة للشفة والرئة والبلعوم .
‌ب- مواد غير غازية : مثل بيرين ، نفتالين ، زرنخ ، برلونيزم صمغ ، بيتا نفثالين ... الخ وهي مواد مساعدة للسرطان أيضاً .
وأخيراً نقول أنه أصبح من الثابت علمياً أن أنواع السرطان التي يدخل التدخين كعامل مساعد أو مسبب للإصابة بها تعد من أشد أنواع السرطانات فتكاً بالإنسان ، ولا نريد أن ندخل في تفاصيل الإحصائيات ، وإنما نقول باختصار بأنه قد ثبت علمياً بأن من يدخن عشرين سيكارة يومياً يواجه احتمال إصابته ووفاته بسرطان الرئة عشرة أضعاف الذي لا يدخن ... وأما من يدخن أربعين سيكارة فإن الخطر يزداد إلى ( 15 – 20 مرة )

-------------

1- البار ، الدكتور محمد علي : التدخين وأثره على الصحة ، ص 10 .
2- شريم ، الدكتور محمد بشير : التبغ والتدخين ... تاريخ وآثار – منشورات الجمعية الأردنية لمكافحة التدخين 1989 ، ص 31 .

3- شريم : التبغ والتدخين – ص 33 ، 42 .
4- الكردي ، محمد طاهر : أدبيات الشاي والقهوة والدخان – ص 122 .
5- اللقاني ، إبراهيم : نصيحة الأخوان باجتناب الدخان – تحقيق الدكتور محمود الحاج قاسم محمد .

6- القاضي ، الدكتور عادل هادي : التدخين – ص 8 .
7- الفنجري ، الدكتور أحمد شوقي : الطب الوقائي في الإسلام – ص 305 .
8- شريم ، التبغ والتدخين : ص 106 .

9- للمزيد من التفصيل يراجع ، شريم : التبغ والتدخين – ص 84 – 88 .
10- محمد ، الدكتور محمود الحاج قاسم : الوقاية من السرطان في الإسلام – بحث ألقي في مؤتمر الأورام الثالث ، الموصل 1988 ، ونشر في جريدة العرب اللندنية ، العدد 2955 ، يناير 1989 .

    

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

723 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع