نصوص ثمينة في تراث علي الوردي (٢)

                                             

                       د. وليد محمود خالص
                             باحث متفرغ

   

نصوص ثمينة في تراث علي الوردي (٢)

يرد هذا النص ، وهو الأول ، في سياق حديث علي الوردي عن عوامل انتشار ثورة العشرين في العراق في مراحلها الأولى ، والنص مثبت في الجزء الخامس / القسم الأول من كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) ، ص 345 ، وذلك حين يتوقّف عند العامل الخامس في انتشار الثورة ، فيقول : (كان العامل الديني من أهمّ العوامل في انتشار الثورة ، ان لم يكن أهمّها جميعا . ونقصد بهذا العامل ، اتجاه الناس الى اتهام كلّ من لا يؤيّد الثورة بأنّه كافر ، نصراني . والواقع أنّ عددا غير قليل من الشيوخ التحقوا بالثورة تحت تأثير هذا العامل ، اذ هم كانوا يخشون أن تهبط منزلتهم الاجتماعية من جرّاء اتهام الناس لهم بالكفر ، والنصرانية) ، غير أنّه يكتب فقرة ، هي الغاية في الأهمية ، كأنّها تعليق مباشر على ما سبق ، وهي : (--- ومن الجدير بالذكر أنّ الانسان بوجه عام ، لا يهتمّ بالدين كثيرا في حياته اليومية ، فهو قد اعتاد أن يخالف أوامر الدين ، ونواهيه في كلّ يوم ولا يبالي . وقد لاحظنا ذلك بشكل واضح لدى العشائر . اذ أنّ معظم قيمهم الاجتماعية مخالفة لتعاليم الدين ، كالعصبية القبلية ، والثأر ، والغزو ، والنهب ، وفرض الاتاوة ، وغسل العار ، والنهوة ، وما أشبه ، ولكنّهم سرعان ما يستجيبون لنداء الدين حين يكون هذا النداء منسجما مع قيمهم ، أو تكون مخالفته مؤدّية الى الحطّ من سمعتهم ، ومكانتهم الاجتماعية . فالقضية اذن ليست قضية دينية بحتة ، بقدر ما هي قضية اجتماعية ، وتلك طبيعة البشر في كلّ زمان ، ومكان) . ولعلّ الوردي يطبّق المفصل ، ويضع الهناء (بكسر الهاء) مواضع النّقب ، على مقتضى المثل العربي القديم ، حين يضع المسألة الدينية في سياقها الاجتماعي التي يجب أن تفهم (بضمّ التاء) فيه ، كونها تعالج (بفتح اللام) في الأغلب ، وهي منبتّة الجذور ، منقطعة عن هذا (الما حول) الذي يوثّر فيها ، وتؤثّر هي فيه أيضا ، وذلك ضمن قناعاته المتعدّدة عن الطبيعة البشرية التي جبل (بضمّ الباء) الانسان عليها ، وهي التي يديم تكرارها في كتاباته ، ويتّخذ منها تكأة لتشخيص الطبيعة البشرية من جهة ، وتفسير مواقف ، ودوافع تلك الطبيعة تفسيرا عقلانيا من جهة أخرى . وكأنّ الوردي يريد القول انّ العامل الديني يجب أن لا يؤخذ هكذا ، بحسبانه لحاء مقشورا عن جذع شجرته ؛ لأنّه سيفقد نبض الحياة بمرور الوقت ، وعند ذاك لن يتهيأ لتفسير تلك المواقف (الدينية) الاّ تفسير سطحي ، ساذج ، لا يقترب من العمق ، بل يكتفي بالسطح ، وهو ، بلا شكّ ، تفسير قاصر . بل يجب النظر الى العامل الديني ، وهو مرتبط ، متشابك مع مجتمعه ، وقيمه . فهذا التشابك هو الذي يمنحه الحياة ، ويغذو نسغه بماء التجدّد في الفهم . 

وتتفرّع عمّا سبق ، مسألتان جديرتان بالتوقّف ، والتأمّل ؛ لأنّ الوردي مافتيء يكرّرهما في مواضع مختلفة من كتبه ، ولعلّهما من السبق المبكّر الذي يحسب له ، في كشف أسرار النفس الانسانية ، وتفسيرها تفسيرا عقلانيا ، كما ذكرنا سابقا . أمّا أولى المسألتين ، فمتعلّقة بالعشائر من حيث تقديمها ما تعارفت عليه ، واتخذت منه قوانين ، وطقوسا ، على الدين ، وأحكامه ، ونواهيه ، ورأينا الوردي يسوق هذا الرأي ، وهو بصدد الحديث عن العشائر العراقية ، غير أنّه يوسّع هذه النظرة لتصبح ظاهرة عامّة تنتظم المجتمع العشائري برمّته ، مهما اختلفت المذاهب ، والأمكنة . فنراه يشير ، مثلا ، الى الخسارة الكبيرة التي مني بها الجيش العربي في معركة (ميسلون) الشهيرة التي وقعت بتاريخ 24 / 7 / 1920 ، ولكن (ممّا يحزّ في النفس أنّ أهل القرى الواقعة بين ميسلون ، والمزّة ، انثالوا على الجنود المنسحبين ، ينهبونهم) ، كما (أبدى بعض مشايخ البدو شيئا من الخسّة عقب المعركة ، فأحدهم كان قد تسلّم من خزينة الجيش العربي قبيل معركة ميسلون خمسمائة جنيه ؛ لكي يستعين بها على قتال الفرنسيين ، ولكنّه لم يكد يلمح الجيش العربي مهزوما حتى انثال ، هو وأتباعه على الجنود المنسحبين يسلبون سلاحهم ، ومتاعهم) (لمحات ، ملحق الجزء السادس ، ص 162 -163) . وينقل عن (حافظ وهبه) قوله ، والوردي متّفق معه ، ما نصه : (--- ولكنّ البادية لا تعرف غير السلب ، والنهب . وعندها الغنيمة مقدّمة على كلّ شيء --- والبدوي اذا لم يجد سلطة تردعه ، أو تضرب على يده ، يرى من حقّه نهب الغادي ، والرائح . فالحقّ عنده هو القوة يخضع لها ، ويخضع (بضمّ الياء) غيره بها) (المصدر السابق ، ص 217) . ويشير الوردي ، في معرض حديثه عن الانكسارات التي حلّت بالجيش العثماني ، ومعه العشائر ، على يد الجيش البريطاني الذي احتلّ العراق في أثناء الحرب الأولى . أقول : يشير الوردي الى ما نحن فيه ، بقوله : (الواقع أنّ العشائر لم يقتصر نهبهم على الجنود الأتراك فقط ، بل تعدّوهم الى رجال الدين ، و (السادة) الذين كانوا يجاهدون معهم ، ولكنّهم كانوا ينهبونهم ، ويحترمونهم في آن واحد . وقد رويت في ذلك عدّة قصص طريفة --- ان الدافع الذي يدفع الفرد العشائري نحو هذا السلوك تجاه رجال دينه ، هو حبّه للنهب ، والغنيمة ، وهو يختلف في ذلك ، بعض الشيء ، عن سلوكه تجاه جنود الحكومة ، اذ هو كان ينهبهم تحت تأثير دافعين هما الانتقام ، والنهب معا) (المصدر السابق ، 4 / 182 – 183) . ولعلّ الوردي قد سبق محمد عابد الجابري في تشخيص هذا الوضع الاشكالي ، وكان أكثر دقّة ، وواقعية منه ، حين طرح الجابري ثلاثيته التي تحدّد العقل السياسي العربي، المكوّنة من العقيدة ، والقبيلة ، والغنيمة . لقد أصاب الوردي الصواب كلّه ، حين شخّص هذه الوشيجة المتينة بين (الدين) ، و (المجتمع) ، والحضور الطاغي للتقاليد العشائرية التي درجت عليها العشائر ، وتوظيفها ، حتّى ولو كانت الكثرة من هذه التقاليد مخالفة لأوامر الدين ، ونواهيه ، فأثر الدين يتوقّف بازاء هذه التقاليد . فان حصل ، وتواءم (الدين) مع بعض تلك (التقاليد) ، سارع الأفراد الى الباس تلك التقاليد لبوس الدين ، وهو لا يعدو أن يكون قشرة خارجية ، رقيقة ، لتظهر تلك التقاليد ، وهي مكلّلة بهالة من القدسية ، ومحاطة بأكاليل من النور.
وترتبط المسألة الثانية ارتباطا وثيقا بما سبق ، ولكن على نحو أوسع ، لا يشمل العشائر وحدها ، بل ينتظم الناس جميعهم . فنراه يشير في نصه الثاني الى أنّ ( الانسان بوجه عام ، لا يهتمّ بالدين كثيرا في حياته اليومية ، فهو قد اعتاد أن يخالف أوامر الدين ، ونواهيه في كلّ يوم ولا يبالي) . ويعمّق الوردي هذه الظاهرة في مواضع أخرى ، حين يتحدّث ، مثلا ، عن (الموقف السلبي الذي اتّخذه الكثيرون ازاء الوظيفة في بداية الاحتلال) البريطاني للعراق . يدفعهم الى هذا الاحجام عن الوظيفة الحكومية سبب معلن ، غير أنّه قشري ، هو رفض التعاون مع (الكفّار) ، غير أنّ الوردي يقدّم ثلاثة أسباب لذلك الموقف ، يهمّنا منها السبب الثالث ، وهو (ان الازدهار التجاري الذي عمّ الأسواق حينذاك ، جعل الكثير من الناس يفضّلون الكسب الحرّ على الوظيفة ، فقد انفتحت أبواب الرزق على مصراعيها أمام التجّار ، والزرّاع ، وأهل الحرف ، وغيرهم ، كما أشرنا اليه من قبل . ولو أنّ الأسواق كانت كاسدة ، لنسي الناس أمر الحلال ، والحرام ، وانثالوا على الوظيفة ينهلون منها نهلا على نحو ما فعلوا بعد مدّة غير طويلة من الزمن) (لمحات ، 4 / 359) . وفي نصّ آخر ، هو من أثمن النصوص بهذا الصدد ؛ لأنّ الوردي كتبه بجرأة نادرة ، وصراحة ، ومباشرة ، مع انصاف منهجي ، ليس غريبا عليه ، ثمّ أليس هو القائل ، في معرض تفرقته بين (الداعية) ، و (الباحث) : (--- يمكن تشبيه الداعية ، والباحث بالمحامي ، والقاضي في محكمة التاريخ ، فالمفروض في المحامي أن يتحيّز الى جانب موكّله ؛ لأنّ هناك محاميا آخر يتحيّز الى الجانب الثاني . أمّا القاضي ، فالمفروض فيه أن يكون محايدا بين الجانبين لكي يستطيع أن يدلي بعدئذ بحكمه العادل في القضية المعروضة عليه --- انّ بعض كتّابنا ، ومفكّرينا يخلطون بين الوظيفتين ، ويريدون أن يكون الانسان داعية ، وباحثا في آن واحد . وهذا فيما أظنّ ، كان من الأسباب التي أدّت بنا الى الوقوع في أخطاء التطرف مرة بعد مرة دون أن ننتفع من عبرة التاريخ) (لمحات ، 4 / 415) . هذا قبل نصف قرن تقريبا ، فكيف اليوم ؟ ونحن نعيش في مستنقع التطرف ، وردغة التّعصب . يكتب : (ان الانسان ، بوجه عام ، لا يفهم من الدين سوى الجانب الذي ينتفع منه ، أو يتصّور أنّه ينتفع منه . فهو لا يهتمّ الاّ بالأمور الاعتقادية ، والتعبّدية من الدين ؛ لأنّها تعطيه السلوى ، وتسبغ عليه الطمأنينة تجاه أخطار الحياة ، ومستقبلها الغامض . أمّا الجانب الأخلاقي من الدين ، وهو الجانب الذي يخصّ علاقات الناس بعضهم ببعض ، والتضحية في سبيل الغير ، فالانسان لا يهتمّ به الاّ على نطاق ما يلائم مصلحته ، أو يرفع مكانته بين الناس . ان الانسان ميّال بطبعه الى تفضيل الجزاء العاجل على الجزاء الآجل . وقد خبرنا البشر منذ آلاف السنين ، فوجدناهم يهتمّون بجزاء الدنيا أكثر من اهتمامهم بجزاء الآخرة ، أمّا الذين يشذّون في سلوكهم عن ذلك ، فهم قليلون جدّا ، وهؤلاء لا يمثّلون القاعدة العامة ، بل يمثّلون الاستثناء ، ولكلّ قاعدة شذوذ كما لا يخفى) (لمحات ، 4 / 404) . ونجد مصداق ما رصده الوردي في الرسالة التي كتبها الشيخ فتح الله الأصفهاني الى وكيله في مدينة الناصرية ، الشيخ عبد الحسين مطر ، والشيخ الأصفهاني قد تولّى المرجعية الدينية في النجف بعد وفاة الشيرازي . كتب الأصفهاني ، حاثّا وكيله ، ومعه الناس على النهوض بواجبهم في مساعدة ثوّار ثورة العشرين : (--- تجمع كلمة الرؤوساء ، والمرؤوسين . تنصحهم ، وتحثّهم ، وترغّبهم (وأنت محاذر غير آمن) ؛ لأنّهم ، كما تعلم ، قد ملئت بطونهم ، وأكثرهم يؤثر الدنيا على الدين) ، ويضيف : (--- أمّا قريبك ، ورحمك من أهل البلدة ، وغيره من أصحابك من التجّار ، تبلّغهم أنّ اليوم هو اليوم الذي يكون فيه دفع الحقوق فيه من أهمّ الفروض اللازمة ، وأكمل القربات المحتومة . أقول هذا ، مع علمي بأنّ الناس لا خير فيهم اذا مسّ الدين دنياهم) (لمحات ، الجزء الخامس ، القسم الثاني ص78) . والنصان غير محتاجين الى تعليق ، وخصوصا أنّهما صادران عن مرجع ديني ، له مكانته ، واعتباره . ولم يفت الوردي، بعد ما تقدّم كلّه ، أن يستشهد بقولة الحسين بن علي ، ذات المدلولات العميقة ، وهي : (الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق (بفتح العين) على ألسنتهم ، يحوطونه ما درّت معايشهم ، فاذا محّصوا (بضم الميم) بالبلاء ، قلّ الديّانون ) (لمحات ، 4 / 405) . وكأنّ هذه القولة تحوصل ، على تعبير اخواننا المغاربة ، ذاك الذي مرّ من أنّ الانسان لا يهمّه سوى مصلحته ، ومنافعه ، لا يختلف في هذا ، ابن العشيرة عن ابن المدينة . فان حقّق له (الدين) شيئا منها ، فبها ، وان وقع الضدّ من ذلك ، نحّى (الدين) الى مكان محترم ، وتعامل بواقعية باردة مع ما حوله ، ولعلّ هذه (الواقعية) تكون عقيدة أخرى ، أو مبدأ مثاليا يرتضيه لنفسه ، فهذا ما لا بدّ منه ، لكي يبرّر أفعاله ، فالانسان مخلوق مبرّر على مستوى عال ، ولهذا حديث آخر .

للراغبين الأطلاع على الجزء الأول:

https://algardenia.com/maqalat/39137-2019-02-21-17-13-10.html

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

657 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع