هكذا تفعل الأوحال

                                              

                               مشعل السديري

أبدأ مقالي اليوم بهذه الحكمة التي جاء فيها: أن تصل متأخرا، أفضل من أنك لن تصل أبدا.

وهذا هو ما انطبق على رجل صيني أخذ يحكي عن حياته ومعاناته وتجربته ويقول: «إنني أنتمي إلى أسرة فقيرة كادحة، فقد حرثت وغرست وحملت روث البهائم لإخصاب الأرض. وأذكر أنني كنت أركع في حقول الرز والوحل يغمر فخذيّ ولا شيء يحميني سوى القبعة والقميص والسروال القصير، وكان الوحل ينتثر على أنحاء جسدي رطبا ودبقا ووسخا، وعندما يدخل عيني ويقع على شفتي كنت أقف وأبحث عن إبريق الشاي المليء بالماء وأحاول غسله، فلا أتخلص منه إلا بعد صراع طويل.

عندئذ كانت الشمس تلسع ظهري المقوس فأشعر كأنني قالب حلوى ساخن التصق بوعاء معدني، وكانت المياه المتبخرة من حقول الرز تهب على وجهي ومنخري، وبين العاشرة صباحا والرابعة أو الخامسة بعد الظهر تختفي كل نسمة هواء، فيسيل العرق كالجداول الصغيرة على جسدي راسما خطوطا على يديّ وقدميّ المغلفة بالوحل، فأشعر كأن القمل يزحف عليّ، وعندما تقع نقطة عرق في عيني كانت تثير الدموع لكنني لم أبكِ، إذ كنت أعلم أن البكاء سيطلق العنان لدموع الأسى على عائلتي الفقيرة، ولكي أمنع العرق من الجريان داخل عيني كنت أبقي وجهي منخفضا ما أمكن. وكنت أقول لنفسي: تحلَّ بالصبر يا ولد، فما الفائدة من ندب حظك؟!

وهكذا يحتل نوع من الكبرياء موضع الجرح داخلي، فأحاول جمع شتاتي وأتابع الزحف.

وكنت أتساءل: لماذا يكون في هذا العالم أناس يجهلون معنى الكدح وآخرون مثلي يكدحون منذ نعومة أظافرهم موسما بعد موسم وسنة بعد سنة؟! لماذا يجلس بعضهم قرب المراوح الكهربائية أو في الغرف المكيفة وأنا ألهث وأعرق تحت الشمس الحارقة؟! لماذا هناك وحل ولا شيء سوى الوحل أمامي؟!» - انتهى.

وفي لحظة غير متوقعة، وبعد هذا التساؤل المضني، أفاق على نفسه وكأنه اكتشف اكتشافا خطيرا، فقرر أن يتعلم مهما كانت الظروف قاسية، ودخل المدرسة وكان أكبر سنا من زملائه بالفصل.

أخذ يعمل بالنهار ويدرس بالليل ولا ينام أكثر من أربع ساعات في الـ(24) ساعة، إلى أن أصبح أشبه ما يكون بالهيكل العظمي، وكثيرا ما سقط مغمى عليه في الحقل، وأنهى دراسته الثانوية بتفوق، وحصل على منحة دراسية في أميركا، وبعد عدة أعوام تخرج مع مرتبة الشرف الأولى.

ورجع إلى بلاده (تايوان)، وأصبح عميدا لكلية الآداب في جامعة (تشانغ هيسنغ)، وبعدها تقلد منصبا وزاريا.

هكذا تفعل الأوحال ببعض الناس، فبعضهم تصقلهم، وبعضهم تدفنهم، ولا عزاء للأغبياء البلداء.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

580 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع