بانوراما عراقية قبل الحرب

                                                                                     

                          الطاف عبد الحميد

الرابع عشر من تموز 1958  تسعة سنوات ..جل عمري..واقفا ومتفرجا على جمهرة من الناس تتداعى فوق بعضها بهستيرية وصياح وتدافع.. الايدي ..الارجل ..

تدفع تركل بكل اتجاه وبعضها بسكين او فأس يقطع من جسد انسان مشوي اطفئت النار عنه بعد أن اشعلت فيه ميتا ، أحدهم ينفصل عن الكتلة البشرية المتداعية يندفع عنهم بعيدا رافعا يديه الى اعلى وفي يمينه سكين مغروسة بيد بشرية معقوفة الاصابع كنصف دجاجة مشوية:كانت تلك اليد هي يد رئيس وزراء العراق( نوري السعيد)...هي الثورة هذا ماكان خالي يردده ..خالي كان فرحا مستبشرا مع شلة من اصدقائه  المنفلتة من الضوابط الطبيعية الانسانية ، يضحكون ،  يتدافعون ، يتعانقون..لاصوت يعلو على صوت الثورة..احدهم يصيح من بعيد : قتلوا العائلة المالكة .. قتل الملك.. مات الملك :هم قتلوا طفولتي أنا لم اكن سعيدا ولاأعرف ماذا تعني الثورة ..ولكني كنت اعرف أن الشخص الذي كان يهتف بهستيريا مبتهجا يحمل يد انسان ميت استاصلت من جسده أمامي هو نفسه الذي استأصل طفولتي وفيما بعد عرفت أن خالي كان غبيا وانا لاانتمي اليه بثورته الحمراء ولم يكن يملك فكرا متفكرا..امي قالت لي انها بكت والعراقيين جميعا في عام 1939 عندما قتل والده الملك (غازي) بحادث سيارة مشبوه..يبكون لمقتل الاب ويقتلون الابن ..هي الثورة التي أصلت في ذاكرتي كره العنف وتبنيت منذ ذلك التاريخ استراتيجية اللاعنف وكره الثورات والثائرين والانقلابيين والقاتل والقتل والهتاف والصياح والتجمهر والايدلوجيات والجمهوريات المتقاتلة وشهادات الدكتوراه الفخرية ووزراء التوريث وكل من كان في غير مكانه وتزامن مع زمن غير زمانه..طفولتي رسمت شيخوختي وعلمتني انه لاعمران يستقيم فوق الجماجم البشرية
هدير سرف الدبابات يتتابع في الشارع ..لم اشاهد دبابة من قبل لقد كانت مرعبة زلزلت الارض تحت اقدامي.. لم اكن أعرف (نوري السعيد ) ولكني كنت أعرف الملك ( فيصل الثاني) خلال حفل افتتاح جسر الحرية في مدينة الموصل عام 1955 حيث زينوا الارصفة التي سيمر بها الملك بالاطفال من المدارس الابتدائية وكنت احدهم في حينه..تأخر الملك  وغادرت المكان الى البيت ..لم ارى الملك ولم يراني
الله اكبر الله اكبر ...نشيد الله اكبر يصدح في كل مكان  وبعد كل بيان ..النشيد كان ثورة يتفوق بقوته على قوة الثورة .(عبد الكريم قاسم ) هو الزعيم ، هو الثائر الاول ،  استبدل العراقيون مليكهم بزعيم لاينتمي لاصول ملكية ..لايهم فالملوك فاسدون مفسدون يتوارثون الملك والبلاد والعباد بقبول عقلي بشري متخلف..الملكية لاتستهويني الا اذا وافق الملك ان يزوج بناته او اولاده لمن لاينتمون لعوائل ملكية وأن لايورثوا اولادهم الاغبياء الملك من بعدهم لينقاد العلماء والمفكرين لعقول صبيانية كل مؤهلاتها فاسدة
انطوت حقبة زمنية امتدت منذ استقلال العراق 1921 ..نحن في عصر الجمهورية الاولى ..ومبررات الثورة تقبلها الشعب نكاية ببريطانيا المتحكمة بشؤون العراق منذ سقوط الامبراطورية العثمانية او الانتصار لحركة ( رشيد عالي الكيلاني) الانقلابية عام 1941 بتأييد الزعيم النازي (هتلر) او استذكار اذاعة (يونس بحري) التي تبث من (برلين) لنصرة الحركة ...نحن في عصر الجمهورية الاولى وزعيمها (عبد الكريم قاسم) وزعيمها الرديف (عبد السلام عارف )..لايهم فقد كانت  الثورة الحمراء محدودة  بأيامها وتداعياتها  
وضحاياها.. اجتث الثوار من تاريخ العراق ، النظام الملكي غير المتجذر في ضمائر العراقيين لانه كان اقرب الى بريطانيا المستعمرالى العراق ألمتهيكل في سيادته..برامج التنمية في العراق تخطو الى امام ولاح للناس بشير عهد مزدهر وامتلك السياسيون زمام امرهم واصبح العراق عراق لاول مرة  ، سيد يرفض التسيد عليه ..لاشرقية ولاغربية تؤرجحه ...في العراق سيدان لاثالث لهما الفقر المدقع والغنى الفاحش لامكانا وسطيا للطبقة الوسطى والفارق بينهما فارقا فلكيا حيث يسود الاقطاع وذوي الدماء الزرقاء ..الثورة تختار الاشتراكية لاشراك الناس فيما تنتجه ارضهم ولايستطيعون شراءه ودفع ثمنه  ، الجمهورية الوليدة تأدلجت باشتراكية عراقية ، واصبحت البنت الشرعية للشيوعية ولكن لاقبح فيها ، تؤسس بين مواطنيها  الطبقة التي لايقرها الغرب وهي الطبقة الوسطى..الحرب الباردة سائدة عاملة تعمل بمشروع (مارشالها) الشهير وتعمل على تسخين كل بارد في دول العالم الثالث التي نشزت عن الاستضلال تحت قبة الاستعمارالتي احتوت مستعمراته كي لا ينفك الفقر اللصيق بها وتتعلم وتتحرر ..العراق ينهي سباته الاستعماري يحتضنه جمال عبد الناصر و( كارل ماركس) و(لينين) و(خروتشوف )ويحاول قمقمته مجداا (ادم سمث) بمطرقة الامبريالية ..من هذا وذاك استولد الصراع المتصارعين على حلبة العراق العريق...ولدت الشيوعية بعد ان كان مؤسسها( فهد )عقيما وإنتعشت القومية الساعية الى توحيد العرب بدولة واحدة ، والرجعية التي تريد العودة بعد هيكلة الملكية لترميم الاطلال...اتجاهات مختلفة اهدافها  ضبابية منفصلة عن الواقع لاتهدف لهدف قابل للتحقيق..كثير من الناس تجنسوا بجنسية الاحزاب ، تجنس الاخوة بأنتماءات مختلفة ووصل الاختلاف حدودا لاحد له ولولا سلطة مجلس الابوين في العائلة لاقتتل الاخوة في الدار الواحدة
توالت الاحداث..صغيرها والكبير فيها ..  العقيد ( عبد الوهاب الشواف ) يعلن تمرده في الموصل ممهدا لانقلاب لم تستكمل مستلزماته..لكنه قتل بجهله بحدود القوة والاستقواء فكان من حركته أن استلهم العراقيين سبيل القتل والتقتيل لاجبار الاخرين على ما لايرغبون به وامست مادة اولى في دستورهم..تلا ذلك تعرض ( الزعيم عبد الكريم) لمحاولة اغتيال محكمة في رشيد بغداد..نجت الجمهورية الاولى بنجاة قائدها الاوحد ...لكن الزعيم بنى جمهوريته على الفطرة وحسن الظن وتجنب انشاء النظام البوليسي الذي يحميه من المتربصين به من مخالفيه. 1963عبد السلام عارف رديف الثورة يزيح رجل الثورة الاول بمساندة من القوميين والبعثيين الذين ازروه في صراعه مذ نجحت ثورته الاولى ويحاكم مع انصاره وشركائه (زعيمهم الاوحد ) باقصر محاكمة في التاريخ تضمنت ثلاثة جمل أوأقل ليقتل وفق دستور القتل الذي لايرحم الثورة تأكل رجالها...تصحيح لمسار الانقلاب او الثورة الجديدة او الجمهورية الثانية وما تلا ذلك من قتل القتلة او غيرهم ممن لم يقتل.. الجمهورية الثانية جمهورية قومية عربية حتى النخاع ..خطوطها برسم اتجاهاتها كانت ضبابية ..تاهت وأتاهت  في طفولتها العقلية والزمانية ..وخاصة بعد موت مؤسسها( عبد السلام عارف ) بحادث طائرة هليكوبتر في البصرة في 13 نيسان 1966...تقبل الشعب ان يشغل أخيه (عبد الرحمن عارف) منصب الرئيس..الرجل الزاهد المسالم
لتهدأ عواصف الثورات اوالانقلابات ..لكنه فقد منصبه وجمهوريته فالرجل لم تكن السياسة جلبابا من مقاسه فما كان فيها غير مافيه من مكر ودهاء وتحسب ، وكأنه لم يقرأ كتابا واحدا عن الحكم والحكام والامارات والجمهوريات والامبراطوريات وسيادتها وزوالها ونصائح ( ميكافيلي) الوزير بكتابه (الامير) للامير ..السابع عشر من تموز1968 ابرز الاحداث وأكثرها تغييرا في البنية العراقية مذ خلق الله الخليقة وخلق العراق بعد ان سكنت ثورة الارض التي تفجرت لتصنع العالم الذي يحوي عراقنا فيه.. الثورة اتخذت لها استراتيجية من تراكم استراتيجيات فاشلة وطرزت دستورها بعبارة (جئنا لنبقى) سراجا لعملها الذي استمر حتى عام 2003..ازاحت كل المعارضين ..لاثاني لاول الا الاول وخلا ذلك غير محمود وخطير.. الجمهورية استقوت وقويت وتماسكت وأدلجت سكان الارض وسكان السماء وجيشت الذكور في بطون الحوامل قبل الولادة وامسكت بحدود العراق من حدوده الى حدوده ومابينها واطلقت على كل ذي اسم مسمى جديدا باختياره ان شاء أو رغم عنه واستوى العراق على خارطته بعد ان استوعب دروس الفوضى السابقة وانقشعت اخطاءه متخذا للشعب  مسارا مرسومة خطوط السير عليه
للعامة والخاصة لاحيدان عنها ، لينتمي الى جمهورية العراق الثالثة...حرب عام 1967 لازالت تلقي بظلالها السميك على العرب العاربة والمستعربة..العرب استثقلوا نير الهزيمة وعار الاحتلال وزهو الجنرالات الاسرائليين بالاحتفال بنصرهم وهزيمة العرب ، كل عام  ، لاعار يستعار منه كمثله ، من مثله لامة تسعى  لاستعادة مجد مندثر حطمته جحافل (هولاكو) الهمجية وغباء (المستعصم) وضعف حيلته  وتدبيره وعدم نفاذ البصيرة في مسلسل الصراع العربي على السلطة مذ نطق قحطان العرب وعدنانها ونزارها بأول حروف الهجاء العربية في يمن الفقر والقات والتقوت باللاقوت والتشبع جوعا والتخندق في جحور التخلف حيث لاتجد للتاريخ بين قديمهم وحاضرهم فاصلة حضارية  مكبوسين بقوة بمكابس القبيلة والقبلية يحسبون الجهل دينا الحيد عنه انحراف عن كل فضيلة ومدخل الى النبذ الجماعي ، وفي السادس  
من إكتوبر 1973 طوى العرب تاريخا مذلا لهم استمر منذ عام 1948 مع الاسرائيليين الذي كانوا يعتبرون قتالنا  نزهة او تمرينا بقطعات لاخسائر فيه مستندا على الغربيين المؤيدين لتقتيلنا ان صرحنا بعفونتهم او تشخيص النتانة فيهم  اوالعيش مع الخضوع والتخلف وعسرة الحياة ..لكن اسرائيل للعارفين بها بعدها تحجمت وأصبحت متقوقعة داخل حدود مجهرية وتخلت كارهة عن حلم بات مستحيلا بدولة بين نيل مصر وفرات العراق .. هو عصر العرب.. تضاعفت اسعار النفط واغرقت الدول النفطية بالاموال الواردة اليها  .. عصر لم يعاصر العرب له مثيلا دانت الدنيا فيه لهم واصبح الغرب الاستعماري الممسك بخيوط  مسرح الاقتصاد العربي لايجيد تحريك الدمى  بيديه بعد ان انفلتت منه خيوط تحريكها ..انزوى خارجا حاسدا متألما ومهزوما ويدفع كارها ليسدد فاتورة النفط الرخيص بالسعر الغالي... العراق ينفذ خطته الانفجارية مندفعا متفجرا كخطوط خطته الطموحة...ينمو يشمخ تتصاعد ابنيته الى اعلى وتكتسي شوارعه الطينية بالاسفلت الاسود مزيلة سواد التخلف ويقيم النهران فيه اعراسه تحت الجسور العملاقة المشيدة حديثا وبدأ النور المنير يسيح الى كل قرية اختنقت بظلام الانتظار والصبر...العراق يستقدم العمالة الاجنبية  ليسد نقص اليد العاملة كي تتلاحق المشاريع ضمن وتيرة سقوفها الزمنية..شيدت المدارس والجامعات وتعددت كلياتها وازدهرت وتنوعت معارفها وازداد عديد طالبي العلم لقد حل الزمن الجميل (الزمن الذي ابكانا فرحا ) ففي كل بيت دخلت الثلاجات والطباخات والمدافىء والتلفزيونات الملونة والمبردات والسيارات الحديثة ذات الجودة العالية ..تدفق لامثيل له من البضائع مع القدرة على الشراء ..العراقيون على الطريق الصحيح ينفضون عنهم جلاميد الفقر الجاثمة فوق صدورهم لعقود طويلة ..تخلوا عن ارتداء الملابس الملبوسة  حيث استبدلت بالملابس الصينية  الرخيصة الثمن وعالية الجودة مدعومة من الدولة التي بدت عارفة بعللها وعلتها والتعالي عليها
لتعمل على الخروج الى عالم لانكون في عالمه الثالث على الاقل ..الناس تلبس تضحك تتنزه في المتنزهات وتدخل حديقة الحيوانات التي تحيونت بحيوانات لم تكن موجودة والاسواق المركزية التي تناثرت على المحافظات كافة تبيع للناس ماحرموا منه جل اعمارهم مودعين (اورزدي باك) الشهير في شارع الرشيد الذي كان رواده لاينتمون للااكثرية ...وبغداد يتداعى عليها العراقيون ليروا عاصمتهم زائرين  لشارع الرشيد الطويل حيث كانت الناس تسيح فيه من جنوبه الى شماله او الى جنوبه من شماله من شاء دخل الى احدى دور العرض السينمائي كسينما (الخيام) ذات الكراسي المنزلقة قرمزية اللون والفارهة ليشاهد احدث افلامها ، او يتناول وجبة فلافل مع الحمص بطحينة اويدخل سينما (النجوم) الشعبية التي تعرض فلم سنكام الهندي والذي يستغرق عرضه ستة ساعات والمعروض لاكثر من عام مستمطرا دموع المشاهدين المتفاعلين مع دراما حب بين صديقين في الفيلم..او يشتري كتاب من العربات المحاذية للرصيف ... الكتب ذات الطبعات اللبنانية والمتجاوزة لحقوق النشر وزهيدة الثمن ككتاب الارض الطيبة ( لبيرل باك) والنظارة السوداء (لاحسان عبد القدوس )اوقصة مدينتين( لتشالزديكنز) او النظرات( للمنفولطي ) اوذهب مع الريح ( لمارغريت ميتشل) ولتستذكر من خلال القصة بطلته (سكارلت اوهارا) والفيلم الذي حطم الارقام القياسية لسنين طويلة ولتبحر في الرومانسية التي لم نعد نستسيغها حاليا للفساد والافساد الذي تقمصنا فيما بعد نتيجة التتابع للحروب ،  أوتتطلع الى المحلات التي تعرض البضاعة كالالبسة واربطة العنق المتغيرة حسب السنين مستظلا تحت سقوف الابنية المحمولة فوق اعمدة شارع الرشيد التراثية الشهيرة من حر بغداد وصيفها الطويل وامطارها في شتائها القصير..وقد تستوقفك المقهى (البرازيلية) الشهيرة فتنظر من خلال زجاجها الى روادها من الدارسين والمتنكهين برائحة القهوة البرازيلية الاشهر..او تتوقف لتناول لفة همبركر من مطعم( ابو يونان ) او تعرج الى (عبد الستار الباكستاني ) اشهر خياطي العراق للبدلات العسكرية اذا كنت من ضباط الجيش العراقي ..او تختار وجبة دسمة وشهيرة فتنزلق الى مطعم (ابن سمين ) المسمن لكل رشيقي القوام اوتدخل الى (اورزدي باك ) لتشتري مالاتحتاجه تحت ضغط الاغراء السعري والجمالي للمعروض من البضائع وسط زحام شديد من المتبضعين  الذين الهبت براميل النفط الغالية جيوبهم والهبت النار في صدور الغربيين الذين تعودوا على سرقة النفط الغالي  بالسعر الرخيص ليزدادوا بفقرنا غنى وقد يستوقفك إن كنت من محبي الشعر شاعر العراق ( معروف الرصافي) بتمثاله المحدق باتجاه كرخ بغداد عبر جسر الشهداء وكأنه يقول ماقاله سابقا (علم ودستور ومجلس امة   كل عن المعنى الصحيح محرف )  وقرب الميدان تسمع السيدة ( ام كلثوم ) ينبعث صوتها من خلال المقهى المعروف بأسمها وصاحبها العاشق لها (عبد المعين الموصلي) والذي نقل مقهاه من الموصل الى بغداد واستذكر طلبي منه عندما كنت ارتاد المقهى بأن يسمعني اغنية ( حبيبي يسعد اوقاته) والاغنية شهيرة بمقطعها المفرح الذي تقول فيه (الليلة عيد عالدنيا سعيد ) ويجهل الناس بقية المقطع الذي اذا اكتمل يكون (الليلة عيد عالدنيا سعيد عز وتمجيد لك يامليكي ) ومليكها كان (الملك فاروق) والاغنية مغناة له في عيد زواجه وكنت استنكر حذف عبارة ( لك يامليكي ) من الاغنية في الاذاعات العربية كافة  ولااعرف السبب الا ان يكون احتجاجا على حجب حقيقة مجهرية لاتقديم ولاتأخير فيها علينا ولكنها النرجسية القيادية للعرب المستأثرة لها بكل تمجيد وثناء  متخذين من الانقلاب انقلابا لايكون  مكتمل الاوصاف الامن خلال الاقصاء ..يكفي فشل الانقلاب لكي يقتل القائمون به واذا نجح الانقلاب اصبح القائمون به ابطالا تبادل للادوار محكم ..رمادية الالوان بين لونيه الابيض والاسود غيرمكتشفة في عالم العرب الانقلابي ..حتى ان الشعب اعتاد ان يكافىء المنتصر بدون ان يحقق في اخفاق المنتصرعليه كصراع الديوك ..الديك القاتل افضل من الديك المقتول ، والديك القاتل لم يقتل الا مرغما بحبس فطرته السليمة وتلويثها بالجراثيم البشرية القاتلة ..حتى في صراع الديوك.. شاهدت مرة ديكان رفضا القتال امام المراهنين عليهما وكأني اسمعهما يتحاوران واحتفظ بذاكرتي لما دار بينهما من حوار
قال الديك للديك : لما تقاتلني كقاتل ابيك
رد الديك على الديك: لاعليك
النصر خسارة لاحدنا ، مرة لي ومرة عليك
لاعليك : داوي جروحي واداويك
رحم الله الديكان
ديكان على مائدة الطعام
ولم يعد حيا من الديكان ديك
 وفي( الباب المعظم )غابة متحركة حمراء من الباصات ذات الطابقين الانكليزية تدخل وتسيح باعداد لاحصر لها تأتي بهولاء وتأخذ اولئك لتطبع الحياة البغدادية بتراكمها الحضاري الجميل ..ومبنى وزارة الدفاع العراقية العريق ببناءه المعماري التراثي الجميل والذي تناوب الانقلابيون على قصفه او تسويره بالدبابات لمساندة انقلاب اوألتحسب من مؤامرة أو رد انقلاب محتمل... وفي المساء ينام رشيد بغداد وتبقى اعمدته في انتظار فجر يوم جديد بينما تدب الحياة في شارع ( السعدون) الشهير  وساحة التحرير ونصبها الخالد (نصب الحرية ) الذي احترمه العراقيون كعمل ابداعي انساني متجرد من الطائفية المقيتة المفرقة لكل جمع جمعته الجغرافية والمصير الواحد أوالدين تماما كتمثال (الرصافي) و(السياب )و(السعدون )و(كهرمانة) و(شهريار) تماثيل لاتنتمي لطائفة اومذهب اودين او قومية  او حزب وتطالعك على الجانب الاخر النشرة الضوئية للاخبار -الاعجوبة في سبعينات قرننا المنصرم- ترى من خلالها اخبار لاتعنينا غالبا فالاستقرار حل في عراقنا ولفنا العيش الرغيد بجلباب الامان ، ولم تعلق على جدرانه معلقات الاحزاب والكتل المتكتلة على تصغير كتلة العراق الكبير او نشر نقائضهم التي لاتنتهي ..ولانفق لها ليلوح لنا من خلاله بصيص ضوء في نهايته التي لانهاية لها..هي الازاحة والاقتناء والاقصاء  والافناء...وفي (كيت كات) يمكنك ان تلج بداخله لتطفىء لهيب الصيف  البغدادي بتناول الدوندرمة الشهيرة اوتجتاز الشارع لتناول وجبة غذاء فاخرة ومعروفة من المطعم البغدادي المعروف ( تاجران) او تجلس في المقهى البغدادي الشعبي المقابل ( للشارع المشجر) المؤثث بالقنفات الخشبية المحصرنة بخوص النخيل المنسوج الذي يبعث رائحة نخيل العراق المتفوقة على تفوق المسك مستعرضا كل العراقيين بذكوره واناثه وجمال الجميلات فيه طويلهم والقصير انيقهم ورث الهندام فيهم ، اوسينما (النصر) العريقة بتقاليدها الصارمة وجودة الافلام التي تقدمها لمرتاديها و(بابل) المجاورة لها او سينما (سميرا ميس) الغاية في الحداثة والاناقة والرفاهية والتي تقابلك في ايوانها العربة البابلية بخيولها ومجدها الغابر المغيض لكارهينا الرافضين لسمونا ..تنافس رائع في الرقي والجودة .. او تسكن احد فنادقها الجميلة وتمر مستظلا من تحت مبنى الجندي المجهول الذي تم هدمه وانشاء غيره ،  والكرادتين داخلها وخارجها وتنوع التنوع فيهما وبغدادياتها العريقة الملامسة للعواطف الجياشة او السمك المسكوف المأكول حيا في شارعه الشهير( ابي نواس) ومنصور المنصور (ابي جعفر) المتعالي على بقية شوارع بغداد زهوا وغنى.. ومشاهدة التلفزيون ذو القناة الواحدة التي اثرتنا بالتمثيليات واضحكتنا مقالب (عبوسي) في ( تحت موس الحلاق) ..شعب جميل بتطوره الحضاري التراكمي والعقلي حيث العيش المنسجم بين عالي الشأن والعزيز فيه مع فقيره القانع وغنيه الشاكر لاترى لهذا على ذاك سلطان ولا لذي سلطان سلطان التسلط ..الكل عاش على ضفاف دجلتها  بكرخها ورصافتها ( كاظمها) و(المعظم ) فيها لايختلف العراقيون ابدا فقد كانوا متفقين على جودة (باجة ابن طوبان) وحلويات( نعوش )او شربت زبيب (زبالة )اوبيرة( فريدة )التي تملأ مناضد البارات  المنتشرة والمتزاحمة فقد تجد بين البار والبار بار وترى من خلالها الشباب المتقابلين تحجز احدهما عن الاخر غابة من القناني الفارغة ..كل الشاربين محلقين في عوالم لا قيس فيها ولا ليلى ولا جميل ولا بثينة ولا احد يبكي اطلال (خولة )او يستمع الى( ابن زيدون ) عن (ولادة المستكفي) في اندلس العرب الكل منشغلا بليلاه  حتى كأني اسمع من يقول وراء كل شارب قصة  ..هو الخمر الذي يجعل العقل ضجيعا تغتصبه خمرة شاربيها لتوقف عمل العقل ولو عقلت عقولهم لما فعلت.. وفي الساعات المتأخرة من الليل ترى مالاتراه في نهارات بغداد حيث تتعالى الضحكات ويترنح الخارجون من البارات والملاهي يصادم احدهما الاخر فيضحكون ويضحكون غيرهم من المارة..
العراقيون تراكميون في عاداتهم وتاريخهم لاتكاره بينهم ولا طائفة تطفو لتغرق بقية الطوائف ، ماقبله مرتبطا بما بعده عادات توارثها الابناء من الاباء ونقلها الاجداد الى الاحفاد ..فقد استطاع العراقيون اختزال الهزات الارتدادية لزلازل انقلاباتهم المتعاقبة وانحسر تأثيرها بانقلابييها وغالبا مايسدل الستار بتصفية السابقين من قبل اللاحقين لتستمر حياة العراقيين وكأن شيئا مما حدث لم يحدث ..في بلدان بعيدة عنا متجاورة مع المحيطات او تساحلها تجتاحها الاعاصير والهزات الارضية المتعاقبة ولاعاصيرهم تسميات ومسميات شتى لها مواعيد  ومسالك ترصدها الاقمار الاصطناعية  تعمل على تخفيف اضرارها بتنبيه الناس للتحوط لها والاحاطة بها وبأضرارها ،عرفت لديهم فإما اشجار تقلع اوسقوف بيوت متطايرة او انقطاع للكهرباء او غرق الشوارع بالماء المنهمر بانهمار من السماء ولكنهم لم يستطيعوا الصمود امام (تسونامي ) او اعصار له قوة تفوق قوة الاعاصيرالمعهودة والمدجنة ، وكذلك هي اعاصير العراق التي تكونت من حسابات خاطئة لم تستطع العقول السياسية ادراك عواقبها   ..وفي سفينة نوحنا لازلنا مبحرين تتقاذفنا الامواج والماء لازال ينهمر والارض تفور ولاجودي في الافق البعيد لترسوا عليه الواحنا الواهنة والدسر على ارض جديدة مليئة باللامعروف لدينا من عظائم المكاره .. العقد السبعيني في سنته الاخيرة  عصر العراق الزاهي والمزهو بذاته وبجسوره ونهريه وعماراته  وقوة الشراء التي توطنت فيه والعراقيين الفرحين بخطوط العبور البيضاء التي تطرز الشوارع السوداء والاشارات التي تسمح وتمنع العابرين والراكبين  وشوارع بغداد النظيفة  التي نفت نفاياتها الى منفاها في مكباتها لتتجمل كما يكون الجمال والشعب أنسجم مع التحضر الحاضر في مدنه.. معمرا سلوكه مقتديا عن رضا بعد اخفاق طويل وبات قاب قوس من تسلق السلم الحضاري الى اعلى... زاد عديد نخيله وتنوعت ارطابه وتسيدت نخلته على اشجار الارض
وتسامر النائمون على سطوح منازلهم صيفا بانتظار صباحات جميلة باسمة...السادس عشر من تموز 1979 الرئيس الشيخ احمد حسن البكر يعلن تنحيه عن السلطة لنائبه راغبا عنها وراغبا بها ان تكون لنائبه
النائب كان رئيسا عندما كان نائبا  .. النائب الذي جال العراق من اقصاه الى ادناه واقصى من كان يروم اقصاءه  وصنع لنفسه قبولا ورضا ...رضي العراقيون بما لاخيار لهم فيه  تناول سلمي للسلطة بين الرئيس والرئيس ...الرئيس الجديد في محاكمة لاعضاء القيادة في عامه الاول اختار المؤيدين له ولم يعد لمعارضيه اوالمتأمرين عليه وجود ... والمتبقي ايران الشاهنشاهية التي أجبر العراق فيها على توقيع معاهدة الجزائر عام  1975 ووريثة المعاهدة هي الدولة الاسلامية الايرانية
المتفككة والضعيفة بعد ان عمل بها روبسبيرها( خلخالي) ماعمل( روبسبير) برجالات( لويسهم )وحسناءهم( ماري انطوانيت) في باريس فرنسا...الجيش يتلقى الاوامر المتتالية ويجري تمارين بقطعات بمستوى فوج ولواء وفرقة تمارين متسارعة هجومية لادروس مستنبطة او تحليل لها بعد انتهائها.. الجيش الذي خبرت بعض تشكيلاته الحروب الكبيرة كالقطعات التي اشتركت في حرب 1973 في سوريا والتي انتهت خلال ايام والجيش الذي اعتاد حالات الانذار( ج) خلال مسيرته الطويلة عند سفر الرئيس او توقع مؤامرة او انقلاب اوحدوث فيضان  وغالبا ماينتهي الانذار على خير وتعود الى طبيعتها القطعات المنذرة ..حتى ان الانذار( ج) لم يكن مؤديا قط الى حرب لصد خطر محيق بحدود العراق طيلة عقود عدا حالات المشاركة الوطنية في الحروب القومية عامي 1967 و1973...في كل الاتفاقيات الحربية او الناتجة عن صراع تكون بنود المعاهدة مرأة للطرفين فمن قراءتها يتبسط لقارئها معرفة الممحون فيها والمالي لشروطه عليها ... وشط العرب واسلوب التعاهد على استخدامه من قبل بريطانيا بين البلدين كان كمينا معدا للتصارع  جر الطرفين اليه  ..ماحدث كان سيحدث وانتهى الامر الى مانحن بصدده .. الغيت اتفاقية الجزائر ببيان عراقي يوم 17 ايلول وشرعت القطعات العراقية بالتحرك الى الحدود الايرانية من اقصى العراق الى اقصاه  واشرقت شمس يوم 22 ايلول 1980 على مالاندري ...لتلقى الاوامر النهائية ظهر نفس اليوم  الى القطعات العسكرية العراقية باجتياح الاراضي الايرانية في اول يوم حرب شاملة كاملة واضحة المعالم للجيش العراقي منذ تأسيسه عام 1921   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1247 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع