الكهل والمقبرة

                                                  

                     سيف شمس الدين الالوسي

الكهل والمقبرة
بروكسل
23/06/2018

ذلك الأب الحنون قد أصبح مصدر إزعاج لأولاده، ذلك الجسد التسعيني الهرم أشبه بأطلال بعلبك، قد شوهته السنون وأنهكته أعوام التعرية تلك حتى اصبح ذاوياً لا يختلف عن خريف قد فقدت أشجاره أوراقها الخضراء وهجرتها الطيور المهاجرة معلنة اِنتهاء فصلها.
في ذلك القفص الذي يقبع فيه داخل حنينه الى الماضي وخوفه من مستقبل لا يقل وحشة عن حاضره، تنفس عميقاً بحجرته التي تفوح نتانة من الرطوبة جسده المهمل ورائحة دوائه وآثار تبغه الذي اقلع عنه بعدما منع من عدم اللجوء اليه مرة اخرى حفاظاً على شرايينه المتهرئة التي باتت اتشبه بمجاري البتاوين وخضر الياس والشواكة.
أي ماض ينشده، هل فترة معاركه المستمرة كونه ولد بأرض كتبت عليها لعنة الحروب، أم سنين أسره في إيران وما تلاها من حروب كثيرة، الابوكاليبس تقبع في صدره حتى اصبح جعبة رصاص لا تنضب.
في تلك الغرفة المهملة مستذكراً مهده وقبره في آن واحد، لم يعد ذلك الشاب الذي كان يقضي فترة اجازاته في الحانات الليلية مصطحباً معه أحدى الغانيات لينسى هول دوي القصف في ساحة لم يعرفها من قبل وعلى ارض لم يشأ أن تكون لأسلافه. تمنى لو كان مسخ كافكا ليجلس على سقف غرفته متدلياً عالنا للعالم أسره إننا لسنى سوى صراصير. هذا العالم المليء بالحروب قد آل الى تنين متوحش يفترس كل ما حلوه.
يوشك ذلك المسخ على القبض بكيس تبغه ليشمه للمرة الاخيرة لكنه يعدل عن تلك الفكرة المجنونة، يا ترى ما الذي يرجوه لكي يحافظ على صحته التي اكلتها ارضة العمر ولم تترك له إلا آثاراً يصعب معرفة حضارتها. لا أحد من حوله ليكلمه ليخبره ما حل بسفينته الشراعية، لا احد بقربه ليبحث له عن تلك الاشرعة التي مزقتها هجمات قراصنة الاعوام. كيف يجرؤ على تناول دواءه الذي لم يعد له أي منفعة.
يغضب ذلك الشيخ من عزلته ناظراً الى وراءه حيث اكوام جثث الذين عاصرهم، قد سبقوه الى اللاعودة، يغضب مجدداً بصمته الذي لا يسمع سوى الانين الغير منقطع الذي يخرج من غرفة دار المسنين حيث رماه الدهر هناك. المدينة يسكنها الهدوء فلا وجود لفعاليات او لصخب يذكر، فمنطقة بركم سانت اكات في بروكسل تقبع على حافة العاصمة حيث يوجد الهدوء والمقبرة التي تقابل ذلك الدار حيثما غرفته المطلة عليها، قد حرم من غناء العصافير الصباحة، فلا يستطيع فتح ذلك الشباك الذي ظن يوما انه من الصعب عليه فتحه، فقد كان يحرص على غلقه وإسدال ستائره لكي تقيه ذلك الشتاء الذي يذكره دائما بهرمه وتمنع عنه رؤية تلك المقبرة اللعينة.
كان يحلم كثيرا بعودة الحياة مجداً بعد خروجه من زنزانة أسره في إيران، لكنه قد وجد نفسه مرة أُخرى بزنزانة هرمه وبدولة أُخرى، طلب إليها لجوءه هرباً من موت الذي مازال يكاد أن يفترسه بأي لحظة يضعف فيها أمامه، لكنه لم يعتد على الاستسلام، فحروب العراق قد جعلت منه محارباً بالفطرة حتى أمام شيخوخته.
سيعلن ذلك الهرم يوماً ما وبلحظة ما هزيمته أمام حياة لم يخترها ولم يكن له فيها أي دور وأي سبب بتغيير مجرياتها، سيذهب عن دون إرادة كما أتها، سيصرخ كيوم ولادته لاعناً كل من ساهم بهدم جدار سعادته ليصنعوا منه محارباً وأسيراً وشهيداً وعبداً وهرماً وجثةً.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1058 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع